الاستدارة التركية ناحية مصر.. الدوافع والمخاطر

التردد المصري في تطبيع العلاقات مع أنقرة يرجع في أحد أسبابه إلى فقدان الثقة بالنظام التركي.

  • الدبلوماسية التركية المراوغة نقيضة لمدرسة الدبلوماسية المصرية.
    الدبلوماسية التركية المراوغة نقيضة لمدرسة الدبلوماسية المصرية.

في إثر نجاح حركة 30 حزيران/يونيو 2013 في إسقاط نظام جماعة الإخوان المسلمين، استشاط نظام رجب طيب إردوغان غضباً، فقد أدرك أن أطماعه في إحياء "العثمانية الجديدة" انطلاقاً من أرض الكنانة تكسَّرت على صخرة شعب المحروسة، فانفضح عمق عدائه للجيش المصري وقيادته، وأطلق سيلاً من التصريحات التي تهدّد وتتوعّد قائده آنذاك، الفريق عبد الفتاح السيسي، وصعّد حملته العدائية عقب وصول السيسي إلى سدة الرئاسة، بعد حصوله على أغلبية الأصوات في الانتخابات الرئاسية المصرية في العام 2014.

ولم يدّخر إردوغان فرصة للهجوم على الرئيس المصري واعتباره غير شرعي، لكونه – طبقاً لادعائه – وصل إلى سدة الحكم عبر انقلاب، ووصل العداء إلى حد الصياح من منبر الأمم المتحدة في العام 2014، مستهجناً ما اعتبره "منح الأمم المتحدة الشرعية لشخص مسؤول عن انقلاب غير شرعي"، قاصداً الرئيس عبد الفتاح السيسي.

كانت تصريحاته المستفزة، والخارجة عن كلّ الأعراف الدبلوماسية، تُقابَل بتجاهل من الرئيس المصري، ويقتصر الأمر أحياناً على تصريحات لوزير الخارجية المصري، تؤكد أنَّ مصر لن تنزلق إلى هذا المستوى المتدني من الحوار.

لقد استقرّ حكم 30 يونيو في مصر، بعد خوضه صراعاً دامياً مع الجماعات الإرهابية، لينحسر هذا الصراع فيما بعد في منطقة محدودة تقع في شمال سيناء، على مقربة من الحدود مع قطاع غزة، ويمكن اعتباره حالياً في حالة احتضار.

وقد نجحت القيادة السياسية المصرية في فرض حضور قوي في الساحة الليبية، باعتبارها تقع ضمن المجال الحيوي للأمن القومي المصري، وشكَّل ملف غاز شرق المتوسط أحد مكامن القوة لدى القاهرة، في مواجهة أنقرة التي نقلها إردوغان من صفر مشاكل إلى صفر أصدقاء!

وترافق ذلك مع تراجع معدل التنمية في تركيا وارتفاع التضخم، إلى جانب معضلات أخرى أدخلت البلاد في أزمة استوجبت مراجعات للسياسات التركية. وفي هذا الإطار، اندفعت أنقرة إلى الاستدارة ناحية القاهرة والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، ونجحت مساعيها مع كل من أبو ظبي والرياض، وتُوِّجت بزيارة إردوغان للبلدين، وبقيت القاهرة التي ربطت تطبيع العلاقات بعدد من الشروط، منها عدم تدخل تركيا في الشأن الداخلي العربي، وسحب قواتها ومرتزقتها من كل من سوريا وليبيا، وتسليم قيادات جماعة الإخوان المقيمين في تركيا تحت رعاية السلطات التركية، وإغلاق المنابر المعادية للدولة المصرية، والتي تبثّ من تركيا.

انطلقت محادثات استكشافية بين البلدين على مستوى مساعدين لوزيري الخارجية، واستمرّت بضعة أشهر، وكانت تعقد بالتناوب بين القاهرة وأنقرة. وقد تزامنت المحادثات مع تصريحات للمسؤولين الأتراك، كشفت عن عجلة بالرغبة في تطوير الحوار، توطئةً لتطبيع العلاقات بين البلدين. في الجانب المصري، اتسم الموقف بالتريث، انتظاراً لقيام أنقرة بتنفيذ الشروط، كبادرة حسن نية تجاه القاهرة.

وفي الأول من أيار/مايو الجاري، أعلن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان "إمكانية (تطوير الحوار) و(تطبيع العلاقات) مع مصر، على غرار الخطوات التي اتخذتها بلاده مع إسرائيل ودول أخرى في المنطقة"، مبرزاً أن "الحوار مع مصر قد يتطور إلى أعلى المستويات".

بموازاة ذلك، أعلنت إحدى القنوات الفضائية التابعة لجماعة الإخوان، والتي تبث من إسطنبول، وقف بثها نهائياً من تركيا، وإغلاق استوديوهاتها، بعد 8 أعوام من البث التحريضي على الدولة المصرية.

والتريث، بل ربما التردّد المصري، يرجع في أحد أسبابه إلى فقدان الثقة بالنظام التركي، فكثيراً ما كان ينقلب على مواقفه من النقيض إلى النقيض. ولعلنا نذكر في ذلك كيف كانت العلاقات الاقتصادية بين تركيا وكل من ليبيا وسوريا في ذروتها، وكذلك كانت العلاقات مع القيادتين السياسيتين في ليبيا وسوريا في أوجها، ولكن سريعاً ما انقلب إردوغان عليهما، عندما توهم أنَّ الحلم بإعادة المشروع العثماني في سبيله إلى التحقق، ما يعني أن الحلم العثماني يقع في مقدمة أولوياته.

إنّ تاريخ العلاقات المصرية والتركية في العصر الحديث يغلب عليه طابع الصراع بين نقيضين، ويرجعه المفكر الراحل والمؤرخ الجغرافي جمال حمدان إلى عوامل التشابه الخاصة بين تركيا ومصر، من زاوية موقعيهما الجيو-استراتيجي، فتركيا تمثل الجسر بين آسيا وأوروبا، مثلما تمثل مصر جسراً بين آسيا وأفريقيا. أضِف إلى ذلك التناظر القريب في حجم السكان، كما أنَّ تركيا تمدَّدت في أوروبا إلى فيينا، ووصلت مصرُ إلى البحيرات في أفريقيا.

ولكنّ حمدان يستدرك أنَّ هذا التشابه مضلّل، لأنه سطحي وجزئي، فهو، ربما، لا يعبّر إلا عن أن تركيا تشكل نقيضاً تاريخياً وحضارياً لمصر. وقد جاءت من الاستبس كقوة شيطانية مترحِّلة، واتخذت الأناضول وطناً بالتبني، وهي بلا حضارة، بل كانت حضارتها طفيلية خلاسية، استعارت حتى كتابتها من العرب.

ويكشف حمدان أنها تمثل قمة الضياع الحضاري والجغرافي، فقد غيَّرت جلدها وكيانها أكثر من مرة، واستعارت الشكل العربي، ثم بدَّلته بالشكل اللاتيني، ونبذت المظهر الحضاري الآسيوي، وادعت الوجهة الأوروبية. إنها، ومن دون تحامل، الدولة التي تذكِّر بالغراب الذي يقلِّد مشية الطاووس، وهي في كل ذلك النقيض المباشر لمصر ذات التاريخ العريق والأصالة الذاتية والحضارة الانبثاقية.

هذا الوعي بتعقيدات العلاقة التاريخية بين البلدين يجعلنا نظنّ أنَّ تطبيع العلاقات بين القاهرة وأنقرة لن يكون على غرار ما تمّ مع أبو ظبي والرياض، لكننا نتوقع وقف الخطاب العدائي بين البلدين وعودةً خجولة للعلاقات الاقتصادية والسياسية ضمن سقف معين، إدراكاً من القيادة السياسية في مصر بأنَّ استدارة إردوغان تجاهها تأتي نتيجة للمأزق الذي يعيشه، فيما مشروعه لإحياء العثمانية الجديدة، عبر أدواته من جماعات الإسلام السياسي، ما زال قائماً ينتظر الفرصة المواتية، وهذا ما يفسّر سر تعاطي مصر الحذِر مع دعوات إردوغان المتكررة لتطبيع العلاقات بين مصر وتركيا.

وإذا نظرنا إلى حجم الدعاية الوثائقية والدراما التركية والإنتاج الضخم للمسلسلات التاريخية، فسوف نكتشف أنَّ إردوغان يؤسِّس لثقافة شعبية تمهّد لاستعادة العثمانية في الوقت المناسب.

إنَّ إردوغان يتلاعب بتفاهم الدبلوماسية والدعاية، فهو يندفع في علاقات شخصية وحميمة مع هذه الدولة أو تلك، وبالاندفاع نفسه يكون العداء، وهكذا في علاقاته مع روسيا وأميركا وحلف الناتو.

هذه اللعبة السياسية أجادها عبر سنوات طويلة، حتى مع معلميه تورجت أوزال الأتاتوركي ونجم الدين أربكان الإسلامي، وصولاً إلى رفاق دربه، أمثال أحمد داوود أوغلو، وأخيراً المنفي في أميركا فتح الله غولن.

وإذا كانت هذه الدبلوماسية المتلاعبة نقيضة لمدرسة الدبلوماسية المصرية، فإنَّ الأخيرة تتمتع بخبرة الصبر الاستراتيجي في العلاقات بين الدول، وتحديداً حين يكون الطرف الآخر مؤمناً بأن الدبلوماسية هي مجرد وسيلة لتفادي العواصف، بالالتفاف عبر انحناء الرأس المؤقت، ثم العودة فوراً إلى المشروع العثماني الأساسي، وهو مشروع ثمين، دفعت فيه قوى دولية كثيراً من عصارة الفكر والتفكير.