رئاسة لبنان المقبلة... مفعول لا فاعل

ظروف الاستحقاق الرئاسي اليوم تختلف عن ظروف عام 2018، فالمجلس النيابي منقسم إلى ما يشبه المناصفة، والاصطفافات في عنوانها الأكبر بين محوري الممانعة والمعارضة، ولا يمتلك أي منهما النصف زائداً واحداً، أي 65 نائباً.

  • رئاسة لبنان المقبلة... مفعول لا فاعل
    مع بداية أيلول يبدأ الاستحقاق الدستوري في البرلمان لانتخاب رئيس جديد

قفز لبنان متجاوزاً استحقاق تأليف حكومة جديدة، ليبدأ رحلة البحث عن رئيس جديد للجمهورية، وبالفعل هو ليس بحثاً بقدر ما هو تبارز أو تبارٍ بين مواقف لزعامات مارونية صُنّفت في خانة الأقوياء، ودلوات تدلو (ودِلاء تُدلي) بها قوى يختلط فيها الفاعل بالمفعول به، إذا ما استثنينا حزب الله، الصامت الأكبر، وهو الأكثر تأثيراً في استحقاق بهذا الحجم.

لم يعد أحد مهتماً بحكومة تُؤلّف ما دامت حكومة تصريف الأعمال المشلولة لها رب يرعاها. فشهر آب/ أغسطس قارب على الانتصاف، ومع بداية أيلول يبدأ الاستحقاق الدستوري في البرلمان لانتخاب رئيس جديد، هو مهلة الشهرين التي تسبق نهاية ولاية الرئيس الحالي في الثالث والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر 2022.

وعلى عكس الاستحقاق السابق، حين جاهر وسعى وسمّى وفعل، لم يعلن حزب الله إلى اليوم مرشّحه للرئاسة، ولو أنه يقوم بمساعٍ لم تصل إلى نتيجة حاسمة لرؤية موحّدة حيال هذا الاستحقاق، بين حليفيه رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية.

مؤيّدو فرنجية متفائلون بأن الحزب سيسمّي زعيمهم باعتبار أنه ضحّى بالأمس بحظوظه التي توافرت لوصوله إلى سدّة الرئاسة، لعدم إغضاب حزب الله، الداعم للرئيس ميشال عون، على أن يكون فرنجية مرشح الحزب للدورة المقبلة.

ويعتبرون أن قول (ويستدلون بقول) أمينه العام السيد حسن نصر الله، وفي مجال المفاضلة بين عون وفرنجية، "الأول عين والثاني العين الثانية"... ويراهنون على انفتاح فرنجية على مختلف القوى، وعلى صداقات أو لا فيتو عليه دولياً، وعلى المسار الإقليمي الذي يبدو إلى الآن لصالح المحور الذي يجاريه استراتيجياً.

أما مؤيّدو رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، فمقتنعون بأن زعيمهم هو الأحقّ، لأنه رئيس أكبر كتلة نيابية، ويبقى الأصلب والأقوى مسيحياً كحليف لحزب الله، وصاحب امتداد شعبي مسيحي على امتداد جغرافية لبنان، على خلاف فرنجية، مستخفّين بخصوماته السياسية والمحلية، وكذلك بالعقوبات الأميركية والعزلة شبه الكليّة عربياً ودولياً عليه.

يبقى قائد الجيش العماد جوزيف عون، الذي يبدو أكثر قبولاً شعبياً نتيجة محبّة الناس بأغلبيّتهم للجيش، لكن وصوله يبقى رهن حسابات يتقاطع فيها المحلي بالدولي، تتجاوز محبّة الناس له.

أما رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع، ورغم تقديمه لنفسه مرشحاً طبيعياً، فيبقى ترشيحاً أشبه بالترشيح الكاريكاتوري عند غير مريديه، ويبدو أن الرجل يدرك ذلك، فذهب إلى إعطاء مواصفات لرئيس تُجمع عليه المعارضة، ملوّحاً بسلاح المقاطعة، لمنع وصول رئيس من قوى الثامن من آذار، وواضعاً نفسه خارج السباق قبل أن يضعه البرلمان.

هذه حال المرشحين "الأقوياء" لدى المسيحيين، لكن ظروف استحقاق اليوم تختلف عن ظروف عام 2018؛ فالمجلس النيابي منقسم إلى ما يشبه المناصفة، والاصطفافات في عنوانها الأكبر بين محوري الممانعة والمعارضة، ولا يمتلك أيّ منهما النصف زائداً واحداً، أي 65 نائباً، وإن أي اصطفاف بحسابات مختلفة قادر على منع تأمين نصاب الثلثين، النصاب القانوني لانعقاد جلسة الانتخاب، والأصوات المطلوبة لفوز الرئيس في الدورة الأولى.

وإلى اليوم، وكيفما تعدّدت السيناريوهات، لا يبدو أن أي طرف أو حلف داخلي قادر على إيصال رئيس جديد على مقربة شهرين من موعد الاستحقاق.

الكل مدرك لهذه الوقائع، وسفراء الدول التي تطل بقرونها في كل استحقاق وقناصلها يدركون ذلك، وبعمق، فحركتهم ناشطة ولقاءاتهم حيال هذا الموضوع واضحة وغير سرية، ودول بعضهم تضع مواصفات للرئيس العتيد، مع تشديد على إجراء الانتخابات في موعدها.

وفيما ينشط الأوروبيون، وفي مقدّمهم فرنسا التي تعتقد أنها ما زالت تحظى بصلة الرضاعة كأم لولد رعته حتى أصبح وطناً بتكوينه الحالي، يبدو الأشقاء العرب منشغلين عن أخٍ خرج بنظرهم عن طاعة الإخوة، ليلملم كلّ منهم مشكلاته، مستسلماً أمام دحرجة التطبيع مع الكيان الصهيوني الذي يكسر هيبته كل يوم لبنان الشقيق الشقيّ.

وإذا كان الأوروبيون، وعلى رأسهم فرنسا، يدركون أن حركتهم تبقى فارغة ما لم تغرف من البركة الأميركية ما يكفي من وقود لتجتاز قواطع محطة الاستحقاق الرئاسي اللبناني، فإن العرب مقتنعون بأن دورهم معدوم، سواء تأمن (توافر) لهم الوقود أم انعدم.

أما الأميركي فله حساباته التي تتجاوز الساحة اللبنانية بأشواط إقليمية ودولية، وإن اعتقد أتباعه الداخليون البلهاء أنهم ما زالوا محور اهتمامه، بعدما سقطت رهاناته عليهم حتى ما قبل الانتخابات النيابية، فكيف ما بعدها، مع سقوطهم المدوّي وأدائهم المخجل داخل البرلمان وخارجه.

إن للاستحقاق المقبل حسابات فوق حسابات صِبية الأميركي، لأن الظرف يتطلّب رجالاً، فإما رئيس من هذا الصنف يشكّل تقاطعاً لتفاهم الأقوياء إذا نضج، وإما شخصية لا نكهة لها، تقبل أن تدير أزمة وتتعايش مع مخاض ولادة تسوية كبرى، أو الفراغ الذي اعتاده اللبنانيون مؤخراً مع نهاية كل ولاية، وربما كان الخيار الأنسب بعدما خبر اللبنانيون الشخصيتين، في ظل نظام لكل طائفة فيه رئيس.