الجولانيّ يهرب باتّجاه الجبهات: حصارٌ بين النار والغضب

لكي يستحوذ الجولاني على الأنظار، ويحرف الاهتمام عن الاحتجاجات المتواصلة في إدلب، فقد عمدت وسائل الدعاية لديه إلى نشر مواد استعراضية مرئية تُظهِر مقاتليه وهم ذاهبون إلى الميدان بكامل عدتهم وعتادهم، مع لقطات مأخوذة أثناء المعارك.

  • هل قررت أنقرة إضعاف الجولاني؟
    هل قررت أنقرة إضعاف الجولاني؟

مع استمرار التظاهرات والاحتجاجات للأسبوع الثاني على التوالي، واتساع رقعتها لتشمل أكثر من 20 بلدة وقرية في إدلب وريفها، وكذلك في بعض مناطق وقرى ريف حلب الغربيّ، وتصاعد المطالب بإسقاط قائد "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً)، أبو محمّد الجولانيّ، بدأ الأخير بالتحرّك على الأرض في محاولةٍ منه لاحتواء الموقف ومنع تدحرج الأمور وخروجها عن سيطرته. 

وقد جاءت حركته على اتّجاهين متوازيين، فمن جهة، بدأ الجولانيّ باستقبال بعض الفعاليات الاجتماعية النافذة في إدلب وجوارها، وعدد من ممثّلي "الحراك"، ليعدهم بتنفيذ بعض مطالبهم المتعلقة بالإفراج عن المعتقلين المتّهمين بالتخابر و"العمالة" للحكومة السورية وروسيا وحزب الله، وما يُسمّى بـ "التحالف الدوليّ" الذي تقوده الولايات المتحدة، ومحاسبة المحقّقين الذين ثبت قيامهم بتعذيب المعتقلين، وتشكيل لجان للتواصل مع الناس والاستماع إلى مطالبهم وتدارس الحلول معهم، كما ادّعت وسائط "الهيئة".

كما وعد الجولانيّ بإقرار عفو عامّ عن السجناء (تفيد المعلومات بوجود أكثر من خمسة آلاف معتقل في سجون الجولانيّ)، وتخفيض أسعار مواد البناء ودراسة ملف الضرائب. وقد باشرت "الهيئة القضائية" التابعة له باتّخاذ بعض الإجراءات الشكليّة التي تتعلّق بتلك الملفات. 

وعلى هذا الصعيد، جاء لافتاً إعلان "الهيئة القضائية" للتنظيم المتطرّف، إطلاق سراح القيادي العراقي التكفيريّ البارز، ميسّر الجبوري (أبي ماريّا القحطاني)، بعد ثلاثة أشهر من اعتقاله بتهمة العمالة والتواصل مع "جهات معادية" والتخطيط معها للقيام بانقلاب على الجولانيّ. 

وادّعى بيان الهيئة أنّ إطلاق سراح الجبوريّ، جاء بعد الانتهاء من التحقيق الذي أفضى إلى عدم وجود أدلّة دامغة على التهم الموجّهة إليه.

واللافت هنا، أنّ الجبوري كان يُعتبر، حتى قبل اعتقاله بلحظات، الرجل الثاني في التنظيم المتطرف، وكان كثيرون (ومنهم الجولاني نفسه كما اتّضح) يعتبرون أنّ الجبوري هو الرجل الأقدر على تشكيل الخطر على زعامة الجولانيّ.

 ويرى هؤلاء أنّ اعتقاله كان محاولة من الأخير للتخلّص منه، وقد تمّ له ذلك بالفعل، فعلى الرغم من إطلاق سراحه وإعلان "براءته" من التهم الموجّهة إليه، إلّا أنّ الجبوري بات مجرّداً من كلّ أدوات القوة والنفوذ التي كان يتمتع بها داخل الهيئة، وذلك بعد إذلاله في السجن، وتفكيك الخلايا التي كانت تتبع له وتواليه بشكل مباشر، وتشتيت أعوانه وإضعافهم وزجّ بعضهم في السجون. 

وبالتوازي مع هذه الخطوات التي أراد منها رجل "القاعدة" السابق، امتصاص غضب الناس واستيعاب الموقف المتصاعد ضده، دفع الجولانيّ بأعداد كبيرة من مجموعاته التكفيرية المسلّحة باتّجاه الجبهات مع الجيش العربي السوريّ، وخصوصاً في أرياف اللاذقية وحلب وحماه. 

فبعد هجوم كبير شنّته تلك الجماعات على محاور القتال في ريف اللاذقية الأسبوع الماضي، تكبّدت من جرّائه خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، عمد الجولاني إلى الدفع بأعدادٍ كبيرة من المقاتلين على الجبهات في محاور ريف حماه الشمالي الغربيّ، وريف إدلب الجنوبي، وريف حلب الغربيّ، وذلك منذ بعد ظهر يوم الخميس الفائت، 7 آذار/مارس، ليخوض الجيش العربي السوري ولواء القدس الرديف على مدى اليومين الماضيين، معارك ضارية وشرسة جدّاً، لم ينتهِ بعضها حتى اللحظة، وخصوصاً تلك الجارية على محور "الدانا" في ريف حماه الشمالي الغربيّ، وفي الريف الحلبيّ. 

ولكي يستحوذ الجولاني على الأنظار، ويحرف الاهتمام عن الاحتجاجات المتواصلة في إدلب وقراها وبلداتها، فقد عمدت وسائل الدعاية لديه إلى نشر مواد استعراضية مرئية تُظهِر مقاتليه وهم ذاهبون إلى الميدان بكامل عدتهم وعتادهم، مع لقطات مأخوذة أثناء المعارك، والحديث عن انتصارات وهميّة تحقّقها تلك الجماعات، لكنّ الحقيقة، وبحسب معلومات ميدانية مؤكّدة، فإنّ مئات القتلى والجرحى قد سقطوا على محورَي "الدانا"، ومحور "بسرطون" في ريف حلب الغربيّ. 

وقد أكّدت تلك المصادر سقوط أكثر من 60 قتيلاً في معركة "بسرطون" وحدها، غالبيّتهم العظمى من التكفيريين الآسيويين، وخصوصاً من الألبان والأوزبك والشيشان. وقد استخدمت الجماعات الإرهابية، والتي تكوّنت على وجه الخصوص من مقاتلي "لواء عبد الرحمن بن عوف" و"الحزب التركستانيّ" ولواء "أبو عبيدة بن الجرّاح"، ومقاتلي "هيئة تحرير الشام" بالطبع، مختلف أنواع الأسلحة المدفعية والصاروخية، وصولاً إلى الطائرات المسيّرة الانتحارية والحاملة للقذائف.

 ولم يكتفِ الجيش العربيّ السوريّ بالتصدّي الفاعل والقويّ لتلك الهجمات، بل بادر إلى شنّ هجمات صاروخية على مختلف مواقع الجماعات الإرهابية في أرياف حلب وإدلب وحماه واللاذقية، وكان سلاح المسيّرات، الذي بدأ الجيش باستخدامه بكثافةٍ في الآونة الأخيرة، فاعلاً جدّاً ومؤثّراً في الميدان، إذ استطاعت القوات المسلحة من خلال المسيّرات، استهداف عشرات القادة الميدانيين في مختلف الفصائل والألوية والجماعات المقاتلة، وقد اعترف إعلام الفصائل بتلك الخسائر من خلال مواد مرئية تُظهر عربات القادة وقد احترقت تماماً، مع نشر أسماء بعض القادة الميدانيين الذي قتلوا من جرّاء تلك الهجمات. 

الواقع أنّه، وعلى الرغم من اشتعال الجبهات واشتداد المعارك على جميع المحاور في الأيام الأخيرة، إلّا أنّ تغييراً في خارطة السيطرة الميدانية، لم يحدث، لكنّ الجيش العربي السوري لم يوقف ضرباته على مواقع التنظيمات الإرهابية، واستهدافاته لقياداتها ومخازن أسلحتها وحصونها، وتلك وتيرة آخذة بالتصاعد يوماً بعد يوم منذ أشهر (منذ الهجوم الإرهابي على قمة "النبي يونس" قبل خمسة أشهر)، لكنها بلغت ذروتها في الأيام الثلاثة الأخيرة. 

ووفقاً لسير الأحداث، فمن الواضح أنّ الجولاني يخسر على الاتّجاهين، فوعوده الأمنية والسياسية والاقتصادية، لا تأتي بنتيجة في الشارع المنتفض ضدّه، خصوصاً بعد أنْ وجدت عناصره الأمنية أن لا مفرّ من استخدام السلاح الحيّ فوق رؤوس المتظاهرين في إدلب. 

وذلك بعد اتساع رقعة الاحتجاجات، لتشمل مدينة إدلب وبلدات "بنّش" و"تفتناز" و"أطمة" و"طعوم" و"الفوعة" و"دارة عزّة" و"الأتارب" و"سرمدا" و"حزانو"، وتبلغ، لأول مرة، بلدات جديدة مثل "جسر الشغور" و"معرّة مصرين"، وإعلان بعض مقاتلي الفصائل تضامنهم مع المتظاهرين، ورفعهم لافتات تدعو إلى تحقيق مطالب المنتفضين فوراً، وعلى رأسها رحيل الجولاني، وتبييض السجون وتشكيل "مجلس شورى" منتخب. 

وهذا كلّه يشير إلى أنّ وجهة الأحداث آخذة بالتصاعد والتوسّع على هذا المستوى، ولن يكون أمام الجولاني وأجهزته الأمنية سوى التصعيد بالمقابل، والتعامل بقوة وبطش مع المتظاهرين، الأمر الذي بدأت بوادره بالظهور في الأيام الأخيرة، وذلك من خلال مواد مرئية تُظهر رجال أمن التنظيم وهو يتعاملون بالقوة والعنف الشديدين مع تظاهرات نسائية في بعض البلدات. 

والجدير ذكره هنا، والأمر الذي يحمل دلالات ومؤشّرات على مأزق الجولانيّ، هو عدم تدخّل أنقرة وأجهزتها الاستخبارية لصالح التهدئة أو احتواء الوضع حتى اللحظة.

وهنا، يرى العديد من الناشطين والمراقبين في الشمال، أنّ أنقرة قرّرت إضعاف الجولاني خصوصاً، وكذلك عموم القيادات والفصائل المتطرفة في الشمال، ذلك لأنها ترى أن لا مستقبل لتلك الفصائل في أيّ تسوية مقبلة. 

ويرى هؤلاء أنّ ما يحصل هو أحد مُخرجات اجتماع "أستانة" الأخير، وهو تحليل قريب إلى الواقع، ذلك لأنّ حكومة إردوغان التي تريد أنْ تضمن لنفسها نفوذاً في منطقة الشمال، وجدت أنّ أي حلّ أو تسوية لن تحدث بوجود تلك الجماعات، ليس فقط لأنّ سوريا وروسيا وإيران لن تقبل بالإبقاء على تلك الجماعات، بل لأنّ  من المرجّح أنْ ينقلب التكفيريون عليها عند التوصل إلى أيّ تسوية، وهي ترى أنّ المرحلة المقبلة تقتضي الاعتماد على أدوات أكثر مرونة في العمل السياسيّ، وعلى رأسهم الأداة التركية الرئيسية في الشمال (الإخوان المسلمون). 

وهو ما باشرت أنقرة بتكريسه والعمل عليه بالفعل في الآونة الأخيرة، وذلك من خلال خطّة إعادة هيكلة "الجيش الوطني" الذي شكّلته ودرّبته وترعاه، ودعم المؤسسات التي تتبع لـ "الحكومة المؤقتة" التي تأتمر بأمر السلطات التركية، والتي بدأ العديد من منسوبيها وموظفيها بالإعلان عن دعم الحراك ضد الجولاني، والدعوة إلى التخلّص منه. 

أمّا فشل الجولاني الآخر، فيتمثّل في الواقع العسكري الميداني الذي حاول الهروب إليه وتحقيق بعض الإنجازات التي قد تقوّي من موقعه كـ "قائد ومجاهد" في نظر الشرائح المتطرفة وتلك المعادية للدولة السورية. فالواقع أنّ الجولاني قد فتح عليه أبواب الجحيم، فقد أدّت استعراضاته واعتداءاته الأخيرة على مواقع الجيش العربي السوريّ، إلى تصعيدِ عسكريّ كبير من قبل القوات المسلحة السورية، وإلى تكثيف الهجمات والاستهدافات المركّزة والمؤثّرة بشكل كبير على مواقعه وقياداته. 

وهو تصعيدٌ سوف يتدحرج ويتوسّع أكثر في الأيام والأسابيع المقبلة بحسب المصادر وبناءً على الواقع الميداني. وسيجد الجولانيّ نفسه محاصراً بين مطرقة الضربات العسكرية السورية، وسندان الاحتجاجات التي لا مؤشّرات أبداً على تخفيض حدّتها، وسيجد نفسه بين احتمالين: إمّا أنْ ينتحر أكثر باتّجاه الجبهات، أو أنْ تجد له أنقرة حلّاً يُفضي إلى إضعافه وقصّ أجنحته ووضعه في زاوية محاصرة.

 لكن بالتأكيد، لن تقوم أنقرة بالتخلّص منه، أو من الفصائل التكفيرية الأخرى، بشكل نهائيّ في هذه الفترة، فالمرحلة بالنسبة لها، هي مرحلة احتواءٍ وترتيب وتخطيط وسيطرة على الوحوش التي ربّتها وأطعمتها وأفلتتها في أرجاء الوطن السوريّ، على أمل إعادتها بهدوء إلى الحظائر، وحصاد نتائج خرابها في ميادين السياسة والنفوذ الاجتماعي والاقتصاديّ والأمنيّ.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.