الأبوذية.. رفيقة العراقيين في أفراحهم وأحزانهم
ترافق العراقيين في أفراحهم وأتراحهم، الكبيرة منها والصغيرة. ما هي الأبوذية؟ وما علاقتها بالبوذية؟
في الأفراح والأحزان، ترافقُ الأبوذية العراقيين كطقس حياتي لا شعري فحسب. بمقطوعة شعرية تُستَهلُّ الأغنيات، وتؤرَّخ التفاصيل اليومية، والأحداث الكبرى أيضاً.
في مشهدٍ مألوفٍ في الجنوب العراقي، يشقُّ المشحوفُ (زورق نهري طويل وقليل العرض) ماء الأهوار، بواسطة رجل ذي سُمرة لامعة يعتمر كوفية، وهو يغني موالاً بصوتٍ شجي، يتكوّن من 4 أشطرٍ شعريةٍ، تنتهي 3 منها بكلمةٍ مسجوعةٍ، أما الشطر الأخير، المسمى "القفلة"، فيرتكز على كلمةٍ نهايتها حرفا الياء والهاء "يه".
تبتدئ الأغاني بالأبوذية، وقد تنتهي بها أحياناً عبر موّالٍ حزينٍ وعذبٍ. لا يتوقف الأمر عند الغناء، إنما يمتد حتى المجالس الحسينية، إذ يفعلُ الناعون الأمر نفسه.
يرى الباحث المتخصصُ في التراث الشعبي العراقي، عادل العرداوي، في حديثه إلى "الميادين الثقافية" أنَّ: "الأبوذية كفنٍ ظهرت في منتصف القرن ال ـ18 الميلادي في أرياف الناصرية، وكان أول من نظم بها الشاعر الشعبي الراحل حسين العبادي، الذي عاصر زعيم قبائل المنتفق آنذاك، الشيخ ناصر الأشقر السعدون، مؤسس مدينة الناصرية، مركز محافظة ذي قار اليوم".
ويشير صاحب كتاب "الله بالخير" إلى أنَّ "أول بيت أبوذية يردنا من قبل مبتكره الشاعر العبادي، خاطب فيه زوجته بعد جفوة وقعت بينهما ونصّه:
ترف لهواك من مثلي وله دوم
بثنياها الخلل بين والهدوم
أملّ الفرس لو كبرت والهدوم
شبصرك برذعه النامت عليه.
لترد عليه زوجتهُ في الحال:
جد بهواك لليهواك وعره
عبن چي عشرتي وياك وعره
بعد مالي معك بشظاظ وعره
الكل منا انشحن ونكر خويه".
الأبوذية تاريخاً
الأبوذية هي تسمية مركبة، إذا فككناها فسنجد أنّها تتألف من مقطعين: "أبو"، وهي تحمل في اللهجة العراقية معنى الصاحب أو المالك، لا المؤسس أو الصانع فحسب، أما "ذية" فقد تكون اشتُقَّت من الأذى، كما هو شائع، وقد تكون مجزأةً إلى مقطعين "ذي" (التي تعني صاحب) و"يه"، وهي القفلة التي تنتهي بها الأبوذية دائماً.
لكنَّ إعطاء مصطلح الأبوذية معنى "صاحب الأذى" ليس دقيقاً تماماً، لأن الأبوذية كجنسٍ شعريٍ انطوى منذ بدايتهِ وحتى الآن على مفاهيم أخرى، من قبيل المرح والغزل والغنج والسياسة، وحتى التغنّي بالهوية، سواء كانت الوطنية الجامعة أو الهويات الفرعية.
تاريخ الأبوذية تعوزه الدقة، فلا يُعرف بالتحديد متى كتبت أولى محاولاتها، كما لا يُعرف موطنها الأصلي تحديداً، لكنّه في مناطق جنوب العراق، التي ينتمي إليها أبرز شعراء الأبوذية حتى اليوم.
يُعيد الرأي الشائع أصلها إلى قبيلة "عبودة"، إذ يُقال إنَّ حسين العبادي هو أول من كتبها.
ويؤكدُ الشاعر شاكر التميمي لـ"الميادين الثقافية" أنَّ "الأبوذية هي أحد أشهر أوزان الشعر الشعبي العراقي، وأكثرها تداولاً بين أوساط الشعراء والجمهور، لسهولة حفظها ولقدرتها على اختزال موضوعٍ كاملٍ في أربعة أشطر".
ويوضح صاحب كتاب "أشهر أوزان الشعر الشعبي" أنَّ "الأبوذية تنتسب إلى محافظة ذي قار، وتحديداً قضاء سوق الشيوخ"، ويضيف أنّها "تنظم بعدة أشكال من ناحية البناء الهرمي، منها الزنجيل والتضمين والمشطر والمقسوم والمطلق والمولد. أما من ناحية الإيقاع العروضي، فهي تستند إلى بحر الهزج، مع إضافة تفعيلة واحدة هي فعولن".
الأبوذية والبوذية.. هل من رابط؟
ربط الأبوذية بالديانة البوذية أمرٌ لا يمكن التأكد منه، وهو لا يستند إلى التشابه اللفظي بين الكلمتين فحسب، إنما إلى وجود نوع من الشعر يردده البوذيون في معابدهم، يحتوي على مقطوعات تتكونُ كلُّ واحدةٍ منها من 4 أشطر، للـ 3 الأولى منها قافية واحدة، ويُختم الشطر الرابع بـ"يه"، كما هو الحال في الأبوذية.
ومن غير المستبعد أن تكون الأبوذية قد وصلت عن طريق التجّار الذين كانوا يتنقلون بين الهند والبصرة، خاصةً أنَّ البصرة كانت قديماً من أهم الموانئ التجارية في العالم، بحسب ما تؤكّد الشواهد التاريخية، وكان للهنود ارتباطات تجارية واسعة هناك.
تكمن أهمية هذا الافتراض في أنّه يضع الأبوذية على طاولة البحث دائماً، ويعمّقُ تاريخها أيضاً، فمن المرجّح أن يكون عمر نشأتها أقدم بكثير من عمر تدوينها، وذلك بسبب لهجتها الشعبية الخاصة، كما هو الحال مع أجناس الشعر الشعبي الأخرى.
شعراء يحافظون على إرثهم
مع التغيّرات العديدة على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، وتحديداً ما يتعلّق بتوسّع رقعة المدن من خلال الضواحي، على حساب الأرياف، طرأ على الأبوذية تغييرٌ كبيرٌ على صعيد اللهجةِ نفسها، وعلى صعيد الأسلوب والمفاهيم التي تتناولها أيضاً.
تبرز من بين رواد الأبوذية أسماء عديدة مثل حسين العبادي، الحاج زاير، ملا حسين الكربلائي، وجعفر الحلي، الذين يشكّلون هرم الأبوذية.
يعددُ الباحث عادل العرداوي أسماء أخرى قد يبدو أغلبها مجهولاً بالنسبة إلى قراء الأبوذية المعاصرين، من أمثال: "عبود غفله النجفي، الحاج زاير الدويچ، عبد الأمير الفتلاوي، والسيد عيسى الجصاني، عبد الله الحاشي، أبو معيشي، عبد الحسن المفوعر السوداني، عبد الحسين أبو شبع، عيدان علي الجصاني، الشيخ طاحر المصري، الشيخ ثامر الحمودة المزيعل ، ناصر باشا السعدون، حسين الشيخ كاظم، عبد الرحمن البناء، الملا حسن الكاظمي، الملا نور الجنابي، حمدي الحمدي، حميد السداوي، وعزرا اليهودي".
وقد برز في منتصف القرن الـ20 ونهايته شعراء كتبوا هذا الجنس، وإن لم يختصوا به فحسب، إلا أنهم استطاعوا أن يخرجوه من محليته، مثل الشاعر عريان السيد خلف، والشاعر كاظم اسماعيل كاطع، فضلاً عن شعراء معاصرين مثل سمير صبيح، رحيم المالكي، صباح الهلالي، رحيم الركابي، ناظم الحاشي، وشاكر التميمي.
ومن الشعراء الشباب الأبرز اليوم في هذا المجال صادق الجهلاوي، إياد الأسدي، أحمد عاشور، عباس العبادي، حسين صالح، ووسام سباهي. وأغلب هؤلاء الشعراء ينحدرون من مدن جنوب العراق، الذي حافظ على إرثه الشعري وبقي مرافقاً له دائماً، في السرّاء والضرّاء.