تغيّر المناخ وانعكاسه على الصراعات في الشرق الأوسط (1-2)

تنشأ عن تغيّر المناخ تحديات تجعل المسألة أقرب إلى الأمن القومي في كل دولة، لكن في الشرق الأوسط المسألة لها بعد شديد الخطورة أقرب إلى التهديد الوجودي.

  • الدول الكبرى التي تتنافس على ريادة العالم تولي اهتماماً ملحوظاً لهذه المسألة، ليس من باب الاستعداد فقط، بل من زاوية الأمن القومي أيضاً.
    الدول الكبرى التي تتنافس على ريادة العالم تولي اهتماماً ملحوظاً لهذه المسألة، ليس من باب الاستعداد فقط، بل من زاوية الأمن القومي أيضاً.

لم يعد تغيّر المناخ يقع ضمن دائرة التحديات المستقبلية، بل أصبح إحدى أكثر مشكلات العالم إلحاحاً. الظواهر المرتبطة بتغير المناخ ازدادت حدتها في السنوات الأخيرة، بما في ذلك التصحّر وندرة المياه وموجات الحر والفيضانات وحرائق الغابات. بات العالم يعاين هذه الظواهر ويتلمّسها بعدما كان الحديث عنها في الماضي مجرد توقع واستشراف.

الأمم المتّحدة صنّفت العقد الفائت أنّه العقد الأشدّ حرارة في التاريخ. رغم ذلك، تتلكأ الدول الصناعية الكبرى التي تتسبّب بهذه الكارثة على البشرية جمعاء في تحقيق أي علاج ناجع وسريع، وتفشل القمم المناخية في دفع الدول الكبرى إلى الإيفاء بالتزاماتها، ومن ذلك قمة غلاسكو التي عُقدت الشهر الماضي في اسكتلندا، والتي لم يكن أغلب ناشطي البيئة ليصدّقوا أنها ستكون قمة واعدة ومختلفة عمّا سبقها، لسبب وجيه:

 لقد فشلت المؤتمرات الـ25 المناخية السابقة في إيقاف غازات الاحتباس الحراري التي تؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة العالمية. وبعد 3 عقود من الحديث عن خطورة الأمر، أصبح كوكب الأرض الآن أكثر سخونة بمقدار 1.1 درجة مئوية على الأقل من مستوى ما قبل الثورة الصناعية التي بزغت نهاية القرن الـ18 في أوروبا، نتيجة نشوءِ التقانة مع اكتشاف الآلة البخارية. 

البشرية تحفر قبرها بأيديها

هذا الاحترار الَّذي يتسبّب به النشاط الصناعي البشري آخذ في الارتفاع، وستزداد تبعاته خطورة ما لم تبادر دول مجموعة العشرين إلى خطوات جذرية وسريعة لمعالجته، وهو أمر مستبعد نتيجة مجموعة من الأسباب، من ذلك دور مجموعات المال والأعمال واللوبيات داخل الدول، إضافةً إلى مصالح الشركات المتعددة الجنسية التي تتعارض غالباً مع مصالح البشرية، كذلك السباق بين الدول في عالم متغيّر، بحيث تبدو أولوية التنمية الداخلية أحياناً طاغية على الاعتبارات البيئية وتأثيراتها المباشرة. 

من هنا، لا يحتاج المرء إلى كثير من العناء للحكم على نتائج قمة المناخ في غلاسكو "COP26"، بناءً على ما صرّح به رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، قبل انعقادها، قائلاً إنها ستكون "لحظة اختبار مصداقية" العالم. كما يمكن بسهولة تلمّس أبعاد الاحتباس الحراري ومخاطره، من خلال دعوة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى "إنقاذ البشرية"، وقوله: "إننا نحفر قبورنا بأنفسنا".

الشرق الأوسط في خطر

تسهم دول مجموعة العشرين، التي تشمل الصين والولايات المتحدة والهند والاتحاد الأوروبي وروسيا، بنحو 80% من انبعاثات الغازات المسبّبة لمفعول الدفيئة. مع ذلك، إنَّ الضرر الأكبر يقع على الدول النامية، وتتحمّل تبعاته الشعوب الفقيرة في نصف الكرة الجنوبي، وفقاً لمجموعة من التقارير، إذ تقع 8 دول من الدول الـ10 الأكثر تضرراً في أفريقيا، واثنتان في أميركا الجنوبية.

في دراسة أعدّتها منظّمة "كريستيان أيد"، وصدرت عن أعمال مؤتمر غلاسكو، يتبيّن أنّه، وإن تمّ الحدّ من ارتفاع درجات الحرارة في العالم لتبقى عند 1,5 درجة مئوية، أي الهدف الأكثر طموحاً ضمن اتفاقية باريس للمناخ، فإنّ إجمالي الناتج المحلي للدول الـ65 الأكثر عرضةً لتبعات التغيّر المناخي في العالم، وعلى رأسها السودان، سيتراجع بنسبة 13% بحلول العام 2050.

إلا أن ما خلصت إليه هذه الدراسة لا يعدو كونه تعبيراً لطيفاً إذا ما قورن بدراسات أخرى تشير إلى مخاطر وجودية على بعض الدول، وإلى نزاعات تهدّد استقرار دول أخرى. وعلى رأس المناطق المُهدَّدة بتبعات تغيّر المناخ على نحو خطِر من شأنه أن يهدّد أمنها القومي، منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

هل يختفي بعض مدن المنطقة؟

ما لم تغيّره الحروب والنزاعات وما يتفرّع عنها من مكائد ومؤامرات، سوف تتكفّل به غالباً التغيّرات المناخية خلال مدّة قصيرة نسبياً، إذا ما قورنت بعمر الشعوب وبالخطط المستقبلية التي تضعها الدول لمستقبلها المنظور. نتحدث هنا عن عقدين من الزمن أو ثلاثة، ربما يحدونا الكلام بعدها إلى ما كان من وفرة في المياه وفي خيرات الطبيعة باعتباره جزءاً من ماضٍ جميل.

في العام 2015، نشرت مجلة "NATURE" العلمية ذائعة الصيت دراسة تشير إلى أن عدداً من المدن، بما فيها أبو ظبي ودبي والدوحة والظهران السعودية وبندر عباس الإيرانية، تعدّ الأكثر عرضة للخطر، ما لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة للحدّ من انبعاثات غازات الدفيئة.

وتحذر الدراسة من أنَّ بعض درجات الحرارة في بعض دول الخليج قد يتجاوز 60 درجة مئوية بحلول منتصف القرن الحالي، ما سيجعل الحياة في المنطقة "مستحيلة". باحثون في الجامعة التقنية في زيورخ توقّعوا أيضاً أن تشهد مدينة الإسكندرية خلال هذه الفترة مناخاً مماثلاً لمناخ مدينة كراتشي الباكستانية، التي كثرت فيها موجات الحر والفيضانات خلال السنوات الأخيرة.

بمعزل عن مدى دقّة هذه الدراسة، فإن عدداً كبيراً من الخبراء يتفق على أن تغيّر المناخ من المرجّح أن يؤدي إلى زيادة النازحين واللاجئين في منطقة الشرق الأوسط، إذ يتوقع أن يؤدي ارتفاع منسوب مياه البحر، وخصوصاً في البحر المتوسط، إلى نزوح نحو 3.8 ملايين شخص من سكان دلتا النيل والسواحل إلى المناطق الداخلية، وفق تقرير البنك الدولي الصادر في العام 2014.

ثمة دراسة أخرى تؤكد هذا الأمر، قام بها باحثون في معهد "ماكس بلانك" للكيمياء الفيزيائية الحيوية في ألمانيا ومعهد "سايبروس" في نيقوسيا. تخلص الدراسة إلى أنّ درجات الحرارة في بعض مناطق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ستصل إلى مستويات تجعل حياة السكان فيها مستحيلة، ما سيؤدي إلى "تهجير جماعي" وارتفاع "كبير" في أعداد "لاجئي المناخ" في المستقبل.

الدول الكبرى التي تتنافس على ريادة العالم تولي اهتماماً ملحوظاً لهذه المسألة، ليس من باب الاستعداد فقط، بل من زاوية الأمن القومي أيضاً، وما قد ينشأ عن تغيّر المناخ من فرص وتحديات. صحيفة "La Stampa" الإيطالية أشارت، على سبيل المثال، إلى أن تغيّر المناخ العالمي يسهم في نمو الأراضي الزراعية في روسيا، ما سيحوّلها إلى قوة زراعية عظمى في العالم. وفي خطابه الأول أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر الماضي، كرّس الرئيس الأميركي جو بايدن خطابه لثلاث مسائل تعكس أولوياته: فيروس كورونا، وتغيّر المناخ، والصين. وزير الدفاع في إدارته لويد أوستن عيّن بدوره 3 مستشارين خاصين بشأن القضايا الرئيسية المشار إليها، ما يعكس أولوية المناخ على أجندة واشنطن.

نزوح جماعيّ وعدم استقرار

بالعودة إلى الشرق الأوسط، لن نضطر على الأرجح إلى الانتظار ربع قرن وأكثر لنشهد آثار تغيّر المناخ وانعكاساته على الواقع الجيوسياسي لدول المنطقة. لقد بدأت هذه المسألة تتسبّب بالفعل بظاهرة التصحّر وتقلّص الموارد المائية واشتداد الضغوط على الموارد الطبيعية، لتزداد نتيجةً لذلك مخاطر النزوح الجماعي ونشوب النزاعات وعدم الاستقرار.

مشكلة ندرة المياه الناجمة عن تغيّر المناخ لا تنحصر في هذا الجزء من الكوكب، إذ يحذّر تقرير الأمم المتحدة العالمي حول تنمية الموارد المائية في العالم "المياه وتغيّر المناخ"، الصادر في العام 2020، من أن يفقد 52% من سكان العالم بحلول العام 2050 فرص الحصول على حقهم في مياه شرب آمنة وخدمات صرف صحي، إلا أن سكان مناطق الشرق الأوسط سيشعرون بوطأة هذه المعضلة ربما أكثر من غيرهم وخلال وقت أقصر.

يشير تقرير التقييم المتوسطي الصادر منذ مدة قصيرة عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب)، تحت عنوان "التغير المناخي والبيئي في حوض المتوسط، الوضع الراهن والمخاطر المستقبلية"، إلى أن تغيّر المناخ في حوض المتوسط يحصل بوتيرة أسرع من الاتجاهات العالمية.

ووفقاً لدراسة أجراها معهد الموارد العالمية (WRI)، ستواجه واحدة بين كل 5 دول في العالم نقصاً حاداً في المياه الصالحة للشرب بحلول العام 2040، وأكثر البلاد عرضة لمشكلة نقص المياه في المستقبل القريب هي دول الشرق الأوسط، من بينها لبنان الذي لطالما تغنّى بثلوجه وأنهاره!

بالمقارنة مع الدول الأكثر تقدّماً، لا تسهم منطقة الشرق الأوسط في الانبعاثات الحرارية، لكنها من المناطق الأكثر تضرراً من تغيّر المناخ. هذا التغيّر يتجلّى في موجات الجفاف والتصحّر وتراجع إنتاج المحاصيل الزراعية وتراجع منسوب المياه في الأنهار.

وبحسب البنك الدولي، بدأت المنطقة تعاني بالفعل من آثار تغيّر المناخ، وترجّح الدراسات أنّ تلك الآثار ستزداد سوءاً؛ فدرجات الحرارة ستواصل الارتفاع، وستنخفض معدلات سقوط الأمطار، في حين أنَّ الجفاف سيكون أطول وأعمق في أثره، وسيتكرر حدوثه.

ووفقاً لدراسة صادرة عن هذه المؤسسة الدولية، فإنَّ ارتفاع الحرارة سيخلق ضغوطاً هائلة على المحاصيل وعلى الموارد المائية النادرة بالفعل، مع احتمال أن يؤدي ذلك إلى تزايد الهجرة ومخاطر نشوب صراعات.

ثمة تقرير آخر يصبّ في هذا الإطار، وهو صادر عن "شبكة الخبراء المعنية بالتغيّرات المناخية والبيئية في منطقة البحر الأبيض المتوسط". ووفقاً له، تشير التغيّرات الحالية والسيناريوهات المستقبلية لتغيرات المناخ إلى وجود مخاطر كبيرة وتأثيرات متزايدة على مختلف النظم البيئية والحيوية المهمة، كالمياه والغذاء والصحة والأمن، خلال العقود المقبلة.