نكبة فلسطينيي مخيم اليرموك الثانية

في السنة التي انتقل فيها الفلسطينيون إلى سوريا، عاشوا جنباً إلى جنب مع المواطن السوري في هذه المخيّمات في حلب واللاذقية وطرطوس.

  • مخيم اليرموك في دمشق، الذي يفصله عنها 8 كيلومترات فقط
    مخيم اليرموك في دمشق، الذي يفصله عنها 8 كيلومترات فقط

هرباً من الاحتلال الإسرائيلي، عاش فلسطينيو سوريا رحلة لجوء وبحث عن الأمان والاستقرار في بلد آخر، حين تركوا فلسطين أوّل مرّة طمعاً بوطنٍ أكثر سلاماً، فوجدوا وطناً مؤقتاً، ليفقدوه بعدها مرةً أخرى، فبعد أن هجرّهم العدو الإسرائيلي مرة، عاد أتباعه المدعومون منه ليهجّروهم من الأراضي السورية مرةً أخرى. 

تاريخ النزوح الفلسطيني

بعد "سايكس بيكو" والحدود التي وضعها الغرب لتجزئة بلادنا العربية، والاحتلال الصّهيوني الذي زُرع في قلب الوطن العربي، نزح آلاف الفلسطينيين قاصدين سوريا، التي احتضنتهم وقامت بإعمار مساحات واسعة لهم تحت مُسمى "مخيم"، وقدمت لهم الحقوق نفسها التي يتمتع بها المواطن السوري مع الاحتفاظ بحق العودة.

 وكان أكبر هذه المخيمات هو مخيم اليرموك في دمشق، الذي يفصله عنها 8 كيلومترات فقط، والذي ضم تحت جناحه مواطنين سوريين وفلسطينيين عاشوا بأمان وسلام لعقود طويلة.

تأسّس هذا المخيم بعد النكبة بعام على مساحة تبلغ 2،1 كيلومتر مربع، وضمّ أكثر من 120000 فلسطيني، لم يتبقَّ إلا القليل منهم بعد بدء الحرب السورية.

ما بين التهجيرين "النكبتين"

في السنة التي انتقل فيها الفلسطينيون إلى سوريا، عاشوا جنباً إلى جنب مع المواطن السوري في هذه المخيّمات في حلب واللاذقية وطرطوس، ونالوا حقّ التملّك والبيع والشراء والتوظيف وكلّ ما يتمتّع به أي مواطن سوري من حقوق مع ما يترتّب عليه من واجبات.

حدّثني العم أبو أحمد عن هذه المرحلة، وقال: "في العام 1948، وعلى مساحة 2 كيلومتر مربع، غرس الفلسطينيون أوتاد خيامهم في تربة الياسمين جنوبي دمشق، فكان مخيم اليرموك هو الأمن والاطمئنان، كما كان ملاذاً آمناً وباحة حرية ومتنفساً، ففي مخيّم اليرموك يتساوى الجميع بالعيش والحياة، كما كان واحةً ومهداً مستقراً يعيش فيه الفلسطيني والسوري، إلى أن أتى اليوم المشؤوم وهُجرنا".

النكبة الثانية

قطن مخيم اليرموك منذ بداية تأسيسه 165 ألف فلسطيني. وقد ضمَّ بين سوريين وفلسطينيين أكثر من نصف مليون مواطن. ومع بداية الحرب على مخيم اليرموك، لم يبق إلا 20 ألف فلسطيني، بعد أن هُجّر معظمهم، ليتحوّلوا إلى لاجئين مرة أخرى في محافظات ثانية وفي دول أخرى.

تحدَّثت يافا، ابنة مخيم اليرموك، عن ذلك اليوم الأسود المشؤوم، وعن أوّل دخولٍ للجماعات المسلّحة إلى المخيّم، والتي أكَّدت أنَّها لم تكن من المخيّم، ولكنها تجمّعت في جامع عبد القادر. خرجت هذه الجماعات إلى الأحياء مدجّجة بمختلف أنواع الأسلحة، وهي تهتف "حرية حرية"، ولم تكن سلمية أبداً، بحسب قولها.

تقول يافا: "استهدفت الدولة السورية المسلّحين في الجامع فقط، ولم تدخل إلى المخيّم أبداً، بل استقبلت الخارجين منه، وأرسلتهم إلى الوجهة التي أرادوا الانتقال إليها. ولو لم تفعل الدولة ذلك، لانتشرت الجماعات المسلَّحة، وبعدها تنظيم "داعش"، في أرجاء العاصمة".

أكملت يافا الحديث عما فعله المسلّحون حينها، حين طلبوا من الأهالي الخروج من المخيّم وعدم العودة، لكنْ عاد كثيرون منهم بعد 10 أيام ليتفقّدوا منازلهم، ليجدوا أن المسلّحين اتخذوها متاريس، واستغلوا أسطح المباني للقنص، وأجبروا الأهالي على إعطائهم ما يطلبون من أغراض وطعام وماء.

المشهد الذي بقي في الذاكرة في يوم 16-12-2012، تقول يافا، كان مشهداً مأساوياً يشبه مشهد النكبة في فلسطين، عند خروج أكثر أهالي المخيم بعد تدمير المسلحين معظم أرجائه وسرقة محتوياته وإحراق الأبنية والمدارس والمحال فيه.

وقبل هذا اليوم تحديداً، كان أهالي المخيم، كما قالت يافا، يعيشون بسعادة، في وقت كان جوارهم كله مدمّراً، وكانت تصلهم تهديدات بقصف المخيم عن طريق رمي منشورات تحمل هذه التهديدات على مدارس الحي من الجوار، ما دفع أهالي مخيم اليرموك إلى تشكيل لجان شعبية لحراسة مناطقهم، واضطر المدرّسون إلى إعطاء الطلاب بطاقات بلاستيكيّة تحمل أسماءهم، في حال حدث شيء لهم، حتى يستدلوا عليهم من خلالها.

أشارت يافا إلى أنها حاولت العودة مع أهلها في صيف السنة التالية إلى المخيم، فوجدت أن منزل جدّها تحول إلى مستشفى ميداني لجرحى المسلحين، وقالت: "توفي الكثير من كبار السن، بسبب دمار أملاكهم وتهجيرهم، إذ إنهم لم يستطيعوا تحمّل النكبة الثانية مرة ثانية. ولو لم تدخل الجماعات المسلّحة إلى المخيم، لكانوا حتى الآن يعيشون في مخيّم اليرموك الَّذي لم يشعروا يوماً بأنهم لاجئون فيه أبداً".

لجوء ثالث

من فلسطين، إلى سوريا، ومنها إلى بلاد العالم، عاش لاجئو المخيّم لجوءاً ثالثاً ومعاناة كبيرة، وحملوا هماً أكبر في رحلة البحث عن هوية ووطن يشعرون فيه بالأمان، ويكملون حياتهم فيه، غير متناسين وطنهم فلسطين.

أخبرتني الشابة الفلسطينية آلاء (23 عاماً) عن معاناة الخروج من المخيم، وصولاً إلى المقر الحالي لعائلتها في ألمانيا، وقالت: "كجيل فلسطيني لاجئ، إنَّ حالة اللجوء الأولى هي حالة تم توريثها من الجدّ إلى الأب إلى الابن، بحكم عدم وجود أيّ حلّ لقضية اللاجئين".

وتحدثت آلاء عن معاناة التنقّل، مبينةً عدم وجود فرق كبير في التفاصيل بين معاناة اللاجئ السوري المتضرّر من الحرب واللاجئ الفلسطيني المهجّر للسبب ذاته، باستثناء الفروقات التي تتلخّص بحرية التنقل وحرية التفكير في الملجأ التالي.

وفي تجربتها خلال مرحلة الإقامة في لبنان، كان لحرية التنقّل أثر كبير في حياتها. كونها لاجئة أو نازحة سورية، كان تمتلك في فترة من الفترات حرية التنقّل بين لبنان وسوريا، والتي نتجت منها تسهيلات في المعاملات القضائية وتسهيلات مرتبطة بالدراسة. 

ومع إغلاق الحدود، كان الأمر معدوماً، لأنَّ الحدود كان مغلقة في الاتجاهين. وفي أحسن الحالات، كان من الممكن الذهاب إلى سوريا، ولكن من المستحيل الرجوع إلى لبنان، ما نتج منه تفكك عائلات كثيرة اضطرت إلى هذا النوع من الحياة، بسبب حرية التنقّل المحدودة، إضافةً إلى المعاملة السيئة التي لاقوها من فلسطينيي مخيم برج الشمالي في لبنان، باعتبارهم لاجئين فلسطينيين سوريين.

شعرت اللاجئة السورية بشعور اعتبرته مخجلاً، إذ إنّ الفلسطيني السوري المهجّر، رغم أنه فلسطيني، عاش حالة من الإبعاد داخل المجتمعات الفلسطينية اللاجئة خارج سوريا باعتباره "لاجئاً"، وكان منبوذاً في بعض المناطق التي نزح إليها قسراً، ما شكّل أزمة انتماء، وتساءل: هل أنا فلسطيني أو سوري؟ وإلى أي مجتمع أنتمي؟

وبعد العناء والنزوح الثالث إلى ألمانيا، تؤكّد آلاء أنّ كلّ التناقضات تنتهي بلا شك خارج المجتمعات العربية، ففي المجتمعات الغربية لا فرق بينها وبين أي عربي آخر، وكلهم في الميزان نفسه، ولكن رغم هذه المساواة في الظاهر العام، لن تكون ألمانيا وسواها وطناً بديلاً من سوريا، وتحديداً كملجأ أول لهم. وبكل تأكيد، لن يكون أي وطن بديلاً من فلسطين.

هذه المساواة في طابعها الظاهري حملت في طياتها نوعاً من العنصرية التي تحدَّث عنها وزير الخارجية الألماني خلال معركة "سيف القدس"، بتبريره تكميم الأفواه واعتقال المشاركين في المسيرات الداعمة لفلسطين بوصفها "ديمقراطية دفاعية"، وليست حرباً على هُوية الإنسان الفلسطيني داخل المجتمع الألماني.

وأكَّدت الشابة الفلسطينية أنَّ مكانة سوريا لا تقلّ عن مكانة الوطن "فلسطين" طبعاً، لكن المغزى من بقاء اللاجئ لاجئاً هو حفاظه على إرثه الأول فلسطين، وليس تبديل هُويته عند كل محطة، مؤكدةً انتظار الآلاف قافلة العودة إلى مخيم اليرموك، فمهما حصل المهجّر على معونات، لا معونة مستدامة أكثر من عودته إلى منزله، والأمل إذا كان جدّياً أو مبنياً على تكهّنات، فكله مرتبط بما تقرره الدولة السورية من عودة أو عودة مؤجلة أو وعود تفضي إلى اللاعودة.

الواقع الحالي لمخيّم اليرموك

على أنقاض الحرب وبراثنها، تقوم الدولة بجهود كبيرة لإزالة الركام وآثار الدمار، إذ تمَّ إنجاز ما يقارب 90% من عملية إزالة الأنقاض من شارع 30 حتى شارع فلسطين، على أن تكون الوجهة القادمة هي منطقة حي التقدم وحي 8 آذار (دير ياسين).

وينتظر الأهالي تسارع العمل ليتمكّنوا من العودة بسرعة، إذ إنَّهم لا يستطيعون العودة في الوقت الحالي، رغم سماح الدولة لهم بالعودة، بسبب عدم وجود الخدمات والبنى التحتية وانتشار الركام والأنقاض بشكل كبير، رغم تسجيل لجان الحي العديد من طلبات العودة.

واقع القضية الفلسطينية ومستقبلها

يوضح أبو سامر موسى، مسؤول العلاقات الفلسطينيّة لحركة الجهاد الإسلامي في لبنان، أنّ متتبع مسار القضية الفلسطينيّة منذ سنوات يستطيع اليوم القول - بما لا يترك مجالاً للشكّ – إنّ القضية تسير بشكل متنامٍ ومتصاعد باتجاه القوّة، وتعزيز مكانتها على المستوى الدولي والمحلي، مع انكشاف الوجه الحقيقي للكيان ولبعض الأنظمة العربية وتآمرها وتهافتها على التّطبيع.

ويبيّن أن القضيّة استطاعت تعزيز مكانتها من خلال قوة المقاومة التي فرضت حالة ردع وتوازن للقوة مع الكيان الصهيوني في غزة، وبداية ظهور المقاومة بشكل لافت وفعال في أراضي 67 بعد معركة جنين 2002، وتفاعل أبناء فلسطين 48 في معركة "سيف القدس" الأخيرة.

وما نشهده الآن من عمليات اشتباك شبه يومي مع الكيان الصهيوني، يؤكد أنّ الشّعب الفلسطيني في الضفة، بمعزل عن وجود الأجهزة الأمنية الفلسطينية المتعاونة مع الاحتلال وضغوطاتها، يسير نحو التّحرر. باختصار، نحن نعيش أمام انتصارات تحقّقها المقاومة الفلسطينية ضمن محور المقاومة.