عن الأكاذيب الأممية والدولية حول لبنان: نسبة الفقر نموذجاً

50 في المئة على الأقل من اللبنانيين يصلهم "دولار"، ما يحول دون عيشهم في "الفقر المدقع" الذي تتحدث الأمم المتحدة عنه.

  • المجتمع الدولي يفعل كل ما يلزم اليوم لإبقاء لبنان على حافة
    المجتمع الدولي يفعل كل ما يلزم اليوم لإبقاء لبنان على حافة "الدولة الفاشلة"، في انتظار اللحظة المناسبة للتصعيد.

يخلط كثيرون بين "السلطة الفاشلة" و"الدولة الفاشلة"، بين نقمتهم على الإدارة السيّئة وانتمائهم إلى بلدهم وعلاقتهم بحريته وسيادته وثرواته. فالإعلان الرسمي عن "فشل الدولة" لا "فشل السلطة" تتبعه تبعات سياسية، تبدأ من إعلان عجز الدولة عن السيطرة على أراضيها ومؤسّساتها، وتنتهي باعتبار السلطات الدستورية المنتخبة والدستور كأنها غير موجودة. 

ومن أبرز الأدوات التي تُستخدم لتحقيق هذا الهدف تقارير البنك الدولي والمنظمات التابعة للأمم المتحدة التي يظهر التدقيق في مضمونها أنها تصدر كل ما يلزم، في توقيت سياسي مشبوه، لإحلال لبنان في مقدمة لائحة الدول الفاشلة. ففي تقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا الأخير، قالوا إن أكثر من 74 في المئة من مجموع سكان لبنان يعيشون في حالة فقر مدقع، وإذا ما تم أخذ أبعاد إضافية كالصحة والتعليم – يتابع التقرير – ترتفع النسبة إلى 82 في المئة. 

الفقر والمجتمع المدنيّ

التقرير المذكور حظي بكثير من التصفيق في الإعلام اللبنانيّ والخليجي، رغم غرابته، لثلاثة أسباب:

أولاً، تقدّر المراجع الرسمية اللبنانية عدد العائلات بتسعمئة ألف عائلة، فيما تقول المؤسسات المالية إن عدد التحويلات المالية من الخارج يصل إلى ثلاثمئة ألف شهرياً، بمعدل وسطي يبلغ 500 دولار، إضافة إلى وجود أكثر من مئة وخمسين ألف راتب تُدفع شهرياً بالدولار (جمعيات، وشركات، وأحزاب وموظفو سفارات وغيرهم)، إضافة إلى استفادة الآلاف من تعاميم مصرف لبنان التي تتيح سحب القليل من أموالهم بالدولار. وبالتالي فإن 50 في المئة على الأقل من اللبنانيين يصلهم "دولار"، ما يحول دون عيشهم في "الفقر المدقع" الذي تتحدث الأمم المتحدة عنه.

ثانياً، لا يمكن بأي شكل التصديق أن 82 في المئة من السكان في حالة فقر مدقع ولا توجد ثورة اجتماعية شاملة أو اقتحامات من قبل الجائعين للمطاعم والمتاجر التي تغصّ بالأثرياء.

ثالثاً، كيف يمكن في بلد تصرف فيه جمعيات المجتمع المدني نحو ملياري دولار من أموال دافعي الضرائب في الدول الاسكندينافية وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة والإمارات أن يكون فيه 82 في المئة من السكان في حالة فقر مدقع؟ لماذا تبذّر الجمعيات الإنسانية العظيمة الأموال على إيجارات المكاتب الفخمة وشراء السيارات وتنظيم الندوات في أغلى الفنادق، فيما لا يملك ثلثا سكان لبنان، بحسب الأمم المتحدة، القدرة على شراء ربطة خبز يومياً؟ أليست الأمم المتحدة هي من تحدّد أولويات التمويل لهذه الجمعيات؟ وكيف يُعقل في هذا السياق أن تواجه 41 في المئة من العائلات صعوبات في الحصول على الطعام (بحسب البنك الدولي) فيما الناشطون والناشطات في الجمعيات الإنسانية التي يُفترض أنها لا تبغي الربح يملؤون بطونهم صبحاً وظهراً ومساءً في أفخم الفنادق الجبلية، حيث ينظّمون الدورات التدريبية على "طق الحنك" و"فض النزاعات سلمياً" و"الحوار" و"نشر الديمقراطية"؟ 

حين يفضح البنك الدولي كذب البنك الدولي

في موازاة قول البنك الدولي في أحد بيانات "غب الطلب" الإضافية إن أزمة لبنان هي "الأكثر حدّة وقسوة في العالم"، بدأ البحث اللبناني الرسمي مع الدول والمنظمات المانحة والبنك الدولي في تقديم دعم مالي للأسر الفقيرة، عبر ثلاثة مشاريع:

الأول هو تطوير برنامج الأسر الأكثر فقراً، حيث نجحت وزارة الشؤون الاجتماعية أخيراً في تأمين التمويل لمدة عام من أربع جهات أجنبية لـ 75 ألف عائلة لبنانية، تدفع بموجبه ابتداءً من أول آذار/ مارس مبلغ يراوح بين 105 و145 دولاراً أميركياً (شهرياً). 

المشروع الثاني يُعرف بـ"أمان"، يموّله البنك الدولي، وهو سيسمح لوزارة الشؤون بتقديم 150 دولاراً لـ 150 ألف عائلة لبنانية ابتداءً من أول آذار/ مارس المقبل أيضاً.

المشروع الثالث هو برنامج البطاقة التمويلية الذي لم يجد بعد من يموّله.

وفي النتيجة، أنشأ البنك الدولي منصة تسجيل، يُفترض أن تسمح بالفرز بين من يستفيد من المشروع الأول أو الثاني أو الثالث. وبعد شهرين من فتح باب التسجيل، استنفرت خلالهما الجمعيات والأحزاب والبلديات والمخاتير وغيرهم لتسجيل المواطنين، كان يُتوقع بناءً على ما تنشره الأمم المتحدة والبنك الدولي من أرقام أن يتسجّل أكثر من 70 في المئة من الأسر اللبنانية التي تقول الأمم المتحدة إنها تعيش في "فقر مدقع"، لكن سرعان ما بيّنت أرقام منصّة البنك الدولي أن عدد من بدأوا محاولة التسجيل كان 580 ألفاً، بينهم 130 ألفاً لم يُكملوا التسجيل حين طُلب منهم توقيع تعهّد برفع السرية المصرفية ليتأكد البنك الدولي من تطابق أوضاعهم المالية مع المواصفات المطلوبة، لينخفض العدد بالتالي إلى 450 ألفاً. 

ومن ضمن هؤلاء، تبيّن أن هناك نحو 250 ألفاً لا يمكن تصنيفهم ضمن الأسر الأكثر فقراً أو الأسر الفقيرة، لكنّ أوضاعهم تضعهم في خانة المحتاجين إلى البطاقة التمويلية من أجل تحسين قدراتهم الشرائية مجدداً. وبقي هناك بالتالي 200 ألف استمارة يمكن تصنيف أصحابها في خانة "الأكثر فقراً" أو "الفقراء"، مع العلم بأن التدقيق لم يبدأ بهذه الاستمارات للتأكد إذا ما كانت المعلومات صحيحة فعلاً أو إذا ما كان هناك أكثر من شخص من الأسرة نفسها. ومع ذلك، فإن أساس الموضوع هو التالي:

تقول الأمم المتحدة في تقرير رسمي إن ثمانين في المئة من اللبنانيين يعانون من الفقر المدقع، ولا يملكون المال لشراء الطعام، وهو ما كان يفترض وجود أكثر من 720 ألف عائلة تنطبق عليها مواصفات الفقر من أصل نحو تسعمئة ألف عائلة لبنانية، وإذا بمنصة البنك الدولي تبيّن أن العدد الحقيقي (بعد اجتهاد الأحزاب والجمعيات والبلديات والمواطنين في التسجيل) هو مئتا ألف فقط أو ما نسبته نحو 18 في المئة من اللبنانيين. وإذا احتُسب عدد الأسر التي تحتاج إلى البطاقة التمويلية، فإن العدد يصبح 450 ألفاً أو 50 في المئة من الأسر اللبنانية. فلماذا إذاً تقول الأمم المتحدة تارة إن 70 أو 75 في المئة وطوراً 82 في المئة من اللبنانيين يعانون من الفقر؟

على حافّة "الدولة الفاشلة"

ما يحصل ليس بريئاً أبداً. ففي بلد عطّلت الضغوطات الخارجية استخراج الشركات العالمية لنفطه، كما جُفّفت منابع مصارفه من تحويلات الخارج بحجة محاربة الإرهاب، فيما يتواصل منع المس بحاكم مصرفه المركزي رغم الدعاوى ضده في مختلف أنحاء العالم، ويرزح شعبه تحت ضغط أزمة معيشية هائلة، تأتي الأمم المتحدة لتضاعف أكثر من ثلاث مرات العدد الحقيقيّ للأسر الفقيرة في عمل تراكميّ على جميع المستويات للقول إن لبنان دولة فاشلة؛ ليس سلطة فاشلة أو سلطة ومعارضة فاشلتين، بل دولة فاشلة. 

أمّا لماذا لم تتقدم الأمم المتحدة خطوة إضافية إلى الأمام للإعلان، بناءً على تقاريرها، أن لبنان دولة فاشلة، كما يريد بعض الدول التي تموّل الإعلام والناشطين والأحزاب؟ 

الجواب المنطقيّ الوحيد بالنسبة إلى الدبلوماسيين المطّلعين هو تمسّك الدول الأوروبية بإبقاء تصنيف لبنان بلداً مستضيفاً للنازحين لا بلد أزمة. ففي حال تمّ تصنيف لبنان دولة فاشلة، لا يعود ممكناً لهذه الدول استخدامه كدولة لجوء. ففي مفارقة غريبة، تواصل الأمم المتحدة إصدار التقارير عن دمار لبنان الاقتصادي والاجتماعي من جهة، وتتمسّك بتأمين الدعم المالي لاستقرار اللاجئين في لبنان بدل دعم عودتهم إلى المناطق الآمنة في بلدهم كما يطالب لبنان وسوريا. وعليه، فإن المجتمع الدولي يفعل كل ما يلزم اليوم لإبقاء لبنان على حافة "الدولة الفاشلة"، في انتظار اللحظة المناسبة للتصعيد.