البُعد الديني لزيارة بن سلمان لمصر... التنوير من بلاد التكفير

الأمر ليس بالبساطة التي نتصوّرها، فالفكر التكفيري لا يمكن أن يقتنع بين ليلة وضحاها بالتنوّع الديني والعِرقي، ولا يمكن أن يخرج من عباءة أفكار وفتاوى إبن تيميه وإبن عبد الوهاب، لمجرّد أن وليّ العهد يريد ذلك، فالوهّابيون خوارج العصر يستبيحون الدماء، ولكن الخوارج القدامى كانوا أكثر تعاطفاً من خوارج اليوم، لأن خوارج اليوم متحالفون دائماً مع الرأسمالية والصهيونية، على المستويين الفكري والمالي.

الأمير محمّد بن سلمان التقى في زيارته للقاهرة البابا تواضروس الثاني

تأتي زيارة وليّ العهد السعودي للقاهرة لمدة ثلاثة أيام من 4- 6 آذار/مارس 2018، في ظلّ التوتّر القائِم في المنطقة العربية، والهدف المُعلَن من الزيارة هو المباحثات بين الرئيس عبد الفتاح السيسي ووليّ العهد السعودي حول العلاقات الثنائية والشأن العربي الإسلامي بصورة عامة، خاصة وأن القمّة المصرية السعودية تأتي قبل انعقاد مؤتمر القمّة العربية في الرياض في آخر الشهر، وكلها أمور معروفة، ولا نهدف الكتابة عنها، ولكن نكتب عن بُعد الزيارة الديني، فالمعروف أن شرعية الحُكم في السعودية مستمَدة من المذهب الوهّابي، أي أنها دولة ثيوقراطية، والأمير الشاب يريد تغيير تلك المعادلة، بدأها في المملكة، ويريد التعبير عن رؤيته لدولة مدنية تستمد الشرعية من ملكية شبه شعبية (إن جاز التعبير).
الأمير محمّد بن سلمان التقى في زيارته للقاهرة البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكارازة المرقسية، وذلك في مقرّ الكاتدرائية الأرثوذكسية (أرثوذكس باللغة القبطية القديمة تعني المستقيم أو الصحيح)، وهي أول مرّة يزور فيها أعلى مسؤول سعودي لها، وأيضاً التقى بالإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر الدكتور أحمد الطيب في دار المشيخة، بالإضافة إلى حضوره عرض مسرحي وغيرها من الأمور التي يمنعها المذهب الوهّابي بالفتاوى التكفيرية، التي راجت في ديار العالم الإسلامي والعالم بأسره.
الوهّابيون يكفّرون الأزهر لأنه أشعريّ المذهب وأن كثيرين من عُلمائه من المتصوّفة، وهم يكفّرون التصوّف والتشيّع والليبرالية والاشتراكية، كل شيء لديهم مُحرَّم، كما يُحرِّمون بصورة قاطِعة مانِعة زيارة الكنائس، ويشتمون المسيحيين، ويُحرِّمون تهنئتهم بأعياد الميلاد والقيامة والغطاس، من هنا تأتي أبعاد زيارة الأمير السعودي.
في يوم الجمعة الماضي 2 آذار /مارس 2018، على سبيل المثال، قام خطيب الجمعة في أحد جوامع مدينة ينبع السعودية بشتم اليهود ونقد الأسرة السعودية، فما كان من الأمن إلا أن صعد المنبر وأنزلوا الرجل من فوق المنبر بطريقة مُهينة، وقد أصدر الأمن السعودي بياناً لاحقاً يقول فيه إن الرجل مُسنّ وغير عاقل، وأنه ليس الخطيب الرسمي للجامع، ولكن الأمور لها أبعاد سياسية أخرى، لأن وليّ العهد السعودي يقوم بعملية تنوير في مهد بلاد التكفير، فقد أنشأ هيئة الترفية، وسمح للنساء بحضور مباريات كرة القدم، وسمح بافتتاح دور السينما والمسرح وإباحة الموسيقى، وغيرها من الأمور التي حرَّمها شيوخ الوهّابية، وقالوا إن هذه الأمور أشدّ جُرماً من الزِني والقتل، ولكن المفتي السعودي عبد العزيز آل شيخ سبق الجميع وأصدر فتوى بتحليل موسيقى الجاز الغربية، واعتبر أن أكثر الأحاديث التي تُحرِّم الغناء والموسيقى ضعيفة، وبالتالي أباح الغناء، وهو أمر عادي في ظل ميراث الفتاوى السلطانية للملوك والخلفاء والأمراء والسلاطين، لكل قضية ثمن، ولكل مشكلة فتوى، وبالتالي نعتقد أن اليمين الديني الرأسمالي الغربي تمكّن من التصدّي للفكر الإرهابي من خلال أسرة مسلمة، رغم أن الغرب الأميركي الصهيوني يستغلّ الجماعات التكفيرية لخدمة أغراضه السياسية التفريقية للدول العربية والإسلامية.
وليّ العهد السعودي يقود ما يمكن اعتباره حركة تنوير من خلال ثلاثة طُرق متقاطِعة، الأول هو تقديم نفسه على أنه المؤسّس للدولة السعودية الرابعة، من خلال رؤيتة للسعودية 2030، الدولة التي لا تعتمد على النفط فقط، بل تعتمد على السياحة، مع العِلم أن السياحة الدينية للمسلمين من شتّى أصقاع الأرض، هي التي تنفق على الحرمين الشريفين في الحجاز المقدّس، ولكن هذا أمر آخر يحتاج إلى حديث مستقل، المهم يريد وليّ العهد أن يعطي صورة إيجابية عن نفسه للغرب الأوروبي الأميركي، فيتم تناسى قانون جاستا الأميركي، الذي يُعطي الحق لأُسَر قتلى أحداث أيلول/سبتمبر 2011، لمُقاضاة أمراء سعوديين متورّطين مُحتمَلين في الأحداث الدامية، أما الطريق الثاني، فهو تغيير الهوية السعودية بالشكل الذي يقف أمامه مشايخ السلفية الوهّابية عاجزين عن معارضته، ثم يأتي التراجُع عن فتاوى سابقة لكبار مشايخ السعودية، وأول مظاهر هدم هذه السيطرة الوهّابية هو الاتجاه المُتسارِع إلى إلغاء نظام الولاية على المرأة كما قلنا آنفاً، واتخاذ قرارات من شأنها إظهار أن السعودية تتجه إلى الإصلاح وهو ما سيكون له مردود على المستوى الدولي، أما الطريق الثالث، فهو قمع أية معارضة دينية لقرارات السلطة السعودية، وهي رسالة إلى الخارج بـتحرّر المملكة من الفكر الديني المتطرّف، وهو الفكر الذي تتبنّاه داعش وبوكو حرام والقاعدة وأخواتها.
ثم زاد الأمر عندما أعلن وزير الخارجية السعودي عادل الجبير إن السلطات السعودية فصلت عدّة آلاف من الأئمة من العمل في المساجد بعد ثبوت نشرهم التطرّف، وإنهم لن يسمحوا بنشر أيديولوجية الكراهية، ولا تمويل ذلك النوع من الفكر، وهو أمر محمود لو لم تتدخّل السلطة السياسية في استغلال الفتاوى للحرب ضد قوى المقاوِمة للعدو الصهيوني، وهو الأمر الخطير الذي نُحذّر منه، على كل حال، تأتي إذن زيارة وليّ العهد السعودي للكنيسة الرئيسية والأزهر الشريف، ربما يدعمه الأزهر بصورة أكثر تحرّرية، بالكُتب والأساتذة، لأن الأزهر يُدرِّس كل المذاهب، ولم تخرج فتوى تكفيرية واحدة من مشيخة الأزهر.
الأمر ليس بالبساطة التي نتصوّرها، فالفكر التكفيري لا يمكن أن يقتنع بين ليلة وضحاها بالتنوّع الديني والعِرقي، ولا يمكن أن يخرج من عباءة أفكار وفتاوى إبن تيميه وإبن عبد الوهاب، لمجرّد أن وليّ العهد يريد ذلك، فالوهّابيون خوارج العصر يستبيحون الدماء، ولكن الخوارج القدامى كانوا أكثر تعاطفاً من خوارج اليوم، لأن خوارج اليوم متحالفون دائماً مع الرأسمالية والصهيونية، على المستويين الفكري والمالي.