في ذكرى وفاته ... ماذا تبقّى من نجيب محفوظ

في يوم 30 آب أغسطس من عام 2006، غيّب الموت الأديب والمفكّر المصري "نجيب محفوظ"، بعد أن ترك رصيداً رائعاً وهائلاً من الروايات، التي منحته جائزة نوبل للآداب عام 1988، فقد رحل بجسده، ولكن تظلّ أعماله، يختلف الناس والنّقّاد من حولها، ولكنها في النهاية تظلّ إرثاً يؤخذ منه، ويُردّ عليه، وكله في النهاية يخدم النقاش الهادىء في الفكر العربي بصورة عامة، واليوم في ذكرى وفاته، نتحدّث من بقيّة نجيب محفوظ الفكرية، من خلال النظرة السريعة على أعماله، فهو القائل في إحدى رواياته "آفة حارتنا النسيان"، ولكننا نحاول ألا تصيبنا هذه الآفة.

يبقى من نجيب محفوظ أن الوصول للعالمية يكون من خلال الاستغراق في المحلية، وقد فعل محفوظ، ونجح

كان نجيب سياسياً بارعاً في رواياته، ليبرالياً في فكره، صوفياً في نزعته الدينية، وذلك لأنه وُلِد في حيّ الجمالية في القاهرة، بالقرب من مرقد رأس الإمام الحسين، وبقية أهل البيت المدفونين في مصر، ولم يكن غريباً عليه أن يطلب الصلاة عليه بعد موته في مسجد الحسين، وأن يطوف النعش حول المسجد الحسيني، كما كانت ندوته اليومية في مقهى "الفيشاوي" بجوار نفس المشهد الحسيني، وفي رواياته دائماً ما تتردّد مقولة "أمّ العواجز"، أي التي تخدم العجزة والمساكين، في إشارة للسيّدة زينب، وتتردّد أيضا كلمة "سيّدنا الحسين" الذي "دعاني لبيته"، أي دعاني فلبيّت الدعاء سريعاً، باللهجة المصرية.

كل ذلك مفيد، ولكنه في النهاية شديد الواقعية في قصصه، منحاز لأحياء الفقراء والمهمشين، فجاءت أغلب رواياته تحمل أحياء القاهرة، مثل : - الثلاثية (بين القصرين – قصر الشوق – السكرية) – زقاق المدق – أفراح القبة – خان الخليلي، وغيرها، وكلها أسماء حقيقية لأحياء القاهرة الفاطمية على وجه الخصوص، وعندما ألّف روايات خيالية جاءت على نفس النهج الواقعي، صاحبتها رموز سياسية واجتماعية ودينية، فكانت ملحمة "الحرافيش" من أروع ما جادت به قريحة كتّاب العرب، والحرافيش(عوام الشعب) في عشرة أجزاء تحكي عشرة أجيال، أولهم "عاشور الناجي"، ربما هو آدم عليه السلام، فعاشور لا يعرف له أباً ولا أمّاً، ولكنه بفتوّته وقدرته تمكّن أن يكون "فتوّة حارة"، فتوّة شريف ينصف المظلوم، وتلجأ له الحكومة، ثم تعدّدت الفتوّة في نسله من بعده، تخرج منهم أحياناً ثم تعود إليهم، وجاءت كلها تؤكّد أن نجيب محفوظ ينتقد السلطات باللجوء إلى الرمزية وإسقاطها على الوضع المُعاصر، جاءت أجزاء الحرافيش وكلها صراعات داخل الحارة بين الفتوّة الأصيل من نسل "الناجي" وغيرهم من اللصوص، أجزاء الحرافيش تقول هذا وهي :- (شمس الناجي – سليمان الناجي – المطارد سماحة الناجي – قرة العين وحيد الناجي – شهد الملكة عزيز الناجي – جلال الناجي – الأشباح شمس الناجي – سارق النعمة سماحة الناجي – التوت والنّبوت عاشور الأخير)، وكلها روايات عن أجيال تمتد للعصر المملوكي أو العثماني، ولكنه خيال واقعي له رمزية أحدثت صداها عند القرّاء، ومثل قصصه الأخرى :- الشيطان يعظ – فتوات بولاق – ثرثرة فوق النيل، وغيرها من الروايات شديدة الرمزية، شديدة الواقعية في نفس الوقت، وهي روايات ذاع صيتها وانتشر، خاصة وأن معظم أعمال نجيب محفوظ تحوّلت لأفلام سينمائية أو لأعمال تلفزيونية درامية، فعرفه العامة والخاصة، المثقّف والجاهل سواء بسواء.


وتبقى رواية "أولاد حارتنا" أكثر الروايات إثارة للجدل، والتفكير ثم التكفير، ثم محاولة اغتياله، فرواية "أولاد حارتنا" تدور أحداثها الرمزية في إحدى حارات القاهرة أيضاً من دون أن يسمّيها، وبسببها تم تكفيره من الأزهريين والسلفيين على السواء، ونجيب محفوظ كان يتوقّع ردّ الفعل، عندما قال :"إن الرواية تتحدّث عن منظور إنساني كوني"، وهو شديد الرمزية الدينية، ولكنها اصطدمت بالرموز الدينية المقدّسة، فجاء إسم "أدهم" قريباً من "آدم"، و"أدهم" يختلف عن "عاشور الناجي" في "الحرافيش"، لأن "أدهم" طُرد من البيت الكبير، بإغراء من "إدريس" المتمرّد، وغيرها من أسماء وإسقاطات على الأنبياء وقصة خلق الكون، أما شخصية الجبلاوي، فقد رآها رجال الدين، أنها ترمز لشخص الإله، ورآها النقّاد أنه إسقاط على السلطة السياسية، ولكنها في النهاية رواية شديدة الخصوصية، شديدة الجذب والاختلاف والخلاف أيضاً، وهو ما نراه تبقّى من نجيب محفوظ، أن رؤيته الفكرية نابعة من التراث الشرقي المصري، بعيداً عن سلطات الحُكّام وأوهام المحكومين.
يبقى أن نقول إن نجيب محفوظ أخطأ خطأ عُمره، عندما ألّف رواية "الكرنك"، والتي نقدت وشمتت وشتمت في نظام الرئيس جمال عبد الناصر، ففيها أن النظام المُستبد لعبد الناصر، هو الذي أدّى لهزيمة حزيران|يونيو 1967، وهو خطأ، لأن أعظم روايات محفوظ الناقدة للسلطة السياسية، نّشرت وطُبعت، وأنتجت كأفلام في عصر الرئيس جمال عبد الناص، في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، مثل - الثلاثية، والتي انحاز فيها وبصورة مباشرة لثورة 1919 بزعامة "سعد زغلول"، كما بيّض وجه حزب "الوفد" وزعمائه مصطفى النحاس وسراج الدين، وحزب الوفد هو العدو اللدود لجمال عبد الناصر ورفاقه، ولكن الروايات الثلاث طُبعت وتحوّلت لأفلام برعاية الدولة الناصرية ذاتها، مثلها مثل روايات :- اللص والكلاب – ميرامار، وغيرهما، وهو الأمر الذي أدّى إلى القول إن نجيب محفوظ رضخ للسلطة السياسية برئاسة الرئيس أنور السادات، عندما تنتهي الرواية بما قيل عنها وقتها "ثورة التصحيح" يوم 15 أيار |مايو 1971، عندما دخل كل رجال عبد الناصر السجون، بتهمة تعذيب المُعتقلين في سجون عبد الناصر، وانفرد السادات بالحُكم، وقيل وقتها"ثورة تصحيح" نساها المصريون، بعد موت السادات مباشرة، ولكن نجيب محفوظ خدم بالفعل التيارات السلفية التي كانت بدأت تفد على مصر والمنطقة بأسرها.
نرى أن السلطة السياسية خطفت بعض رجال الفكر، تماماً مثلما خطفت الدين لخدمة السياسة، مثلما كتب الأستاذ "توفيق الحكيم" كتاب "عودة الوعي"، ثم الشاب وقتها "وحيد حامد" رواية "طائر الليل الحزين"، وكتب "مصطفى أمين" قصصه "لا – سنة أولى سجن، وغيرها من روايات تحوّل أغلبها لأفلام، نهشت في جسد وعصر وعقل وميراث جمال عبد الناصر، ولكنها في النهاية خدمت التيار الوهّابي الإخواني الذي غزا الدولة المصرية، منذ السبعينات من القرن الماضي وحتى اليوم، وقد أقرّ الرئيس أنور السادات في أواخر عصره بأنه كان مُخطئاً في حق الوطن عندما سمح للغزو السلفي بالتوغّل، ثم الانقلاب عليه وقتله، وبالتالي كان من المتوقّع، أن يحاول التكفيريون قتل أديب نوبل نجيب محفوظ، عندما ضربه أحدهم بسكين في رقبته، يوم 14 تشرين الأول|أكتوبر عام 1995، ولكنه نجا، وتسامح مع مَن حاول قتله.
يبقى من نجيب محفوظ أن الوصول للعالمية يكون من خلال الاستغراق في المحلية، وقد فعل محفوظ، ونجح، وصار أيقونه لمن يأتي من بعده، وهم كثيرون، نرى أغلبهم بعيدين عن دوائر السلطات، فعل بعضهم أشياء، ولكن الآخرين لابد أن يفعلوا شيئاً مثلما فعل نجيب محفوظ..