شجرة الزيتون والصراع على الأرض والرواية

موسم قطاف الزيتون ليس بدعاً من المواسم، فقد اكتملت به دائرة الشر الصهيونية منذ بدء المشروع الصهيوني.

  • الصراع على الأرض هو جوهر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بكل أبعاده المختلفة، والصراع على الرواية هو أحد وجوه الصراع على الأرض.
    الصراع على الأرض هو جوهر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بكل أبعاده المختلفة، والصراع على الرواية هو أحد وجوه الصراع على الأرض.

يحتل موسم قطف ثمار شجرة الزيتون موقعاً متميزاً في وجدان الشعب الفلسطيني. ومع حلول شهرَي تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر – موسم قطف الزيتون – يحلُّ موسم الحرب على شجرة الزيتون الفلسطينية من قبل الاحتلال الإسرائيلي، بوجهيه القبيحين، كجيشٍ ومستوطنين؛ فتتقاسم شجرة الزيتون مع أصحابها معاناة إرهاب الاحتلال، في محاولات يائسة مُتكررة لاقتلاعهما معاً من جذورهما الراسخة العميقة في الأرض. 

وموسم القطاف الحالي ليس بدعاً من المواسم، فقد اكتملت به دائرة الشر الصهيونية منذ بدء المشروع الصهيوني، مروراً بالنكبتين الأولى والثانية، حتى آخر إنسان فلسطيني قُتِل، وآخر زيتونة فلسطينية اُقتُلِعت، وكأنَّ البشر والشجر توأمان يتقاسمان رصاص الحقد الصهيوني وسهام الكراهية الإسرائيلية، ذلك أنَّ كليهما ضاربٌ بجذوره في الأرض الفلسطينية والرواية الفلسطينية، ما يجعلهما في أتون الصراع على الأرض والرواية. 

والصراع على الأرض هو جوهر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بكل أبعاده المختلفة، والصراع على الرواية هو أحد وجوه الصراع على الأرض. ومقابل الرواية الفلسطينية الحقيقية كان لا بد من اختراع رواية صهيونية مُزيّفة، وعمودها الفقري أكذوبة (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض)؛ ففلسطين بزعمهم أرض خالية من البشر والشجر، وإن وجد البشر فهم حشود رحالة غير منتجة، وإن وجد الشجر فهي أحراج مُتباعدة غير مُثمِرة، وإنَّ الحركة الصهيونية قادمةٌ بمشروعٍ لاستعمار أرض الأجداد والميعاد، بالمستوطنين المنتجين والأشجار المُثمرة. ولمّا كانت الرواية الصحيحة على النقيض من ذلك البُهتان العظيم، عمدوا إلى صناعة روايتهم الكاذبة بالنار والدم، فكانت أشجار فلسطين في صلب الصراع على الرواية، وكانت أشجار الزيتون هي العنوان الأبرز لهذا الصراع، باعتبارها رمزاً للصمود والمقاومة، وقيمة دينية وتاريخية ووطنية فلسطينية. 

القيمة الدينية لشجرة الزيتون راسخة في عقيدة الشعب الفلسطيني المُستمدة من القرآن والسُنّة، فهي بتقرير القرآن الكريم "شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ"، وبركتها مرتبطة ببركة أرض فلسطين "الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ"، وبركة الشجرة والأرض جزء من البركة التي أنزلها الله تعالى على مهبط الوحي الإلهي في فلسطين وسيناء ومكة المُكرّمة "وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وَطُورِ سِينِينَ، وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ"، وقدْ حلَّ في الشجرة قبسٌ من نور النبوّة ليلة الإسراء والمعراج، وامتزج نور زيتها الذي يُضيء البصر بنور الله الذي يُضيء البصيرة، كما جاء في سورة النور عن شجرة الزيتون "يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ". والقيمة التاريخية لشجرة الزيتون محفورة في ذاكرة الشعب الفلسطيني، باعتبارها أكبر شجرة مُثمرة مُعمّرة في فلسطين، وأشجارها مزروعة في أرض فلسطين مُنذ القِدم، ويقف بعضها راسخاً منذ آلاف السنين شاهداً على صدق الرواية الفلسطينية بعروبة فلسطين منذ عهد الكنعانيين العرب. 

اقرأ أيضاً: "الشجرة العجيبة".. تعرّف على أسرار شجرة السدر

أما القيمة الوطنية لشجرة الزيتون فقد تجذّرت في التراث الشعبي الفلسطيني كرمزٍ لعمق جذوره في الأرض، وقوة صموده ومقاومته للاحتلال، كجذورها الصامدة في الأرض وجذعها المقاوم للاقتلاع من تربتها. وتعبيراً عن هذه القيمة، اتّخذ منها الشعراء الفلسطينيون رمزاً لديمومة الصمود والمقاومة، ودلالة على استمرارية البقاء والحياة، فأنشدوا "إنّا باقون ما بقيَ الزعتر والزيتون". واتخذها شاعر فلسطين الكبير محمود درويش رمزاً لديمومة الحياة الفلسطينية، رغم الموت الذي يزرعه الاحتلال في قصيدته (شجرة الزيتون الثانية) عندما جعل أرواح الشهداء تحل في أشجار الزيتون الجديدة لتُجدّد حياة الفلسطيني بشراً وشجراً. أما الأغاني الشعبية فعبّرت عن عشق الفلسطيني لزيتون وطنه، كمطلع أُغنية "على دلعونا وعلى دلعونا زيتون بلادي أطيب ما يكونا"، وبعد النكبة عبّرت عن شوق الفلسطيني للعودة إلى وطنه، كمطلع أُغنية "الزيتونة اشتاقت للي زرعوها... عودوا بجاه الله عودوا شوفوها... الأرض أصفرّت وذبلت لغصونا...". 

هذه الرمزية والقيمة لشجرة الزيتون الفلسطينية أدركها الصهاينة، فاعتبرتها الحركة الصهيونية نقيضاً لمشروعها الاستيطاني الإحلالي، تماماً كما الإنسان الفلسطيني، فرأت فيها رمزاً لصمود الشعب الفلسطيني ومقاومته، وداحضةً للرواية الصهيونية الإسرائيلية للصراع؛ وتولى حاخامات "إسرائيل" التأصيل والتنظير لهذا التوجّه، فأصدروا فتاوى دينية تنسجم مع هذه الرؤية الشريرة، ومنها فتوى الحاخام الأكبر لليهود الشرقيين سابقاً عوفاديا يوسف التي تُحرّض على اقتلاع أشجار الزيتون التي يملكها فلسطينيون، وفتوى حاخام الخليل دوف ليئور بجواز تقطيع أشجار الزيتون الفلسطينية وسرقة ثمارها ومنع أصحابها من قطف ثمارها بالضرب والاعتداء... وخطورة هذه الفتاوى أنها تُطبّق حرفياً وعملياً من جيش الاحتلال وعصابات الاستيطان في الضفة الغربية، كظاهرة متواصلة يومياً، خاصة في مواسم قطف الزيتون. 

شجرة الزيتون كرمزٍ للصراع على الأرض والرواية بين الشعب الفلسطيني والحركة الصهيونية كمشروعٍ ودولة، هي دلالة على صراع أوسع، يستهدف فيه الصهاينة إحلال شعبٍ دخيل مكان شعبٍ أصيل، وإبدال أرضٍ مصطنعة مكان أرض أصيلة، وهو المضمون الذي سجلته الباحثة في جامعة لديمونت السويسرية كريستين بيرينولي في كتابها "محو فلسطين لبناء إسرائيل"، فوضّحت فيه طبيعة الصراع على الأرض بطابعه الأيديولوجي وروايتيه المتناقضتين، ومدى توظيف الحركة الصهيونية للجغرافيا والتاريخ لدعم روايتها، لمّحو أي أثر للوجود الفلسطيني في المكان كجغرافيا وفي الزمان كتاريخ، وبعد ذلك ملؤهما بالوجود اليهودي، لتحويل فلسطين إلى "إسرائيل"، أو على الأقل تفريغ الوجود الفلسطيني من المعنى، لتوطين الوجود الإسرائيلي، مُحتلاً المكان والزمان الفلسطينيّين. 

ختاماً، بناءً على قيمة شجرة الزيتون كرمزٍ للصراع بين الحق الفلسطيني والباطل الإسرائيلي، فإنَّ الدفاع عن أشجار الزيتون الموجودة وزراعة المزيد من أشجارها ضرب من الصمود والمقاومة،  وشكل من الدفاع عن الأرض والرواية، حتى تغلب أشجار الزيتون المباركة المُثمرة شجيرات الغرقد الشوكية غير المثمرة.