حزب الله والجهاد الإسلامي.. الفكر والمقاومة

حملت حركة الجهاد الإسلامي وحزب الله رؤية مشتركة للقضية الفلسطينية باعتبارها القضية الأولى والمركزية، وآمنا بالوحدة الإسلامية على أساس مفهوم الأمة الإسلامية الواحدة، ونظرا إلى الصراع مع "إسرائيل" كصراع وجود لا ينتهي إلا بزواله.

  • ي
    مطلع ثمانينيات القرن العشرين، كان قدر لبنان وفلسطين على موعدٍ مع نشأة حزب الله والجهاد الإسلامي                             

وقف الأمين العام المؤسس لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، الشهيد المفكر فتحي الشقاقي، خطيباً ليرثي الأمين العام لحزب الله، الشهيد عباس الموسوي، بعد اغتياله بأيام قائلاً: "كانت جوقة الأعراب تنحني أمام القدر الأميركي، وتُسامر اليهود الجُدد في موسكو وتشرب، وكان عباس الموسوي يصرخ في سواد الليل العربي: الموت للشيطان الأكبر.. الموت لـ"إسرائيل".. أميركا ليست قدراً، لن نركع ولن نذل.. من خادم الحرمين إلى أمير المؤمنين.. كانوا يصطفون لبيع القدس، ووحده عباس الموسوي يسقط دفاعاً عنها".

وبعد عامٍ، رثاه بقوله: "رحل السيد الذي قالوا له لا تذهب جنوباً.. كما قالوا لجده العظيم لا تذهب شمالاً.. لكنه ذهب ليهبنا بموته الحياة، ويزرع في صحرائنا الأمل، فبوركت أيها الفدائي العظيم، بورك حزب يستشهد أمينه العام، إنّه حزب لا يموت، إنّه حزب ينتصر، ألا إن حزب الله هم الغالبون". 

حزب الله ردَّ على رثاء مؤسس الجهاد الإسلامي لأمينه العام، بعد عامين، برثاء صاحب الرثاء، بعد اغتياله والتحاقه بالشهيد عباس الموسوي في قافلة الشهداء، فوقف أمينه العام الثالث، السيد حسن نصر الله، خطيباً قائلاً: "إنَّ حركة يستشهد أمينها العام لن تُهزم، ولن تنكسر، ولن تتراجع، ولن تعود إلى الخلف.. وستظل الحركة التي تحمل نهجك تتقدم وتتقدم إلى القدس.. إلى فلسطين".

 وكتب السيد محمد حسين فضل الله عنه بعد استشهاده راثياً: "كان كل فكره الإسلام، وكان كل همه فلسطين.. وهكذا سقط شهيد الإسلام في معنى فلسطين، وشربت فلسطين من دمه لتبقى حيوية الجهاد من أجل التحرير، واحتضن الإسلام الشهيد في المسيرة الكبرى المُنطلقة نحو النصر والفتح القريب".

 وهكذا رد حزب الله للجهاد الإسلامي التقدير بمثله، ليكون استشهاد الأمينين (الموسوي والشقاقي) أهم دلالات الالتقاء في الفكر والمقاومة، في ذكرى الانطلاقة الأربعين لحزب الله، المتزامنة مع نشأة الجهاد الإسلامي. 

مطلع ثمانينيات القرن العشرين، كان قدر لبنان وفلسطين على موعدٍ مع نشأة حزب الله والجهاد الإسلامي؛ استجابةً لتحدٍّ واحد هو الاحتلال الإسرائيلي لكل من جنوب لبنان وكل فلسطين.

 وقد سبق تلك النشأة الحركية وجود فكري جوهره خلاص الشعب والأمة، أسس له في لبنان المُفكر السيد محمد حسين فضل الله وإخوانه، وفي فلسطين المُفكر الدكتور فتحي الشقاقي وإخوانه.

 هذا الوجود الفكري أدى إلى الانتقال من مرحلة الحوار والنقد إلى مرحلة التجاوز للفكر الإسلامي التقليدي – الشيعي والسُني – بما يحمل من مفاهيم، فتجاوز حزب الله مفهوم الطائفة، وتجاوز الجهاد الإسلامي مفهوم الجماعة، وتقدم على جماعة الإخوان المسلمين. وكلاهما (حزب الله والجهاد الإسلامي) نهضا ليُغطيا عجز التحرير؛ عجز الدولة اللبنانية ونظامها السياسي عن القيام بدور المقاومة والتحرير، وعجز الحركة الوطنية الفلسطينية ونظامها السياسي (منظمة التحرير الفلسطينية) وقواتها عن القيام بدور المقاومة والتحرير. 

تشابه مبررات النشأة لكلٍ من حزب الله والجهاد الإسلامي جزء من تشابه محاور عديدة في الفكر والمقاومة بين الحركتين، ومنها المرجعية الإسلامية، فقد جاء في الوثيقة التأسيسية لحزب الله عام 1982م: "نحن حركة إسلامية... تطرح الإسلام كبرنامج متكامل فكرياً وعملياً"، وجاء في البيان التأسيسي للحزب عام 1985م: "نحن حركة مقاومة إسلامية هدفها إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان". 

وهذا متطابق مع ما جاء في الوثيقة الفكرية للجهاد الإسلامي عام 2018م: "نحن حركة إسلامية مجاهدة هدفها تحرير فلسطين"، وما جاء في الوثيقة السياسية للحركة عام 2018م عندما عرّفت نفسها بأنها "حركة مقاومة فلسطينية الإسلام مرجعها". 

وبناءً على هذه المرجعية الإسلامية، آمنت الحركتان بالوحدة الإسلامية على أساس مفهوم الأمة الإسلامية الواحدة، رغم اختلاف المذاهب والقوميات والأوطان، وتأثرت الحركتان بفكر الثورة الإسلامية التي دعا إليها الإمام آية الله الخميني – رحمه الله – القائم على مواجهة الاستكبار العالمي الممثل في أميركا و"إسرائيل"، وتبنت الحركتان فكرة "الدولة الإسلامية"، ولكنها ظلت فكرة لا تستكمل متطلباتها بسبب التركيبة الطائفية والسياسية في لبنان، واستحقاقات مرحلة التحرر الوطني في فلسطين. 

المرجعية الإسلامية للحركتين (حزب الله والجهاد الإسلامي) والانتماء إلى الأمة الإسلامية لا يناقضان الانتماء إلى الوطن والجماعة الوطنية والإيمان بالوحدة الوطنية ومفهوم المواطنة عند الحركتين، فقد أكد حزب الله في وثيقته السياسية الصادرة عام 2009م أنَّ "لبنان هو وطننا، وطن الآباء والأجداد كما هو وطن الأبناء والأحفاد... نريده واحداً موحّداً"، وشدد على وحدة الشعب بكل طوائفه كجماعة وطنية واحدة، وأكد على الوحدة الوطنية في وثيقته السياسية وخطابه السياسي والإعلامي وسلوكه السياسي والنضالي، وتبني فكرة المواطنة على أساس مبدأ الدولة لكل مواطنيها المتساوين في الحقوق والواجبات.

 أما بالنسبة إلى حركة الجهاد الإسلامي، فحملت المبادئ والمفاهيم نفسها في وثائقها وأدبياتها وخطابها، فوحدة الوطن "فلسطين التاريخية وحدة إقليمية واحدة لا تتجزأ"، والجماعة الوطنية "الشعب الفلسطيني بكل أجياله ومكوناته وأماكن وجوده شعب واحد له قضية واحدة"، وشددت على الوحدة الوطنية على أرضية مقاومة الاحتلال، وتبني مفهوم المواطنة في الدولة المسلمة على أساس (وثيقة المدينة) التي يتساوى فيها المسلمون وغير المسلمين على أرضية الولاء للدولة والشراكة في الوطن والنضال الوطني. 

والحركتان تواجهان عدواً مشتركاً واحداً هو المشروع الاستعماري الغربي الصهيوني، وقاعدته في فلسطين "دولة" الكيان الصهيوني (إسرائيل)، فحملت الحركتان رؤية واحدة لـ"دولة إسرائيل" وللقضية الفلسطينية، فهناك اتفاق على أنها كيان إحلالي استيطاني تهويدي توسعي قام، ولا زال، على العدوان والإرهاب، ومرتبط عضوياً بالمشروع الاستعماري الغربي الذي تقف على رأسه الآن الولايات المتحدة الأمريكية؛ ليؤدي دوراً وظيفياً يخدم الغرب وأميركا، وخطر الكيان الصهيوني يتعدّى فلسطين إلى كل العرب والمسلمين وحتى العالم، وهو غدة سرطانية تستنزف قدرات الأمة وإمكانياتها وتعوق مشاريع الاستقلال والنهضة والوحدة فيها. 

وحملت الحركتان رؤية مشتركة للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية العرب والمسلمين الأولى والمركزية، فعند حزب الله "إنَّ تحرير القدس وإزالة إسرائيل من الوجود هي القضية المركزية في تحركاتنا العامة"، وعند الجهاد الإسلامي "قضية فلسطين هي القضية المركزية للأمة العربية والإسلامية جمعاء". ومسؤولية تحرير فلسطين تقع على عاتق كل الأمة وطليعتها المقاومة، وهناك اتفاق على طبيعة الصراع الوجودي مع الكيان الصهيوني ووسيلة المقاومة المُسلّحة. 

النظر إلى الصراع مع الكيان الصهيوني كصراع وجود لا ينتهي إلاّ بزواله، وسيلته المقاومة المُسلّحة، هو خيار وحيد عند الحركتين لمواجهة التهديد الصهيو-أميركي، ولذلك فهو عند حزب الله "حاجة جوهرية وعامل موضوعي لمواجهة الاستكبار الأميركي والتهديد الإسرائيلي كخطر دائم على لبنان – الدولة والكيان – وعلى أرضه ومياهه وثرواته". وعند الجهاد الإسلامي يُعدّ "نهج الجهاد والمقاومة هو النهج الأكثر واقعية والأجدى من أجل التحرير، وقد تأكد ذلك في تحرير المقاومة اللبنانية لجنوب لبنان من الاحتلال الصهيوني، وتحرير المقاومة الفلسطينية لقطاع غزة من جيش الاحتلال ومستوطنيه". 

والمقاومة المُسلّحة عند الحركتين تستمد فلسفتها من عقيدة الجهاد والشهادة في الإسلام، ومن نماذج مجاهدي الأمة وشهدائها الأبطال في صراعهم ضد الباطل، هذه العقيدة الجهادية والفلسفة الاستشهادية قادت إلى العمليات الاستشهادية في لبنان وفلسطين، وإلى رفض التخلّي عن سلاح المقاومة في لبنان وفلسطين، ورفض كل مشاريع التسوية السلمية، أو تقاسم فلسطين، أو التعايش مع الاحتلال. 

في الذكرى الأربعين لتأسيس حزب الله، تزامناً مع نشأة الجهاد الإسلامي، تظل مهمة تسليط الضوء على المشترك الموحِّد بينهما مهمة مُقدّسة وسط مساحات العتمة المُفرِّقة التي يُحاول أعداء النور والأمة تعميمها لتُغطّي كل حياتنا، وتُصبح مهمة البحث والكتابة عن ذلك الضوء الموحِّد للمقاومة ومحورها وأمتها مهمة دينية وقومية ووطنية من المرتبة الأولى، وسط ضجيج الأبواق الصهيو-داعشية الداعية إلى الشرذمة والفرقة بين أبناء الأمة الواحدة والمقاومة الواحدة.

وتبقى مهمة البحث والكتابة عن حركتين يستشهد أمينيهما العامَين مُفعمة بالجوى والشجن؛ لا سيما أنَّ كاتب هذه السطور خبِر أحدهما عن قُرب، وخبِر الآخر عن بُعد، وهو يرى دمهما ودم كل الشهداء في النهر السائر نحو وعد الآخرة، ليروي شجرة الفكر والمقاومة حتى تنتج ثمار التحرير والحرية والوحدة.