في لبنان وزير فقير!؟
اليوم، يعيش أطفالنا أزمات عميقة. وغدا، سيخبرون أبناءهم وأحفادهم عن الفقر الَّذي ضرب لبنان منذ أواخر العام 2019.
حين تسأل وزير الشؤون الاجتماعية اللبناني هيكتور حجار: في أيّ فئة تصنِّف وضعك الاقتصادي والاجتماعي؟ يسارع إلى الردّ: أنا فقير. كيف؟ ولماذا؟ يقول: أعيش في منزل أسدّد ثمنه وفق سندات دين من المؤسَّسة العامة للإسكان على مدى 20 عاماً، ولم أسدّد أقساط ابنتي الجامعية منذ العام 2020، لعدم قدرتي المادية على سدادها في مواعيدها المستحقة. راتبي الشهري يبلغ 8 ملايين ونصف المليون ليرة لبنانية، أي أقلّ من 400 دولار، ما يجعلني قاصراً عن الحصول على أكثر من حاجة أساسية.
وحين نسأله عن حال الناس الذين تُعنى بهم وزارته، يستفيض في الحديث عن العجز المستفحل في الخدمات الاجتماعية التي يفترض تقديمها للفئات المحتاجة، ويضرب أمثلة تبدأ ولا تنتهي عن التقصير المتمادي جراء تدني الميزانيات من جهة، والارتفاع الجنوني في كلفة توفير تلك الخدمات من جهة ثانية، نتيجة انهيار الليرة اللبنانية أمام تحليق سعر صرف الدولار الأميركي.
ويقول: من غير المقبول أن تخصّص موازنة العام 2022 مبلغ 39 مليار ليرة لبنانية سنوياً فقط لتشغيل 240 مركزاً للخدمات الاجتماعية. لا يكفي ذلك للمحروقات، فمن أين نأتي بالمعونات الطبية التي نقدمها للمعوَّقين المسجّلين البالغ عددهم 1500 معوق؟ حليب الأطفال غير موجود منذ أكثر من سنتين لدى غالبية المؤسّسات. من أين نؤمّن الأتعاب المادية للأطباء ومساعديهم وللممرضات؟ ويبدي تخوّفه، في حال ظلَّ الواقع كما هو، من إقفال تلك المراكز التي تشكّل الدرع التنفيذية للوزارة.
يحدّد حجار نسبة الفقراء في لبنان بـ70%. وحين نفاتحه بأرقام اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) وأرقام البنك الدولي التي تشير إلى أنَّ نسبتهم 82%، يقول إنَّ النسبة ستزداد ما دامت المصارف تحتجز أموال اللبنانيين ولا تحرّرها، ويتحدَّث مطولاً عن البطاقة التمويلية وبرنامج شبكة "أمان" التي لا يتعدّى سقفها 125 دولاراً شهرياً (علماً أن تأمين أموالها واستمراريتها، إذا توفَّرا من قرض من البنك الدولي وسواه، غير مضمونين لأكثر من سنة إلى الآن).
يروي أجدادنا عن سنين المجاعة والموت في لبنان في زمن السلطنة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى 1915-1919، أنَّ محور دول الحلفاء حاصر لبنان كلّه، وتوقَّف تصدير الحرير الذي يُصنع من دود القز، وصادرت السلطات العثمانية القمح والغلال لإطعام جنودها، وحرمت اللبنانيين من الغذاء، وغزا الجراد البلاد، فقضى على الأخضر واليابس.
اليوم، يعيش أطفالنا أزمات عميقة. وغدا، سيخبرون أبناءهم وأحفادهم عن الفقر الَّذي ضرب لبنان منذ أواخر العام 2019، وطالت نسبته 82% من اللبنانيين والسكّان، وعن الجوع والعوز والوباء... فيسأل الأبناء والأحفاد عن أدوار البطولة وأركانها في هذه الحقبة، لتأتي الإجابة: الحصار مضروب من الحلفاء والأشقّاء على حد سواء، ومصادرة الموارد مُحكمة من قبل المصارف التي تحتجز أموال المودعين، وعلى الأرجح أنها بدَّدتهم، كما أنَّ لمصرف لبنان الدور الريادي في تبديد الاحتياطات المالية، وآخر ابتكاراته رفع الدعم عن السلع الأساسية الضرورية والحيوية. أضف إلى ذلك، التلاعب الخفيّ - الظاهر بسعر الصرف في الأسواق المالية ولدى الصرّافين.
ودور الجراد الذي أكل الأخضر واليابس تؤديه بإتقان وباحترافية أكبر في تجويع الناس فئة التجّار والمحتكرين وطبقة الفاسدين من السياسيين، والوباء معقود لواؤه بفيروس "كوفيد 19"، الذي قضى على الآلاف، وأصاب مئات الآلاف، وسط انهيار كبير في قطاعات الصحّة والاستشفاء والدواء، وزد ما شئت، وكيفما غرف عقلك من المشاهد التي قد لا تراها حتى في الأفلام.
تقول الجنة الاجتماعية والاقتصادية لغرب آسيا (الإسكوا) في أحدث تقرير لها في نهاية العام 2021، تحت عنوان "الفقر المتعدد الأبعاد في لبنان: واقع أليم وآفاق مبهمة": "إنَّ الفقر تفاقم في لبنان إلى حدٍّ هائل في غضون عام واحد فقط، إذ أصبح يطال 74% تقريباً من مجموع السكَّان. وإذا ما تم أخذ أبعاد أوسع من الدخل في الاعتبار، كالصحة والتعليم والخدمات العامة، تصل نسبة الَّذين يعيشون في فقر متعدد الأبعاد إلى 82% من السكّان".
وتواصل معدلات الفقر ارتفاعها. وتذهب التقديرات الخاصة بالبنك الدولي ومرصد الاقتصاد اللبناني إلى أنَّ نسبة السكّان اللبنانيين الذين يعيشون تحت خط الفقر الدولي البالغ 5.50 دولارات للفرد يومياً ارتفعت، بحيث سجّلت المزيد من الصعود عن 28 نقطة مئوية، وسط صعوبات تواجهها الأسر في الحصول على الغذاء والرعاية الصحية والخدمات الأساسية الأخرى... ويجد المرصد أنَّ تأثيرات التضخم ترتدّ بشدة على الفقراء.
وإذا تعمَّقنا في توصيف مفهوم الفقر، فإننا نجده يتمثّل بحالة الحرمان من بعدين أو أكثر من أبعاد الفقر، وهي الدخل والمسكن والصحة والتعليم، لكن مع تطوّر مقاربات التنمية، اتَّسع ليأخذ في الاعتبار جميع أوجه الظروف المعيشية، وأنواعاً مختلفة من الحرمان، لا تقتصر على الدَّخل. يُسمى هذا المفهوم الجديد "الفقر المتعدد الأبعاد"، ويُقاس بالحرمان من 6 أبعاد أساسية هي: التعليم، والصحة، والخدمات العامة، والمسكن، والأصول والممتلكات، والعمل والدخل.
في الواقع، إنها صورة سوداوية، واللبنانيون يأملون تبديدها اليوم قبل الغد، لكن لا ثقة لديهم بما يُحكى عن خطة تعافٍ ماليٍّ واقتصاديٍ يرضى عنها صندوق النقد الدولي، ومؤشرات السلبية تكمن في موازنة العام 2022.
يُضاف إلى تعقيدات المشهد ما يتردّد بقوة عن أنَّ الصندوق الدولي لم يصل بعد إلى قناعة بأنَّ ما قدَّمه الوفد اللبناني المفاوض معه يشكّل نواة خطة يمكن البناء عليها خلال جلسات المفاوضات المقبلة المرتقبة.