غواصات الدفع النووي.. من توازنات الحرب الباردة إلى "أوكوس"

يختلف شكل الغواصات البدائية ودورها خلال الحربين العالميتين وفي وقتنا الحالي بشكل جذري، فما سمي وقتها "يو - بوت" (U-Bot) لم يكن أكثر من سفينة تستطيع الغوص عدّة أمتار تحت سطح الماء.

  • اختلف استعمال الغواصات من دولة إلى أخرى بحسب السيناريو المطلوب منه
    اختلف استعمال الغواصات من دولة إلى أخرى بحسب السيناريو المطلوب منه

"إن الردع هو فنّ أن تزرع في عقل عدوّك الخوف من الهجوم" - دكتور سترينج لوف، من فيلم "دكتور سترينج لوف، كيف تعلَّمت أن أتوقّف عن الخوف وأحبّ القنبلة؟".

"يذكّرني الأمر بأيام سبوتنيك ويوري غاغارين الثقيلة، عندما ارتجف العالم عند سماع صوت صواريخنا. الآن، سوف يرتجفون مرة أخرى عند سماع صوت صمتنا. الأمر: تشغيل الدفع الصامت" - ماركو روميوس، كابتن الغواصة النووية السوفياتية في فيلم "صيد أكتوبر الأحمر".

أكتوبر الأحمر

يعتبر فيلم "صيد أكتوبر الأحمر" من أشهر أفلام هوليوود المرتبطة بالغواصات النووية، وهي عديدة. قصة هذا الفيلم تتمثل بأن الكابتن ماركو روميوس، من الدرجة الأولى، يكلّف بقيادة إحدى الغوّاصات النووية السوفياتية الحديثة من طراز "تايفون". تملك هذه الغواصة نظام دفع جديداً كهرومغناطيسياً يجعلها نظريّاً "خفيّة" بشكل كامل عن أجهزة "السونار" السلبية (Passive Sonar). يقرّر روميوس الانشقاق عن الاتحاد السوفياتي، وما إن يشغّل جهاز الدفع الحديث، حتى يختفي بشكل كامل عن أجهزة "السونار" الأميركية والسوفياتية.

 يقوم روميوس، وأعتذر عن "حرق" الفيلم، بخطوته هذه بعد أن يكتشف خطة سريّة للقيام بضربة أولى على الولايات المتّحدة. في النتيجة، تندلع الحرب النووية الشاملة، إذ يملك الاتحاد السوفياتي فرصة للنصر بقيامه بالضربة الاستباقية السريعة. 

الفيلم، وهو من العام 1990، يعدّ دعاية أميركية مليئة بالأحكام المسبقة بالمجمل، وهي تظهر الاتحاد السوفياتي المترهّل في آخر أيامه كقوّة غير مسؤولة أو منضبطة، مليئة بالمجانين، وغير مخوّلة للتحكّم في ترسانة نوويّة. بغض النظر عن الرسائل السياسيّة للفيلم ولامنطقيّته في عرض قواعد الاشتباك والردع في تلك الحقبة، ولكنّه يظهر عنصراً أساسياً في تكتيك استعمال الغواصات النووية التي سنشرح عنها، وهو الخفاء.

"اليو-بوت"

يختلف شكل الغواصات البدائية ودورها خلال الحربين العالميتين وفي وقتنا الحالي بشكل جذري، فما سمي وقتها "يو-بوت" (U-Bot) لم يكن أكثر من سفينة تستطيع الغوص عدّة أمتار تحت سطح الماء. كانت هذه السفن القادرة على الغوص تبحر تقريباً على السطح في غالب الأحيان، مظهرةً قسماً كبيراً من بدنها، ولا تقوم بالغوص إلا للاحتماء من طائرات الاستطلاع الجوي أو المدمرات (Destroyers) المخصصة لصيد الغواصات أو الاقتراب من الضحية والإجهاز عليها. لم تساعدها على البقاء تحت الماء لفترة طويلة محركاتها العاملة بالديزل (التي تحشن بطاريات تشحن عبر المولد نفسه فتستعمل تحت السطح) أو بدنها غير القادر على احتمال درجة عالية من الضغط في الأعماق. يمكن ملاحظة شكلها المثلّث في المقدمة، والذي يشبه سفن السطح أكثر من الغواصات الحالية، ويساعدها ذلك في كشط الماء عن الجوانب أثناء الإبحار على السطح.

اختلف استعمال الغواصات من دولة إلى أخرى بحسب السيناريو المطلوب منها في الحرب العالمية الثانية، واختلفت طريقة العمل في هذه الحرب عن الحرب الأولى التي كانت تتسم بالعمل الفردي للغواصات، وولد ما يسمى بـ"قطعان الذئاب" (Wolfpacks) الألمانية التي تقوم بالعمل بالطريقة التالية: ترصد الغواصات إحدى القوافل الهدف وتتبعها. تقوم هذه الغواصة بتبليغ القيادة التي تنسّق مع الغواصات الأخرى بالموقع، ويتمّ التحضير لكمين بحري تجهز فيه أكثر من قطعة بحريّة على الأهداف. يصبح هذا التكتيك أساسياً، بل ضرورياً، في حال كانت القوافل المستهدفة تملك مرافقة حربيّة من المدمّرات المجهزة بأجهزة "السونار" ومتفجرات العمل (Depth charges)، وهي براميل متفجرة يقوم تفجيرها في المياه بتكسير جدران الغواصة في حال عدم إصابتها بشكل مباشر بسبب ضغط المياه الحاصل.

  • يو-بوت ألماني من الحرب العالمية الثانية
    "يو-بوت" ألماني من الحرب العالمية الثانية

في حالات أخرى كاليابان، التي امتلكت مروحة واسعة من الغواصات بمختلف الأحجام، كان دور الغواصة تقليدياً أكثر، أي في الهجوم على القطع البحرية النظامية، وليس سفن التموين المدني والعسكري بشكل رئيسي. على الرغم من امتلاك اليابان الغواصة الأكبر في الحرب، وهي من طراز "آي-400" (I-400)، فإنَّها لم تجد النجاح الذي لاقاه الألمان في حربهم البحرية الهادفة إلى عزل الجزيرة البريطانية، عبر إغراق ملايين الأطنان من البضائع الضّرورية للاقتصاد والجهد الحربي البريطاني. 

على الرغم من النجاح الأولي الباهر لهذه الحرب في الأطلسي، فإنَّ الحلفاء سرعان ما ابتكروا التكتيكات والتكنولوجيات التي حدّت من نجاح هذه الغواصات بشكل كبير، وزادت الخسائر في أعدادها وطواقمها الذين كان أغلبهم يتعرّض للقتل أو للأسر في حال التدمير، ولا يتم استبدالهم.

من الديزل إلى طاقة الذرّة

قبل الانتقال إلى سرد حكاية الغوّاصة العاملة بالدفع النووي وتفاصيلها، لا بدّ من الإشارة إلى بعض العوامل التي تجعل من الغواصة، بمعزل عن الطراز، السلاح الفتاك الذي هي عليه. بداية، إن الغوّاصة تملك أفضلية الخفاء من ناحية عملها تحت السطح، رغم أن أجهزة "السونار" قادرة على رصدها، إلا أنَّ الأمور ليست بهذه البساطة، فأجهزة "السونار" تنقسم إلى قسمين، كما الرادارات، قسم سلبي (Passive) وآخر نشط (Active)، كما تظهر الصورة المرفقة.

 كما يوحي الاسم، تقوم الأجهزة السلبية بالاستماع حصراً، فيما ترسل الأجهزة النشطة موجات، وتنتظر تلقّيها لترسم صورة عن محيطها، ما الفرق عملياً؟ كما الرادارات الأرضيّة، إنَّ إرسال موجة يعني أنك ستعلم مكان العدو. وعلى الأرجح، إذا كنت ترى العدو في هذه الحالة، فالعدوّ يراك أيضاً بعد تلقّي الموجة. ونظراً إلى أنَّ الخفاء أساسي في طريقة عمل الغواصات، فإنها ستفضل أجهزة الاستماع السلبية القادرة على رصد الذبذبات والأصوات في المياه بطريقة كفوءة ودقيقة في الغواصات الحديثة.

  • طريقة عمل السونار السلبي والنشط.
    طريقة عمل "السونار" السلبي والنشط.

ثمة عامل آخر في فاعليّة الغوّاصات، هو قدرة بدنها على تحمّل ضغط المياه، الأمر الذي سيسمح لها بالغوص إلى عمق أكبر، وبالتالي يصعّب عمليّة رصدها. وثمة عامل آخر هو الفترة التي تستطيع فيها البقاء تحت المياه، ففيما تحتاج الغواصات العاملة بالديزل إلى الأوكسجين لتقوم بعمليّة الاحتراق، تستطيع الغواصات النووية البقاء تحت المياه لفترات أطول بكثير لا يحدّها إلا حاجة الطاقم إلى التموين، فكيف يقوم هذان النوعان من الغواصات بتشغيل نفسيهما إذاً؟

في حالة الغواصات الكهربائية العاملة بالديزل، في الغالب السّاحق من الغواصات، يصار إلى الصعود إلى السطح كلّ فترة، بحسب نوع الغواصة وعمق الغوص (يمكن سحب الهواء عبر قصبة هوائيّة). تعتمد فترة الصعود على حجم الغواصة وحمولتها من البطاريّات. وقد تتراوح من عدّة أيام إلى شهر ونيّف في الغواصات الكبيرة، مثل الغواصة الروسية من طراز "كيلو"، والتي تستطيع نظرياً البقاء تحت الماء لمدّة شهر ونصف الشهر.

يعتمد هذا الوقت أيضاً على استهلاك الطاقة بشكل أساسي في تشغيل التوربينات. نظرياً، تبلغ السرعة القصوى للغواصات النوويّة والكهربائية حوالى 25 عقدة، ولكن الأخيرة لا تبحر لفترة طويلة بهذه السرعة، نظراً إلى استهلاكها العالي للطاقة. تعتبر عمليّة الصعود إلى السطح من أكثر الوضعيات التي تكون فيها الغواصة في حالة انكشاف نسبي، نتيجة لسهولة رصدها.

تجاوزت الغواصات النووية هذه المشكلة، إذ إنها تمتلك فوائد هائلة تخلق هوّة بينها وبين مثيلاتها من الديزل، على الرغم من كلفتها العالية التي سمحت فقط لقلّة من الدول بامتلاكها. كما قلنا سابقاً، إن المدى النظري ومدّة غوص هذه الغواصات غير محدود نظرياً. نقصد بالغواصات النوويّة هنا الغواصات العاملة بالطاقة النووية، وليست الحاملة للرؤوس النووية. بعكس الديزل، يتمّ توليد الطاقة هنا عبر الحرارة التي يفرزها المفاعل النووي، التي تحوّل المياه المسحوبة إلى بخار بطاقة دافعة عالية تحرّك توربينات الغواصة، فضلاً عن تشغيل كلّ أجهزتها الكهربائية. تجدر الإشارة إلى أنَّ العمر النظري لهذه المفاعلات يبلغ حوالى 20 عاماً.

تظهر الأفضلية العملية لهذه الغواصات تلقائيّاً، فهي تستطيع الرقود أو الإبحار في الأعماق بصمتٍ والضرب بشكل مفاجئ، ومن دون أيّ إنذار سابق عن مكانها التقريبي في حال عدم رصدها بالصدفة. إضافةً إلى ذلك، يقوم كلا النوعين من الغواصات بتوليد الأوكسجين عن طريقة التّحليل الكهربائي.

الحرب الباردة: جنّة الغواصات النووية

لن ندخل في تفاصيل تاريخ هذه الغواصات وتطوّرها، وسنكتفي بشرح طرق استعمالها وخطورتها وطريقة تغييرها معادلات الردع المتبادل بين القطبين في الحرب الباردة.

بعد الحرب العالميّة الثانية، وبعد استحواذ كلا الطرفين، الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، على السلاح الذرّي، أصبحت المعضلة الأساسية هي إيصال هذه الشحنة المتفجّرة إلى أراضي العدوّ. قبل تطور الصواريخ البالستيّة، كانت قاذفات القنابل الاستراتيجية هي السلاح الأنجع. 

المشكلة الأساس في هذه الطائرات هي الزمن الذي تحتاج إليه للوصول إلى أهدافها، لماذا؟ فلنفترض أن طرفاً من الأطراف أراد شنّ هجوم نووي مفاجئ على الطرف الآخر، معتقداً أنه قادر على إبادة كل (أو أغلب) السلاح الذريّ للعدو عبر ضربة أولى (First Strike). ماذا يعني ذلك؟ يعني أنّ الطّرف الآخر سيفكّر بداية بهذه الطريقة، وسيعيش الطرفان حالة مستمرّة من الريبة من نياتهم، وخصوصاً أنَّ ما يقف على المحكّ هو الدولة بمن فيها، ويتصاعد التوتّر العالمي بشكل غير مسبوق، فيصبح الكوكب برميل بارود قابلاً للاشتعال في أيِّ لحظة.

لجأ السّوفيات إلى تطوير الصواريخ البالستية لتعويض نقص القواعد الجويّة من أراضي الولايات المتحدة، فيما قرّرت الولايات المتّحدة تسيير جزء من أسطول طائرات "بي- 52" الحاملة للقنابل بشكل مستمرّ على مسافة معينة من أراضي الاتحاد السوفياتي حتى نهاية الستينيات من القرن الماضي. 

كان هذا الحلّ مكلفاً، ولكنّه ضمن للطرفين ما يسمى بإمكانية "الضربة الثانية" (Second Strike)، على عكس ما قد يتبادر إلى الأذهان، فإنَّ تعزيز الردع بهذه الطريقة يؤدي إلى تخفيف التوتّر القائم عند التأكد من أن العدو متأكّد بدوره من أنه سيتعرض للضربة الثانية مهما فعل، وولدت نظرية التدمير المؤكد المتبادل (MAD)، وكان من المروّجين الرئيسيين لها روبرت ماكنامارا؛ وزير الدفاع في عهدَي كنيدي وجونسون.

على الرغم من أنَّ الغواصات النووية الأولى "كاليو إس إس نوتيلوس" الأميركية (USS Nautilus) من خمسينيات القرن الماضي لم تملك القدرة على إطلاق المقذوفات البالستية النوويّة، بل كانت غواصات هجومية تستخدم ضدّ قطع بحريّة أخرى بشكل رئيسي، فإنَّها غيّرت قواعد اللعبة. 

بعد سنة واحدة، قام السوفيات بتركيب صاروخ بالستي على غوّاصة عاملة بالديزل، وخلطوا أوراق اللعبة من جديد. بعد دخول أول غواصة أميركية عاملة بالطاقة النوويّة، حاملةً رؤوساً نوويّة للخدمة في العام 1959، انطلق سباق التسلّح الذي أخذ إطاراً جديداً، وهو صناعة هذا النوع من الغواصات الحاملة للرؤوس النوويّة.

في فيلم "دكتور سترينج لوف، كيف تعلمت أن أتوقّف عن الخوف وأحبّ القنبلة" لستانلي كوبريك، وهو من أفضل الأفلام في التاريخ، في رأيي، يعبّر الدكتور عن مفهوم الردع بشكل بسيط بشرحه سلاحاً يسمّى "سلاح يوم القيامة": "(هذا السلاح) مرعب… ولكنه في الوقت نفسه سهل الفهم، وقابل للتصديق بشكل كامل ومقنع".

ينطبق هذا الوصف على سلاح الغواصات التي تشكّل الرأس الثالث مما يسمّى بـ"الثالوث النووي" (Nuclear Triad)، إلى جانب كل من الأسلحة المحمولة جواً والمطلقة من البرّ عبر الصواريخ. الغوّاصات تؤمن بشكل قليل الكلفة ضمانة أنَّ العدو لن يستطيع تحديد مكان جميع الغواصات التي تجوب أعماق المحيطات في حال أراد القيام بالضربة الأولى، وبالتالي لا مفرّ من التعرّض للضربة الثانية في هذه الحالة.

في البداية، كانت الصواريخ المحمولة من الغواصات غير دقيقة، كما صواريخ "آر-13" السوفياتية "وبولاريس إي-1" الأميركية. كانت مدياتها تبلغ مئات الكيلومترات، ودقّتها بالكيلومترات، الأمر الذي سمح لها بالتصويب نحو الأهداف الكبيرة، كالمدن، فقط.

 سرعان ما تطورت تقنيات التوجيه، كما الغواصات نفسها التي حسّنت دقّة الإصابة إلى عشرات الأمتار في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، الأمر الذي مكّن الغوّاصات أيضاً من ضرب أهداف عسكريّة نقطويّة محصّنة. إذاً، تمّ تثبيت مكانها بشكل صلب كأحد أساسات منظومة الرّدع النووي، وخصوصاً مع دخول الصواريخ المتعدّدة الرؤوس الحربية (MIRV) الخدمة. يعني ذلك أن يملك الصاروخ الواحد 10 رؤوس حربية قابلة للتوجيه مثلاً نحو أهداف منفصلة. أصبح بإمكان الغواصات النووية تدمير قسم كبير من الأهداف الرئيسية للعدو بأمان، وخصوصاً بعد أن زاد مدى الصواريخ إلى آلاف الكيلومترات من دون الاقتراب حتى من سواحل العدو. تحقق الردع النووي إذاً.

  • صاروخ ترايدنت البالستي الأمريكي المتعدد الرؤوس النوويّة والمطلق من الغواصات النووية.
    صاروخ "ترايدنت" البالستي الأميركي المتعدد الرؤوس النوويّة والمطلق من الغواصات النووية.

"أوكوس" والصين

بحسب مقال لـ"بي بي سي"، فإنَّ أستراليا، بموجب اتفاق "أوكوس" (AUKUS) الذي يتيح لها بناء غواصات عاملة بالطاقة النووية عبر تكنولوجيا مقدمة من الولايات المتّحدة، ستصبح سابع قوّة في العالم تملك غوّاصات كهذه. بالنظر إلى مقدرات هذه الغوّاصات، كما ذكرنا في الأقسام السابقة، فهي تعقّد توازن الردع القائم في شرقي آسيا، المحيط الهادئ والهندي، نظراً إلى حساسية الردع النووي، لما له من تأثير في مصائر الدول والشعوب، حتى كسلاح دفاعي بشكل رئيسي.

إنَّ تسليم دولة بحجم أستراليا سلاحاً كهذا يعدّ سابقة في التاريخ الحديث. إن غوّاصات كهذه، وإن لم تزوّد بصواريخ حاملة لرؤوس نووية، فإنها تشكّل تغييراً نوعياً في التوازن الاستراتيجي، وخصوصاً أن اقتناءها يعدّ الخطوة الأسهل بالمقارنة مع تحميلها بالصواريخ النووية. يكفي ببساطة تبديل الصواعق والصواريخ وتقنيات الإطلاق، ويصبح لدى أستراليا غواصات قادرة على البقاء في الأعماق لأشهر وإطلاق الصواريخ النوويّة من الخفاء. لن تبادر أستراليا إلى ذلك على الأرجح، ولكن توزيع المسؤوليات على عدد أكبر من الأطراف يشعر الطرف المستهدف، وهو الصين في هذه الحالة، بانعدام الأمان.

قامت جمهورية الصين الشعبية في هذا الإطار بالتعبير عن استيائها بجميع الطرق الممكنة، عبر وسائل الإعلام التي حملت أقذع الردود وأعنفها، كما عبر الردود الرسمية، التي وإن حملت نبرة أكثر توازناً، إلا أنها لا تشي بما هو أقل. 

عبّر وزير الخارجية الصيني وانغ يي عن هذه المخاوف بقوله إن هذه الاتفاقية تشكّل خطراً خَفِيّاً على السلام والاستقرار الإقليمي والنظام الدولي، وأضاف أنَّ "بكين وموسكو لن تتعاملا مع كانبيرا على أنَّها قوة بريئة غير نووية، بل كحليف للولايات المتحدة يمكن تسليحها بأسلحة نووية في أي وقت".

في تقرير لمعهد "كارنيجي" الذي غالباً ما يعبّر عن وجهة النظر الغربية تجاه المسائل الدولية، يتمّ ذكر تقرير آخر من العام 2006 لمؤسَّسة "راند" المشهورة بأنها ذراع بحثية غير رسمية لحكومة الولايات المتّحدة. يقوم التقرير بسرد تاريخ الردّع الصيني من وجهة النظر الغربيّة، إذ يقول جايمس سي. مالفينون (James C. Mulvenon) إن الردع النووي الصيني تطوّر من "الردع الوجودي"، أي حماية وجود الدولة بما يهدّده فقط، إلى "الردع الأدنى" (Minimal Deterrence)، أي النسبة الأدنى من السلاح القادر على ردع العدوّ من القيام بأي عمل قد يظن أنه يستدعي الردّ، وصولاً إلى "الردع الأدنى القابل للتصديق" (Credible Minimal Deterrence). وفي إطاره، يتمّ تحديث القوّة النووية الصينية.

يمكننا وضع النظرة الصينية الذاتية في عدّة أطر، أقربها إلى الواقع، كما يبدو، هي نظرة لي بين (Li Ben) من معهد الدراسات الدولية في جامعة تسينغهوا. يعتقد الباحث، من خلال قراءته التاريخية لسياسة ماو تسي تونغ، أنّ استراتيجية الصين قائمة على منع الإخضاع باستخدام النووي(Counter-nuclear Coercion) ، عوضاً عن الردع الأدنى، وتقترب معظم الآراء الصينية من هذا الرأي في المنشور.

بالنظر إلى الأمثلة السابقة من الحرب الباردة، بعد دخول القوى في معضلة الأمن، وعند البدء بالتشكيك في الردع النووي القائم بين القوى التي تملك هذا السلاح، لجأت الأخيرة إلى تغييرات في قواعد التنافس، إما عبر التطوّر التكنولوجي والضغط الماديّ، وإما عبر تقديم معادلات جديدة أكثر حساسيّة لشروط اللعبة، ومن المستبعد أن تبقى الصين مكتوفة الأيدي. يبقى السؤال: أي طريق ستختار أم أنها ستغيّر المعادلة القائمة من جديد عبر أسلوب غير مألوف؟