المكان حين يضيق ويتسع في رواية "من أحوال داليا رشدي"

النص، وإن اعتمد على الموروث الحكائي لقصص السندباد وعلاء الدين، ولكنه دمج الخيال والحكاية الشعبي مع واقع متوتر بأسلوب متشظٍ يدخل منه ويخرج إليه في دراما متوترة.

  • رواية
    رواية "من أحوال داليا رشدي" للكاتب حازم كمال الدين.

الرواية: "من أحوال داليا رشدي"

تأليف: حازم كمال الدين

الناشر: دار "أبجد"-العراق- 2022 |

في تأكيد على دور الحكاية والسيرة الشعبية في توظيف التاريخ والتراث الأدبي كان اتكاء حازم كمال الدين في روايته "من أحوال داليا رشدي" الصادرة عن دار "أبجد" العراقية و"ذا غراند لايبراري" الإنجليزية لعام 2022، من خلال استحضاره لشخصيتي السندباد وعلاء الدين في تطويع الحكاية عبر فانتازيا سردية تتجول عبر أزمان ماضية وحاضرة ومقبلة، في مشهدية نابضة يدخل بها إلى النص عبر تصوير التدافع للعمل على تصميمات فنية ورسومات وتماثيل على جدار بغداد. العمل الذي تم الاحتفاء به لتسويغ وجود الكائن الغريب الذي يحيل إليه العنوان الفرعي الأولي "مملكة حي الخضراء"، وليست التسمية بخافية على أحد فهي محمية الأغراب. ولهذا اجتمعت حشود للعمل على تبرير وجوده والاستفادة من المكاسب المرجوة من التحاقها به، وانطلاق عملية السرد من هذا الجدار في التباس الحدث السردي أهو الواقع الذي تجسّد أحداثه كمنصة مسرحية أم هي أعمال بانوراما تاريخية مكملة للمشهد النصي في تصويره أوابد المدينة من مسلات وجنائن معلقة لفنانين عراقيين على جدار بغداد في اللوحة التي جسّدت أحداث وتاريخ البلد، بالإضافة إلى وجود لوحات تظهر جنوداً أميركيين بحالة انتصار وروح إنسانية عالية، كوضع ألصق عنوة بالمشهد العراقي ضمن فضاء السرد.

يحرص حازم كمال الدين منذ البداية على خلق الشك والبلبلة لدى المتلقي، في تساؤل حول الغابة والجياد والوعول، أيهما الجامد وأيهما الحي المتحرك في الحكاية، حيث يسلّم دفة الروي للراوية داليا الشخصية المحورية؛ زوجة العلاس والمعلوس؛ التي يختطف زوجها السندباد وتختفي آثاره وتقترن بعدها بعلاء الدين أي بمن خطفه أو علسه من دون أن تدري بفعلته من قبل؛ فتلجأ إلى الكتابة عملًا بنصيحة الأب كتفريغ لكآبة الفقد ليتألق اسمها ككاتبة بين مجتمع المثقفين. ليكون غياب زوجها واختطافه هو البؤرة التي تستمد منها طاقتها الأدبية حيث تظهر الشخصية الأخرى المتخلقة من السرد ومن الموروث التاريخي وتتعملق وتظهر على شكل سندباد أشقر هجين الذاكرة والتكنولوجيا. 

الاختطاف فعل يتم التركيز فيه كشكل مرافق للاضطرابات السياسية والحروب الأهلية ومرادف لامتهان الجوهر الإنساني، الأمر الذي رأيناه فعلياً في سوريا ولبنان والعراق وليبيا وكمبوديا. وقد رصد في أكثر من عمل عالمي على غرار "خبر اختطاف" لغابريل غارسيا ماركيز و"المفقود" لكيلي أكين اختصت بها مافيات بأقنعة طائفية وولاءات متعددة لجهات مختلفة، وكل له دوره ووظيفته من الخطاف؛ للعلاس؛ للذباح. فالعلاس مثلًا هو الوسيط الذي يقدم المعلومات عن عملية الخطف وهي تسمية إشكالية تتجاهل الفاعل والمفعول به لصالح العملية الأساسية وهي تهيئة المعلومات والمناخ المناسب والظروف المثلى. ولكن النتيجة والنجاح يعطيان للممول ويأخذ هو منها الفتات، مما يجعل إحساسه بالضغينة مستمراً على مدار الوقت. أما الخطف فهو مهنة فيها هيبة وإمكانات جسدية مميزة والعلاقة المباشرة بين الخاطف والمخطوف آسرة للطرفين فلا وجود للخاطف بلا مخطوف. كما أنه مع عدم وجود سجين تنتفي الحاجة إلى السجان وكل طرف مرهون بوجود الآخر، مما يجعل العلاقة متواشجة بين بطلي ألف ليلة وليلة بين السندباد وعلاء الدين.

جرت الإضاءة على الجانب الخفي الآخر في النفس البشرية. فاختفاء السندباد فجّر طاقة الكتابة والخيال عند زوجة السندباد التي تنتظر وتترقب عودته. ولكن هذا النجاح الذي لاقته وضمن الأزمة التي تعيشها والتي ولّدت طاقتها الأدبية، أحبطت رغبة البحث الجاد الواقعي عنه حتى تمنت في أعماقها أن يبقى الوضع هكذا كي يبقى الإلهام مستمراً. هذا التوغل المعقد والكشف عن داخل الشخصية عبر تلافيف النفس وما تبطن في دخيلتها، إمعان في إيضاح ذلك التشظي في الأحاسيس والأفكار المراودة للإنسان في لحظة عري في أتون تغيّره واختلافه. فالشخصية هنا في حالة نمو وصيرورة وتغيّر نتيجة واقع جديد، والمؤثرات التي طرأت على وعيها نتيجة التبحر بالقراءة الذي دفعها إلى تكرار السؤال المتطرف في فانتازيته: ما هو الفرق بالإبداع بين الجريمة والأدب أو الفرق بين من يوظف المآسي لعمل إبداعي يحقق شهرة، وبين من يبتكر المآسي فعلياً على أرض الواقع. 

يفتتح كمال الدين العمل بنهاية الحدث مما يحرق العقدة والترقب في تهشيم ما بعد حداثي للحبكة المتعارف عليها ويعود ليسائل نفسه: هل ارتكبت خطأ عندما افتتحت الرواية بما انتهت إليه الأحداث، هل ثمة ذنب بافتتاح العمل من أي بؤرة فيه من النهاية أم من الوسط أو من ربعه، في تحفيز لذهن القارئ وجعله محاوراً ومراقباً وشريكاً في آنٍ واحد، ليعيد تركيب الحدث والوقائع في ذهنه بتأويل وترتيب جديدين.

وقد أجاب الكاتب في أحد حواراته حول أسلوبه في تشظي العمل، مفسراً ذلك بأن اللاترابط الظاهري للنتائج الهلامية يعطي فرصة للمتلقي لقراءة النصوص كيفما أراد عشوائياً وهبوطاً وصعوداً ومن الأمام إلى الخلف ومن الخلف إلى الأمام كما تم التعبير عنه، مما يعطي لكل مرحلة فرصة لأن تكون بداية مرة ونهاية مرة أخرى وبوابة لإمكانيات لا متناهية لتأويل الأحداث، والاستفادة من الحالة الزئبقية هذه في حالتي المحو والإخفاء في توظيف مشهدية سينمائية. فضباب الهلامية هو الخميرة الذي تتجمع عندها أفكار النص مما يؤجج الخيال والمخيلة في خلق تداعيات للحالة تتخلق من خيال الكاتبة المفترضة التي جعلت قاعة الأضابير قاعة للقراءة حيث القراءة غريمة البطالة المقنعة وعدوة الوحدة وبلسم العزلة ومسرحاً لكتاباتها المتخيلة.

كذلك الأمر في استرجاع الغائب عبر التدوين كعملية إحياء للميت والمبعد والغريب بفعل الكتابة. فالكتابة شكل من أشكال الخلق والديمومة، في حضور وغياب وتجلي حقيقي ومستتر بقناع الكتابة للسندباد البحري الأشقر الذي يكون بحال أخرى، هو ذاته المعلوس أو المخطوف والقابع بحفرة داخل جدار في المدائن.

ورغم هذه الإيضاحات الكاشفة تعود الحكاية إلى علاء الدين الذي حبسته في قبر راسمة شكلاً آخر للقنديل السحري واستبدالًا للجني المحبوس بصاحب الامتياز، عبر قلب أدوار الحكاية الأصلية. فدفنه في قبر، أي بما يشبه إعادته إلى القمقم في تبادل الأدوار مع جني الحكاية.

اقتراح السندباد الأشقر بنهاية جديدة لعلاء الدين بأن ينفضح دوره وتنكشف سرقاته وتجاوزاته وهروبه ليعمل شيخاً في إحدى القرى والمحال النائية في الأهوار "قرية الشخاطة"، فيتشابك الحوار بين الراوي والمروى عنه ويزداد تدخله واقتراحاته في السرد عندما تنهض الشخصية المتخيلة لتحاور كاتبها حول إطارها التاريخي وعلة وجودها في حواريات مفترضة بينه وبينها لرسم تفاصيل الأبطال المتدرجين من الحكاية بوصفهم شخوص العمل مع كاتبته. هذا الكائن يتمرد على خالقته ويعترض على تشرذم النص بين الأسباب والنتائج وخصائصه التاريخية وإطاره التاريخي، مما يضطرها للثورة عليه لشتمه "ابن القندرة" لتدخله في عملها في جبروت السارد عندما يتمرد بطله عليه، في توظيف واستفادة من لغة الشارع لوصف حالة القاع الاجتماعي حيث تسود الألفاظ النابية والشتم والسباب وتحتل مساحة الصوت عندما يحرج صوت العقل في متابعة أي حوار كان، في تداخل ما يقوم بفعله في النص الذي يسرده. 

فالنص وإن اعتمد على الموروث الحكائي لقصص السندباد وعلاء الدين، ولكنه دمج الخيال والحكاية الشعبي مع واقع متوتر بأسلوب متشظٍ يدخل منه ويخرج إليه في دراما متوترة توحي بجدة وحداثة في تناول مفردات ما بعد الحداثة وتكييفها ضمن بيئة محلية.

داليا رشدي عندما تقول على لسانها إن العاهة هي التي تصنع الأدب كعبارة موجزة ومختصرة موضحة للبؤرة التي تحرك بذرة الإبداع، العبارة الذهبية التي تتسع للكثير من الانزياحات. فكل حالة نقص بالكائن تحفر عميقًا في بنيته الشعورية وتكون منطلقًا ومحركًا للكثير من السلوكيات في التنقيب والبحث عن المعنى والدلالة، إضافة للشروحات حول الهياكل الأدبية وتداخل النصوص بين الثيمة والأسلوب والتناغم الذي يحصل بينهما، مما يؤدي إلى الاستنتاج بأن الواقع المتجدد قاد إلى ولادة أجناس أدبية مختلفة. لهذا وصفت نصها بالهجين: فيه ريبورتاج وحوار مسرحي وخيال وحكاية وتاريخ، إضافة إلى الطب والكيمياء، انصياعاً لتهشيم الوحدة المركزية للنص الأدبي لاستعصاء الواقع على التجميع ورتق أوصاله. والحديث خلاف ذلك هو خيانة للواقع ذاته.

من هنا كان التشظي في حركة الشخوص وتجوالها بين الواقع والخيال وبين عالم الكتابة لما فيه من انعكاس لتشظي الواقع الفعلي والاضطراب الذي يسور وعي الأفراد، عبر تناصات متداخلة بين ميثولوجيا الموروث الأسطوري الشرقي مع الأدب العالمي، على غرار رواية "يوليسيس" لجيمس جويس. إذ يتضح التناص الأسلوبي بين العملين باستخدام وحدة مركزية هي الزمان عند جويس، ووحدة مكانية هي القبو عند كمال الدين، وبين شخصية سندباد وشخصية ليوبولد بلوم مندوب الإعلانات، عندما يغادر منزله لحضور الجنازة ثم يذهب بعدها إلى العمل، بينما زوجته مولي "بينيلوب" تنوي إقامة علاقة غرامية في نفس اليوم مع آخر، مما يشابه مغادرة السندباد واقتران زوجته بعلاء الدين.، بالإضافة إلى مقاربة الوحدة الزمانية لدى جويس وهي الزمن المحدد خلال يوم واحد للأحداث مع الوحدة المكانية "القبو" في (من أحوال داليا رشدي)، حيث تشبه هندسة القبو أحياناً هندسة مدينة دبلن فهي مسرح أحداث، الكل يخرج منه ويرجع إليه، مرة تخيل ومرة حقيقة، إذ أن رواية جويس جنحت إلى اختزال تاريخ البشرية في ليلة واحدة أو إذا اعتبرناها ليلة كونية واحدة لخّصت تاريخ الإنسانية بقصة الوجود الأولية التي تتكرر بلا انتهاء، وهي علاقة الرجل والمرأة. كذلك الأمر عند كمال الدين، فالوحدة المكانية "القبو" جسّدت علاقة الرجل والمرأة باعتبارها معبراً لتمرير رسائل الكاتب كلها. كما أنها في جانب آخر تحيل إلى رواية موبي ديك في رغبة التحدي غير المنتهية على الرغم من الخطر المحدق والهلاك شبه الأكيد.

أسلوب صاحب (مياه متصحّرة) يشتغل دائماً على تقابل أكثر من مستوى وعي عبر التداخل بين زمنين، زمن مضى وزمن حالي وشخوص كل منها آتية من بيئة ومجتمع وتاريخ، وخاصة مصير السندباد إذ يرصده وفق حياتين متوازيتين، شخصية متخيلة رائية وشخصية واقعية. وكلتاهما لها نفس المصير وهو الخطف، وكيف يتوازى اختفاء السندباد عند جدار الولي أو الحاجز مع اختفاء سندباد الكاتبة في كتاب في تناظر العالمين وتداخلهما في تلاعب بالزمان السردي، عبر مشاهد مستقلة تنفع كل منها قصة قصيرة كونها تشكل وحدة نصية بذاتها. وفي ذات الوقت تلتحم وتتمفصل مع الحكاية الأصلية عبر دوامة التنقل في اتجاهات شتى، في مزاوجة موروث محلي مع تقنيات غربية في الدمج بين "طقوس العديد" وأغاني مايكل جاكسون واستخدام رموز الحضارة الرقمية من كمبيوتر وموبايل ويوتيوب في إشكالية التخلف والشكل الظاهري للتطور التكنولوجي الذي يظهر في حمّى الاستهلاك فقط. 

الكتابة عن شارع المتنبي ودهاليزه ومخابئ الكتب فيه كتابة عن تاريخ طويل وأهوال مؤجلة ضرب عليها التكتم منذ أيام بني العباس أو ما بعد خروج المغول من بغداد في متاهة تشبه متاهة أمبرتوإيكو في "اسم الوردة" المكتبة التي مات حارسها حفيد الرجب، ذو الفك الواحد هو آخر المؤتمنين على أسرار الكتب والذي قضى بآخر مفخخة. ومع ذلك ظلت تشع منها قوى خفية تحفظ نظام المكتبة بإشارة خفية إلى القوة الكامنة للكتب، وكأنها تعويذة سحرية داخلية تحميها من الاندثار، جعلت الكاتبة المتخيلة تتأبط بقايا حرائق وأوراق من شارع المتنبي لتكون زوادة تستزيد منها، وذاكرة تغرف منها في مشروعها الذي يستمر رغم كل شيء. ولا يزال السندباد حبيساً بالأوراق لغاية اللحظة لتكون مراوغة حدود النصوص والأجناس التقليدية بوابة مفتوحة دائماً لكتابة شيء مختلف ومغاير.