موازنة اللاموازنة في لبنان
الموازنة سياسيّة بامتياز. تستهدف إضعاف ما تبقّى من فعاليّة اقتصادية، وتخضع لضغوطات الجهات الدوليّة.
أزمة كبيرة حلَّت بلبنان في تشرين الثاني/نوفمبر 2019، كان من أبرز نتائجها انكشاف العيب البنيوي في الاقتصاد، والفشل في بناء الدولة الحديثة، والإخفاق الذريع للنظام الريعي، والخلل الكبير في النظام الضريبي غير العادل، واستنزاف الدولة والمجتمع، ورهن الاقتصاد وتحويله إلى اقتصاد مدولر واستهلاكي غير إنتاجي، والخضوع للتصنيفات السّلبية العالمية، وصولاً إلى حجز أموال المودعين وانكشاف المصارف وفضيحة السياسة النقدية وانهيار الليرة.
كلّ ما حصل يثبت أنّ النظام الاقتصاديّ اللبناني هو نظام سياسي عميق يؤدي دوراً ووظيفة، وهو اليوم يبحث عمن يعطيه هذا الدور. هذا التوجّه تؤكده الطريقة المعتمدة في موازنة تُحمّل الشعب والواقع الاجتماعي مسؤولية ما وصلت إليه الحال، وذلك من خلال التالي:
1- اعتماد النهج السابق والخيارات الاقتصادية والمقاربات النقدية نفسها، وعدم الاقتناع بأنّ الموازنة هي تخطيط وإصلاح وخيارات وتقدير، وليست مجرّد أرقام تخدم الريع على حساب الإنتاج، وتتغذى على إيراداتٍ من جيوب الناس تبلغ 39 ألف مليار ليرة.
2- الموازنة سياسية بامتياز. تستهدف إضعاف ما تبقى من فعاليّة اقتصادية، إذا وجدت، وتخضع لضغوطات الجهات الدوليّة ومطالبها.
3- عدم القيام بالتصحيح الضريبي والاستمرار بالخلل السابق، من خلال الإعفاءات الكبيرة للشركات والمصارف على حساب حقوق المواطنين وإعطاء الفرص لأصحاب رؤوس الأموال. مثال على ذلك، غياب الضريبة على الثروة والأملاك البحرية، وعدم اعتماد الضريبة التصاعدية للحدّ من جشع التجّار، ما يثبت افتقادها العدالة الاجتماعية، وعدم اعترافها أصلاً بالواقع الاقتصادي الاجتماعي المأساوي، بل على العكس.
4- افتقادُ الموازنة خطةً اقتصاديّةً وإصلاحيّةً، ما يساعد على إطباق سياسة العزل والتفريغ والتهجير.
5- تثبيت مبدأ التواصل والتشبيك الاقتصادي مع الغرب فقط، وقطع الطريق على أيّ تنويع في الخيارات الاقتصادية (التواصل مع الشرق مثلاً)، وذلك من خلال سياسة الضرائب وغياب الاستثمار وتثبيت دولرة الاقتصاد.
6- غياب التحفيزات الإنتاجية في الزراعة والصّناعة، إذ يبقى التوجّه نحو الإنتاج حبراً على ورق، بعد أن بلغت حصّة وزارة الصناعة 0.02% من حجم الإنفاق، و0.23% لوزارة الزراعة.
7- رفع نسبة العجز إلى 10 تريليون ليرة، يضاف إليها 5 تريليون للكهرباء، وزيادة النفقات التشغيلية بنسبة 171%، لتصبح 49 ألف مليار ليرة، ورفع الإيرادات الضريبيّة بنسبة 177%، لتصل إلى 39 ألف مليار ليرة، ما يفتح الباب للعودة إلى سياسة الاستدانة أو طبع الليرة لتغطية النفقات وحاجات القطاع العام، ويسهّل على صندوق النقد الدولي فرض شروطه. كلّ هذا سيؤدي إلى ارتفاع غير مضبوط في سعر صرف الليرة مقابل الدولار وتعدد أسعار الصرف بما لا يحتمله الاقتصادي اللبناني، وإلى تشكيك كبير في تحصيل الإيرادات، في ظلّ غياب الاستثمارات.
8- نهج تغطية عجز الكهرباء لا يزال مستمراً، يُضاف إليه تحميل المواطن فارقاً كبيراً ومخيفاً في الأسعار، من دون الحصول على التيار الكهربائي.
9- نشر الموازنة قبل خطّة التعافي يعطي فكرة عن كيفية التفكير النقدي، ويؤكّد الشكوك في تحميل المودعين والدولة الخسارة الماليّة لخطة المصارف ومصرف لبنان، إذ إنَّ من غير المنطقي الفصل بين خطة التعافي وتوجّهات الموازنة.
10- غياب النفقات الاستثماريّة، ما يثير القلق بشأن التّخطيط لإضعاف النمو وعدم التوجه إلى تطبيق الإصلاحات، ويجعل لبنان خاضعاً أكثر لقبضة صندوق النقد الدولي اقتصادياً وسياسياً.
11- زيادة كلفة الدين العام لتُشكّل 16% من نفقات الموازنة العامة، إذ تمَّ رفع الفوائد على سندات الخزينة الداخلية 115% (6417 مليار ليرة)، والفوائد على سندات الخزينة الخارجية 900% (1200 مليار ليرة).
12- مطالبة وزير المال بصلاحيات استثنائية لإنفاق 28% من الموازنة (13 ألف مليار ليرة) ضمن نفقات خاصّة ليست حتى ضمن خطة إصلاحية.
13- تكريس ضياع أموال المودعين، وإعطاء الحقّ القانوني للمصارف بالتهرّب من إرجاعها لأصحابها، إذ نصَّت الموازنة على "تسديد المصارف الودائع الجديدة بالعملة الأجنبيّة التي تودع لديها اعتباراً من تاريخ نشر هذا القانون بالطريقة عينها، ورفع القيمة المضافة عليها"، وهذا تشريع قانوني بنهب كلّ الودائع السابقة، إذ حصرت تسديد الودائع بالجديدة فقط.
لا يكفي أن نقول أنْ لا فائدة مرجوّة من موازنة كهذه، بل هي حتى لا تُشبه موازنة بلد يعاني من ثالث أكبر أزمة اقتصادية في العصر الحديث. فعلاً، إنّها موازنة اللاموازنة!