بعد زلزال السودان الغربة في الوطن: داء عربي

تُعدّ مشاركة الشباب في الحياة السياسية في الوطن العربى أمراً ضرورياً ولأنه كذلك، خاصة بعد تجربة ما سُمّي بثورات الربيع العربي ؛ فإن من المهم أن ندرس هنا الأسباب التي تدفع الشباب إلى الابتعاد عنها ، والتي يأتي الشعور بعدم جدواها على رأس تلك الأسباب ، ومن هنا يأتي دور المؤسّسات التعليمية والإعلامية والحزبية في تشجيع الشباب على المشاركة السياسية.

في أقل من ثلاثة أيام أتى إلى السودان ثلاثة رؤساء (جنرالات )؛ البشير _ بن عوف _ عبدالفتاح الهمام، من الجيش المُنهَك والذي أستغرب كثيراً وصف بعض التعليقات الأخيرة له بأنه أقوى قوّة في السودان ، رغم أن السودان ذاته بسبب من ديكتاتوره السابق (البشير) ، صار مُمزّقاً وشبه دولة . إن العبرة التي نريد أن نستقيها من زلزال السودان هي أن غياب الديمقراطية والمشاركة السياسية ؛ هي التي أنتجت هذا التمزّق وذلك الغضب الشعبي وتلك الانقلابات ، سارِقة الثورات ليس في السودان وحده بل في غالب بلادنا العربية ، المُبتلاة بالاستبداد والفساد . إن حديثنا اليوم لن يكون عن السودان وحده ، بل عن ذلك الوطن العربي الذي أضحى كله ، سوداناً ، يحكمه القَهْر وغياب الديمقراطية ، إلى الحد الذي جعل غالبية شعوبنا العربية تعيش في أوطانها ولا تعيش ، أي أنها تشعر وبعُمق بالغربة في الوطن ذاته ، تُرى لماذا يشعرون بذلك؟ لماذا يملأ نفوسهم – وبخاصة قطاعات الشباب منهم– هذا الشعور بالمرارة من الواقع العربي ؟ ولماذا يكرهون الأنظمة الحاكِمة ويحمّلونها كل أوزار الحياة وهمومها ؟ هل هي العدالة الاجتماعية المفقودة ؟هل هو الإرهاب المُلتَحِف بالفساد وبأنظمة الاستبداد ؟ هل غياب الديمقراطية والحريات العامة الفعلية في صناعة واتّخاذ وتنفيذ القرار السياسي والثقافي هو السبب ؟ أسئلة نجد إجابة لها في ما يُسمّى بأزمة المشاركة السياسية ، فماذا عنها عربياً ؟
تُعدّ مشاركة الشباب في الحياة السياسية في الوطن العربى أمراً ضرورياً ولأنه كذلك، خاصة بعد تجربة ما سُمّي بثورات الربيع العربي ؛ فإن من المهم أن ندرس هنا الأسباب التي تدفع الشباب إلى الابتعاد عنها ، والتي يأتي الشعور بعدم جدواها على رأس تلك الأسباب ، ومن هنا يأتي دور المؤسّسات التعليمية والإعلامية والحزبية في تشجيع الشباب على المشاركة السياسية ، من خلال إتاحة الفرصة أمامهم للتعبير الحرّ الصريح عمّا يعتقدونه ومن خلال فتح الأبواب أمامهم وعدم إغلاقها بحجّة أنهم لايزالون شباباً صغيري السن ، ومن خلال تقديم النموذج والقدوة أمام الشباب ، والعمل على تشجيعهم بالقول والسلوك القويم ، وذلك لأن المشاركة السياسية والشعبية لها آثار إيجابية على الفرد والمجتمع وعلى المستقبل السياسي لهذا الوطن العربي المُبتلى بحُكّامه ونُخَبِه ، والتي ستستطيع ساعتها تلك الأنظمة مقاومة التهديدات الخارجية والداخلية بفاعلية وقوّة، خاصة بعد ما سُمّي زيفاً بثورات الربيع العربي التي امتدت آثاره السلبية من (2011-2019) .
إن الشباب في عالمنا العربي ينسحب من المشاركة السياسية والشعبية لأنه لا يجد مَن يُشجّعه من ناحية ولا يجد من يُعلّمه أصلاً مفهوم المشاركة وأهميته ومعناه من ناحية أخرى . ولهذا السبب الأخير المهم فإننا نركِّز على تحليل هذا المفهوم وإبرازه ، والذي يعني في تقديرنا خمسة عناصر :
1- احترام التعدّدية ، وبخاصة التعدّدية الاجتماعية الناجِمة عن تعدّد أشكال ملكية وسائل الإنتاج ، وكذلك التعدّدية السياسية والنقابية والثقافية.
2- قيام مجتمع مدني قوي يتكوّن من منظمات مُستقلّة لمختلف فئات المجتمع كالمنظمات السياسية والنقابية والثقافية والاجتماعية.
3- تأمين حد أدنى من الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية.
4- إشاعة ثقافة ديمقراطية ، وقيام نظام إعلامي ديمقراطي حر يكفل حرية تدفّق المعلومات والآراء على المواطنين من دون قيود.
5- إقامة المؤسّسات الدستورية التي تنظّم المُمارسة الديمقراطية.
يتّضح من هذا التعريف لمفهوم الديمقراطية ومقوّماتها الأساسية الدور المركزي للمُشاركة الشعبية في هذه العملية ، وإذا كانت هذه المُشاركة تتضمّن قيام المواطنين بأدوار في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، فإن المشاركة السياسية هي أهم تلك الأدوار وهي التي تتوقّف عليها إمكانية قيام المواطنين بدورهم في المجالات الأخرى.
كما يتّضح أن الانتخابات البرلمانية والمحلية هي الحلقة الرئيسة في المشاركة السياسية لأنها الإطار الذي يتمّ من خلاله تحقيق الهدف من الممارسة الديمقراطية ، وهي التداول السلمي للسلطة بين مختلف القوى الاجتماعية والسياسية والذي من دونه تفقد الديمقراطية كصيغةٍ سلميةٍ لإدارة الخلاف وممارسة الصراع كل قيمة لها . أما عن مفهوم المشاركة السياسية فهي بالأساس تعني عملية اجتماعية سياسية طوعية أو رسمية ، تتضمّن سلوكاً منظّماً مشروعاً ومتواصلاً لممارسة قِيَم الحرية والعدالة ، والمشاركة السياسية تُعدّ أيضاً بمثابة دور يقوم به المواطن بشكل فردي أو جماعي في مجال تشكيل أجهزة الحُكم وصنع السياسات العامة والأهداف الأساسية للمجتمع وتحديد أولوياتها.
وهي بهذا الأداء تُعدّ مؤشّراً قوي الدلالة على مدى تطوّر ، أو تخلّف المجتمع ونظامه السياسي وما يعنيه ذلك من ارتباط وثيق بينها وبين جهود التنمية بصفة عامة والتنمية السياسية على وجه التحديد. وللأسف هذا المفهوم بكل أركانه السابقة لم يُطبَّق عربياً ولذلك انصرف الجميع عنه ، وبخاصة فئة الشباب في أغلب البلدان العربية.
وهنا يمكننا أيضاً أن نؤكّد أن من أسباب انصراف الشباب العربي عن الحياة السياسية والمشاركة الشعبية يعود في جزء رئيسي منه إلى عوامل سياسية واقتصادية ، منها احتكار الأنظمة لكل مصادر الثروة والسلطة والنفوذ وعدم السماح لغيرها بالدخول في تلك اللعبة الديمقراطية ، ما يؤدّي إلى إنصراف العديد من فئات المجتمع عن المُشاركة السياسية وبخاصةٍ فئة الشباب بل ولجوء قطاعات منهم إلى خيارات العنف والإرهاب . خلاصة الأمر في تقديرنا أن الاستبداد مُتجدّد الأشكال اليوم في عالمنا العربي رغم زلزال سنوات ما سُمّي بالربيع العربي (2011-2019) هو أصل الداء ، ولا يمكن أن تنجح المُشاركة السياسية ويعود المواطن إلى وطنه ولا يشعر بالغربة وهو فيه إلا بهدم أصنام الاستبداد التي يرزح تحت سُلطانها ، في هذا الوطن العربي المُبتلى منذ ما لا يقلّ عن نصف قرن من الزمان، وما جرى قبل أيام في السودان الجريح والمُمزّق ، خير مثال على ذلك ، فهل يأخذ باقي المُستبدّين العرب ، العِبرة ويتعلّمون ثم يتغيّرون قبل فوات الأوان ؟سؤال برسم المستقبل . والله أعلم .