ماكرون يفشل في سوريا... وتركيا مُستفيدة

منذ وصول الرئيس إيمانويل ماكرون إلى سدّة الحُكم في بلاده، ارتفع مستوى التدخّلات الفرنسية في الشأن السوري. بدءاً من مشروع خطة إنشاء "مجموعة الاتصال" حول سوريا، مروراً باجتماعات "المجموعة الخماسية" وما تمخّض عنها من "اللاورقة" التي تشبه في مقرّراتها محاولة إعادة الانتداب الفرنسي، وصولاً إلى مشاركة فرنسا في العدوان الثلاثي على سوريا منتصف شهر نيسان المنصرم، وما تلاه من سعي باريس إلى تعزيز تواجدها العسكري في شرق سوريا.

جسّدت رحلة الذهاب والإياب لـ "وسام جوقة الشرف" بين دمشق وباريس مدى تدهور العلاقات السياسية والشخصية بين العاصمتين وقيادتيهما. العلاقات التي شهدت الكثير من محطات الهبوط والصعود بين عامي 2001 و2010 أخذت تتدهور بسرعة قياسية منذ بدء الأزمة السورية، وصولاً إلى التطوّرات الحافلة التي حملها معه العام 2018 وتضمّنت مؤشّرات هامة إلى مساعي باريس لتعميق دورها في سوريا وتحديد مستقبلها.

عاصمة "التنوير" التي وقفت ضد المُتمردين في مالي، غرب أفريقيا، وأرسلت عام 2013 آلاف الجنود من قواتها دعماً لحكومة لا تتوافر فيها أدني درجات الديمقراطية، في مواجهة مليشيات بعضها إسلامي وبعضها الآخر علماني، قرّرت في سوريا اتّخاذ موقف مُناقِض تماماً. حيث وقفت إلى جانب المُتمرّدين، بمن فيهم في بعض المراحل جماعات إسلامية مُتشدّدة، ضد حكومة دمشق الشرعية المُنتخَبة شعبياً. هذا التناقض الصارِخ في الموقف الفرنسي بين حالتين متماثلتين يدفعنا إلى التساؤل عن طبيعة السياسة الفرنسية في سوريا وحقيقة الأهداف التي تسعى إليها.

منذ وصول الرئيس إيمانويل ماكرون إلى سدّة الحُكم في بلاده، ارتفع مستوى التدخّلات الفرنسية في الشأن السوري. بدءاً من مشروع خطة إنشاء "مجموعة الاتصال" حول سوريا، مروراً باجتماعات "المجموعة الخماسية" وما تمخّض عنها من "اللاورقة" التي تشبه في مقرّراتها محاولة إعادة الانتداب الفرنسي، وصولاً إلى مشاركة فرنسا في العدوان الثلاثي على سوريا منتصف شهر نيسان المنصرم، وما تلاه من سعي باريس إلى تعزيز تواجدها العسكري في شرق سوريا.

هذه الخطوات التصعيدية من قِبَل الجانب الفرنسي، تركت الكثير من علامات الاستفهام حول مدى انسجامها أو تباينها مع محدّدات السياسة الفرنسية في سوريا التي أعلنها الرئيس الفرنسي في تموز الماضي وأهمها: "مكافحة الإرهاب" باعتباره هو العدو، و"استقرار سوريا" لأنه لا يريد دولة فاشلة، وأخيراً "إثبات قوّة فرنسا" لأنك عندما ترسم خطوطاً حمراء بخصوص استخدام السلاح الكيميائي ولا تحترمها، فأنت تقرّر أنك "ضعيف وهو ليس الخيار الذي أدافع عنه". أما البند الذي أحدث الكثير من البلبلة والجدال ودفع البعض إلى الحديث عن انعطافة فرنسية، فهو كلام ماكرون عن "عدم اشتراطه رحيل الأسد لحل الأزمة السورية مُبدياً استعداده للحديث مع الرئيس السوري شخصياً".

ولكي نفهم هذه التركيبة المُتناقِضة، نظرياً وعملياً، من المواقف الفرنسية، وهي بالمناسبة تتطابق مع تركيبة مواقف العديد من الدول الأخرى مثل الولايات المتحدة والسعودية، فعلينا – حسب اعتقادي- أن ندرك أن مواقف هذه الدول لم تتغيّر حتى ولو أعلن وليّ العهد السعودي محمّد بن سلمان إن "الأسد باقٍ" على سبيل المثال، لأنّ ما تغيّر حقيقةً هو نظرة هذه الدول إلى الأزمة السورية وطريقة توظيفها في إطار الصراع الاقليمي والدولي الأوسع الذي أصبح هو الهاجِس الفعلي الذي يُخيّم على قادة هذه الدول.

وبالتالي حتى لو ظلّت المواقف السياسية على صعيد "اللغة" تستخدم تعابير ومفاهيم الحرب السورية، فإن ما ينبغي الانتباه إليه هو حصول تغيير جذري في طبيعة الحمولة المعنوية لهذه التعابير والمفاهيم، بحيث أصبحت تنطوي على دلالات مُغايرة تتعلق أساساً بمواجهة إيران وروسيا وربما تركيا.

ومن هنا يمكن قراءة تصريحات الرئيس ماكرون في محاولته لثني الولايات المتحدة عن سحب قواتها من سوريا بالقول إن "الانسحاب سيؤدّي إلى سيطرة إيران على سوريا". وكذلك تصريحه إلى "فوكس نيوز" حول الدور السلبي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأنه "يجب أن يظهر الغرب موحّداً في مواجهته". فالحديث عن "سيطرة إيران" و"مواجهة روسيا" يتخطّى بأشواط مفاهيم "مُكافحة الإرهاب" و"استقرار سوريا"، هذا إذا لم يجعل منها مجرّد نقاط صغيرة لا تكاد تظهر على أجندة السياسة الفرنسية. ويُضاف إلى ذلك التوتّر الفرنسي التركي الذي وصل إلى حد تبادل التهديدات على خلفيّة الغزو التركي لعفرين وسعي باريس إلى منع توغّلها في منبج.

وإذا كان الرئيس الفرنسي قد أقرّ صراحةً بمساعيه لضرب إسفين بين أنقرة وموسكو والفصل بين الدولتين، في دلالة واضحة على البُعد الدولي لسياساته، فإن الإسفين الآخر قد يكون هو محاولة متكرّرة ويائسة لجسّ نبض القيادة السورية لمعرفة مدى استعدادها للابتعاد عن طهران. وربما هذا ما يُفسّر التصريحات الصادرة من بعض الدول حول بقاء الأسد وعدم اشتراط رحيله، وكأن هذه الدول بعدما أعياها إسقاط النظام قرّرت العودة إلى هدف تغيير سلوكه.

وقد انتهت بنود سياسة ماكرون في مُجملها إلى إخفاقٍ تام. فالعدوان الثلاثي شارف حدود الفضيحة العسكرية بعدما أخفق في تحقيق أهدافه ولم تترتّب عليه أية مفاعيل سياسية وازِنة. وأسافين الفصل والشقاق تكسّرت على صخرة ثبات مواقف القيادة السورية تجاه حلفائها. أما في الشرق السوري فقد تحرّك الجيش السوري وحلفاؤه لاستعادة بعض القرى من قوات "قسد" ، في رسالة واضحة لمن يعنيه الأمر أن المنطقة غير مستقرّة وبالتالي فإن نشر أية قوات جديدة فيها سيكون بمثابة مُغامَرة.

وفي السياق نفسه فإن التنسيق الروسي التركي بقي محافظاً على مستواه المعهود ولم يتأثر بمساعي ماكرون للفصل بين الدولتين. بل كان من اللافت أن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو شدّد عقب اجتماع موسكو لوزراء خارجية الدول الضامِنة الثلاث على ضرورة "مواجهة الأجندات الخارجية للآخرين"، في إشارة إلى مشاريع كل من الولايات المتحدة وفرنسا التي تستند أساساً إلى دعم "وحدات حماية الشعب الكردية" عدو أنقرة الرئيسي.

غير أن هذه السياسة الغربية عموماً والفرنسية خصوصاً الرامية إلى استعادة أنقرة إلى صفّها بعد أن بدأت بالدوران في الفلك الروسي، لا تخلو من سلبيات يمكن أن تنعكس على الملف السوري، وعلى رأس هذه السلبيات إحساس أنقرة بأهمية موقعها ، وبالتالي رفع سقف شروطها للاستمرار في تنفيذ اتفاقات أستانا ومواصلة التنسيق مع موسكو وطهران. وربما هذا ما بدا واضحاً في اجتماع موسكو الأخير عندما اشترطت أنقرة تحديد الجماعات الإرهابية التي ينبغي محاربتها في إدلب، لأن هذا الاشتراط يُعتَبر بمثابة الاعتراض التركي على تكرار سيناريو الغوطة في إدلب، وبالتالي يُعزّز من وجود أطماع تركية خاصة في تلك المحافظة. كما أن فتح الباب في الشرق السوري لمبادرات من نوع نَشْر قوات عربية هناك، قد يمنح أنقرة الذريعة لمحاولة إيجاد موطىء قدم لها في تلك المنطقة الغنية بالنفط والغاز.