أزهر جرجيس: أين الخبز والعاطفة.. أين البلاد؟

يستمر مسلسل هرس الكرامات مع استمرار التغيّر السياسي، تعود نادية لتمارس نشاطا سياسياً سرياً، ويعود الحب ليؤسس ما يشبه الثورة والغضب في نفوس الجميع.

  • رواية
    رواية "حجر السعادة" للكاتب العراقي أزهر جرجيس.

تتعقبُ رواية "حجر السعادة" (دار الرافدين 2022) للكاتب العراقي أزهر جرجيس (1973) سيرة ذاتية لطفلٍ في عمر العاشرة، وتقدم قصة مليئة بانفعالات داخلية وصراعاتٍ عاشها غارقاً في البؤس، والعنف الجسدي، والتفكك الأسري، إلى جانب معاناة في البحث عن المأوى ولقمة العيش.

يحلم الطفل كمال، أحد سكان حي المياسة في مدينة الموصل، بالعيش والموت بسلام. ونكتشف مقدار رهافته حين يدفعهُ الخوف من أبيه وزوجته إلى الهرب، والانخراط في عالم السارقين واللاأخلاقيين. تفتقر المدينة آنذاك إلى الخبز والعاطفة، ويصوّر لنا الكاتب أقسى التفاصيل التي عاشها؛ كأن يلوك التبن حين يتضور جوعاً ولا يقوى على بلعهِ. "غير أن أسوأ ما جابهني في تلك الأيام وسحق كرامتي هي الضحكات المشوبة بالتهكم والتي يطلقها الصغار عندما أتأتئ بالكلام أمامهم". هكذا يصاب بالتأتأة نتيجة الضرب المبرح، إذ يخرج صوته بتعابير مفجعة عن حياته القاسية في منزل أبيه، الأمر الذي يدفعه إلى الهرب من بطشه حين تتعقد الحكاية ويُتَّهمُ بإغراق أخيه ريمون في نهر دجلة. يحيا كمال عقدة الذنب بما لم يفعله، ويحركه الشعور بالظلم، غير أنه يعثر في أحد الأركان المظلمة على حجر يتحكم لاحقاً في ردود أفعاله، وتتهيأ له الفرص لتقرير مصيره، وتوجيه عواطفه عبر مراحل حياته المتلاحقة. يجدُ نفسه في العاصمة، ونقرأ معه حكايات الأسى على وجوه الأطفال المشردين، فكمال، ولم يتجاوز الحادية عشرة، أمام بغداد الكبيرة، تلك الدوامة التي تطحن من يطأ أرضها. لكنه يحاول عبثاً، إذ يظل الجوع بطلاً لمعظم فصول حياته، وافتقادُ الحنان جرحاً في أعمق نقطة من ذاته، لذا نراهُ متسولاً بين أزقة خطيرة، باحثاً عن كسرة خبز في عتمات ليلها المظلم.

يحضرُ صاحبُ رواية "النوم في حقل الكرز" بأسلوبه الساخر، ويُكمل تهكّمه من واقع تسِمهُ الكوميديا السوداء، ذلك أنه يعرضُ ما يقع على رأس الصبي بعباراتٍ تعكس مرارة أساه، وجوانب حياته المترعة بالبؤس. لذا يلجأ إلى مناقشات ذاتية عن الوجود، ويصل بسنيهِ القليلة إلى إجاباتٍ تدور حول عبثيته: "أتساءل لماذا لم يخلقني الله خروفاً؟" هكذا تُسيّرهُ الأقدار إلى خان الرحمة، حيث يملكه رجل يدعى "مولانا" ويشغّل أطفالاً مشردين، يتودد إليهم ويجبرهم على الانخراط  في عالم الجريمة. وهنا نقرأ أسوأ ما تعود به العمالة على صغار السنّ، إذ يكتشف كمال تفاصيلَ لا تناسب عمره، ويرى كيف يُغتصَب الأطفال، ويطّلع على عالم الجنس والتحايل، وهكذا كلما وقع على ملجأ يلقّمه بهروب جديد. يسكن في إحدى المراحل تحت عربة شاي جوالة، في مشهد يرسم صورة حقيقيةً عن عالمنا الموحش، وعن مكان مجنون، يجوبه أطفال لا حول لهم ولا قوة، يجبرهم الخوف على فعل ما لا يريدونه: "أنت لن تجد أتباعاً يسهل إخضاعهم كالجياع". 

يتحول الحجر إلى ما يشبه التميمة، فكلما جاع الطفل، ألقمه فمه، وكلما تعرض للضرب والمهانة، يحشره بين أسنانه، إذ يعمل بتأثير عجيب في تدريبه على الصمت والاستكانة، ويلعب دوراً في إقناعه بقسوة الحياة، وأن لا سبيل لمجاراة الغابة التي تحيط به سوى بالخنوع، بما يمثل مأساة المرء في صراعه مع بلادٍ تحكمها الاضطرابات السياسية، وتعيش أحلك أيامها. يلتقط خليل المصور الطفلَ من أحد الشوارع، ويعلّمه مهنة التصوير. يقدم له ما لم تقدمه الحياة بأسرها؛ المسكن والعمل. ليكبر هناك كمال المشرد، ونستشف مقدار رقتهِ حين نمر على مشاهد الحب بينه وبين نادية ابنة صاحب المطبعة. تظهر العاطفة في حواراتهما، ويرتبط عالمه بما يحدث حولهما من تقلبات سياسية، تمتزج السياسة بالحب، ويظهران كسببين لأقصى حالات السعادة واليأس في آن معاً. نشاهدهُ يحملُ كاميرته ويجوب شوارع بغداد العتيقة، حين تسيطر عليها زعامات وميليشيات مسلحة، وحيث تسيّد الخطاب الطائفي. يؤرخ حيوات الناس فيها، ويسجّل بصورهِ ما يطرأ عليها من تغيرات: "نحن لا نلتقط الصور، بل ندوّن التاريخ". يشهد بعينيه سلسلة أخرى من البؤس، حين تتزوج نادية مجبرة وتسافر، وبعد تدمير سدنة النظام الحاكم لمتحف الصور الخاص بتاريخ المدينة تحت تأثير كتبة التقارير، والمتنفعين بخدمة القيادة. وهنا ثمة أسىً من نوع آخر، إنه الأسى على بلاد مسلوبة، ومتاحف تهرَّب بأكملها، وبلاد بحجم التاريخ تُنهب وتحوّل مراكزها الحضارية إلى مبانٍ للتسليح، وإلى مستعمراتٍ تروّج لأنشطة دينية مجهولة المقاصد. كله يعمل على تغيير هوية المكان، والتلاعب بإرثه، إلا أن القدر لا يرحم أحداً، إذ نجد كمال في أحد المشاهد مسلوب الإرادة أمام طاهر الحنش، أحد قادة الميليشيات، في فترة ينعي الجميع غياب السعادة، واشتعالَ الحروب من أعقاب بعضها. تُسلب النفوس راحتها، وتُسحق هوية المدينة، وتشتبك أصوات من يهيئون للجميع محبة البلاد فيما يعملون على اغتصابها.

يستمر مسلسل هرس الكرامات مع استمرار التغيّر السياسي، تعود نادية لتمارس نشاطا سياسياً سرياً، ويعود الحب ليؤسس ما يشبه الثورة والغضب في نفوس الجميع. يتحول وجه البلاد عندما تخرج التظاهرات الساخطة، ويرفض الجميع حكم الميلشيات المتحكمة بحيواتهم. وعلى الرغم من مجابهتم  بالرصاص، إلا أن صوت الشعب يعلو حين يصاب كمال أثناء محاولته إنقاذ إحدى الطبيبات المسعفات. لكن الموت يعمل على خذلانه، إذ سرعان ما يقع في غيبوبة  تنسف جميع أفكاره السابقة. ذلك أنه ينجو منها، ويذهب إلى دجلة، وهو على أعتاب الستين، يرمي حجر سعادته في مياهه، ويتخلص من تأثيره الذي منعه من الشعور بالغضب. يفعّلُ سخطه إزاء العالم من حوله:" عليّ الخلاص من حجر السعادة أولاً.. لقد أنساني الحجر غضبي". وتحلّ ثورة مشتعلة عوضاً عن حياة عاشها صامتاً لطرد الشعور بالمهانة، إلى جانب رغبة عارمة بالانتفاضة ضد السكوت، وضد أسوأ ما تسلكه الشعوب إزاء جلاديها، بما يخدم الإمكانية لطرح الأسئلة الكبرى حيال تفاصيل الحكاية، وبما يضمن استمرار صوت الطفل الميت في داخله وهو ينادي: أين الخبز والعاطفة.... وأين البلاد؟

"نحن شعب مسالم، آلهتنا من طين يذوب رقة للمطر، وجدنا العظيم يبكي كالطفل لفقد صديق ثم يهيم مجنوناً في الفلوات بحثاً عن عشبة للخلود. كان ديننا المحبة وصلاتنا الحراثة، نقدس النخلة ونربّي الحمام فوق الأسطح، كما نروّض الثيران ونمنحها الأجنحة.. فمن أين جاءنا حب الحروب والشوق لسماع طبولها؟".