بهاء طاهر .. مؤسس تيار الوعي في الرواية المصرية

تعد روايته "الحب في المنفى" امتداداً بشكل أو بآخر لما بدأه طاهر في "قالت ضحى" فنحن بصدد مصري تشرب انتصارات الستينات وانكساراتها على حد سواء، وأجبرته الظروف في ثمانينات القرن العشرين على الخروج إلى "المنفى".

  • رحيل احد رواد الأدب.. بهاء طاهر
    رحيل احد رواد الأدب.. بهاء طاهر

يحكي الكاتب المصري سعد القرش أن الروائي الراحل بهاء طاهر سئل لماذا هو مقل في الكتابة؟ وكانت إجابته حاضرة، فلم يتكلم عن نفسه، وإنما ذهب بعيداً، إلى إبن المقفع الذى حجز لنفسه مكانة في الأدب العربي بكتابي "كليلة ودمنة" و"الأدب الكبير والأدب الصغير"، فالكثرة والإغراق يدلان أحياناً على الفراغ".

  • رواية
    رواية "شرق النخيل"

ينتمي بهاء طاهر إلى جيل الستينيات من الروائيين، ويعتبر من أهم كتاب القصة والرواية الأوائل ليس في مصر وحسب، بل على صعيد العالم العربي، رغم أنه كاتب مقل إذا ما قورن بكثيرين من أبناء هذا الجيل. فعلى مدار ربع قرن منذ صدور روايته الأولى "شرق النخيل" عام 1983. وحتى صدور آخر روياته "واحة الغروب" التي حازت على الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) عام 2008، لم يصدر له سوى ست روايات، أي بمعدل رواية كل 5 سنوات تقريباً.

يرحل بهاء طاهر مثل أي أديب عظيم، إلا أن رواياته وقصصه سوف تخلده وتجعله حاضراً بسبب طبيعة الموضوعات التي تناولتها هذه الأعمال، من فكرة السلطة ومحاولة تحقيق العدالة، وفكرة الشرق والغرب. حيث يعتبر أن "صِدام الحضارات مجرد تصور خبيث ومشبوه ومغلوط للعلاقات الدولية".

  • الروائي يحيى حقي
    الروائي يحيى حقي

بدأ بهاء اهتمامه بالمطالعة منذ ان كان طالباَ، فيقول: كانت عندنا حصة للقراءة الحرة، تعرفت من خلالها على الأدباء وقرأت روايات ومسرحيات مترجمة للعربية. هذه الحصة هي التي عرفتني على الأدب العالمي.. في شبابي كان الكٌتَاب مثلاً أعلى مثل طه حسين ويحيى حقي وهذا ما دفعني للكتابة".

كان  يوسف إدريس، أول من اكتشف بهاء طاهر فقدمه في أول مجموعة قصصية "الخطوبة" له عام 1972، وكان من المسائل التي أشار فيها أثناء تقديمه للكتاب، هي لغته، فاللغة عند بهاء طاهر مفتاح أساسي للدخول إلى عالمه. هذا كاتب لا يقلد أحداً ولا يستعير أصابع غيره، هذا كاتب نقي طاهر.

لم تظهر مجموعته الثانية "بالأمس حلمت بك" إلا عام 1984، ثم كتب أولى رواياته "شرق النخيل"، ثم "قالت ضحى" عام 1985، اللتين تم اختيارهما كأفضل عملين أدبيين روائيين في نفس سنتي صدورهما. 

يعتبر بهاء طاهر من أكثر الكتاب الذين استخدموا تيار الوعي في كتاباته الروائية. واعتبره بعض النقاد بأنه مؤسس هذا التيار في الرواية المصرية، وقد وصفه آخرون بأنه روائي بنكهة سويسرية، باعتبار أن أهم مراحل الإبداع لديه كانت في سويسرا.

  • الأديب طه حسين
    الأديب طه حسين

بدأ بهاء عمله مترجماً في الهيئة العامة للإستعلامات، وانتقل بعدها إلى الإذاعة المصرية بعدما عشقها من خلال صوت وأحاديث "طه حسين" التي كانت تذاع عبر أثيرها. فعمل مخرجاً ومعداً في البرنامج الثقافي الذي كان من مؤسسيه عام 1957 وشغل موقع نائب المدير حتى عام 1975.

بدأ مشواره الأدبي كناقد مسرحي للأعمال التي كانت تعرض في فترة الستينيات، خصوصاً أعمال يوسف إدريس وسعد الدين وهبة وغيرهما. يقول الناقد والشاعر شعبان يوسف في كتابه الصادر أخيراً عن "الهيئة المصرية العامة للكتاب" بعنوان "بهاء طاهر ناقداً مسرحياً": "لا غنى لأي باحث يحاول أن يتعرف على مسرح الستينيات من دون أن يقرأ ما كتبه بهاء طاهر". 

استثمر بهاء في قصصه ورواياته، كل القصص والروايات التي قدمها في شكل دراما إذاعية، وكتب السيناريو وخاصة تقنية "الحوار" التي غدت عنصراً أساسياً في أعماله وسمحت للقارئ بالاقتراب من شخصيات أعماله.

قصته مع السادات 

تم إيقافه عن العمل بعد منعه من الكتابة في عهد الرئيس المصري الراحل أنور السادات فاستقال من مجلس إدارة اتحاد الكتاب، وأحدثت استقالته دوياً كبيراً.  فاضطر إلى ترك مصر فعمل مترجماً في عدد من الدول الأفريقية والآسيوية، وبعدها انتقل إلى العمل مترجماً في فرع الأمم المتحدة في جنيف في المدة من 1981 وحتى عام 1995 بعد إحالته على التقاعد. وقد عاد إلى مصر وبقي فيها حتى تاريخ رحيله.

يكشف بهاء خطورة تلك المرحلة بقوله: "نجح السادات في تشتيت مثقفي النهضة والتطوير في منافي الأرض، وإسكات وإضعاف مَن تبقى منهم في مصر وجلب بدلاً منهم مجموعة من الوعّاظ المهاجرين منذ العهد الناصري إلى دول الخليج… كانوا معنيين تماماً بإبعاد الدين عن قضايا التطور الاجتماعي والحض على طاعة الحاكم والتركيز على الجوانب الشكلية للعبادات، وبمضي الوقت أصبحوا سلطة دينية".

صحيح أن بهاء مصري الجنسية إلا ان أدبه عالمي وقومي. فمنذ أول رواية "شرق النخيل" ربط ببراعة بين القضية الفلسطنية، وجيل الحركة الطلابية المصرية في مطلع السبعينات قبيل نصر أكتوبر.

  • رواية
    رواية "الحب في المنفى"

وتعد روايته "الحب في المنفى" امتداداً بشكل أو بآخر لما بدأه طاهر في "قالت ضحى" فنحن بصدد مصري تشرب انتصارات الستينات وانكساراتها على حد سواء، وأجبرته الظروف في ثمانينات القرن العشرين على الخروج إلى "المنفى".

وقد كتب روايته هذه في مواجهة الموت بعد مجزرة صبرا وشاتيلا، فقد كان منزعجاً جداً، ومنفعلاً من بشاعة المذبحة واستغرق في كتابتها 10 سنوات، لتكون ختام غربته العشرينية وربط بينها وبين ما يحصل على أرض وطنه وما يحصل في أميركا الجنوبية ومأساة تشيلي بلد الشاعر بابلو نيرودا المفضل لدى بطل الرواية، حيث أجهضت التجربة الديمقراطية في تشيلي لصالح نظام فاشٍ موالٍ لواشنطن.

ويقول بهاء: "خرجت من مصر في نهاية السبعينيات؛ لأن السلطة لم تكن تقبل الإختلاف. فكان علينا إما أن نجلس في بيوتنا بلا عمل وإما أن نخرج، فذهبت إلى جنيف. تأثير المكان والغربة واضح في أعمالي "قالت ضحى"، و"الحب في المنفى" التي يقول بطلها: "هل تركت الغربة بمحض إرادتي وعدتُ بهذا الكم من الحنين؟ أم أن الغربة لا تزال تسكنني وتستوطن أفكاري؟". وبعد العودة كتبت عملين هما "ذهبت إلى شلال" و"نقطة نور"، محاولاً استكشاف التغيرات التي حدثت في المجتمع خلال غيابي".

  • رواية
    رواية "قالت ضحى"

وفي روايته "قالت ضحى" قدم طاهر صورة "بانورامية" لمصر الستينات مبرزاً نضال المصريين من أجل الاستقلال قبيل قيام ثورة 1952، ويتوقف فيها عند قلق أبطالها ورغبتهم في مراجعة تجربة ثورة يوليو: "نعم تحدث تلك الثورة. يغضب الناس، فيقودهم ثوار يعدون الناس بالعدل وبالعصر الذهبي، ويبدؤون كما قال سيد: يقطعون رأس الحية".

ويوضح بهاء: "الغريب أنّ عدم انخراطي في تنظيمات عبد الناصر، لم يضمن لي النجاة من بطش السادات.. أظن أنني شرحت هذه المفارقة في المقدمة التي كتبتها لرواية "خالتي صفية والدير" وشرحت المسافة بيننا وبين النظام.. في السبعينيات بدأ عزل المثقفين، حيث كان للسادات مشروع مختلف من أهم أسسه استبعاد المثقفين".

  • رواية
    رواية "واحة الغروب"

عشق بهاء التاريخ واستفاد من عالمين كبيرين، الأول: المؤرخ الأكاديمي الراحل الدكتور محمد أنيس، والثاني هوالكاتب الراحل محمد عودة اللذان كانا أول من دله على الضابط محمد عبيد بطل ثورة عرابي المغدورة وثمة من يقول إنه  كان الملهم الاول لـ "واحة الغروب" حيث بدا منها أنّ هذا السؤال عن "خريف الثورة" تحول هاجساً في أعمال بهاء طاهر. وتدور أحداث هذه الرواية في نهايات القرن التاسع عشر في أعقاب فشل "ثورة عرابي".

  • كتاب
    كتاب "ابناء رفاعة.. الثقافة والحرية"

يعتبر كتاب "أبناء رفاعة .. الثقافة والحرية" لبهاء طاهر من أهم الكتب التي رصدت دور المثقف المصري، وكيف أنجز بوعيه أسس الدولة المدنية، هذا المثقف نفسه الذي تراجع دوره وأصبحت مصر في هذا الحال من التردي.

يقول طاهر في مقدمة الكتاب: "ربما يكون أدق وصف لهذا الكتاب هو صعود الدولة المدنية وانحسارها، فالجزء الأول من الكتاب يرصد الصعود التدريجي لخروج المجتمع المصري من ظلام العصور الوسطى إلى أنوار الحداثة والحرية بجهود مثقفين على امتداد نحو مئة وخمسين عاماً".

أما الفصول الأخيرة من الكتاب فتعرض خُطى التراجع التدريجي والمنظم لمشروع النهضة ذاك، بغية العودة من جديد إلى المنظومة الفكرية للدولة العثمانية التي يتغزل بها الآن الكثيرون على غير علم، رغم أنها أشرفت بمصر على الهلاك.

ورغم احترامه لتجربة عبد الناصر، يذكر في رائعته "الحب في المنفى": "نشعر بأننا شبحان من عصر مات.. نعرف أن عبد الناصر لن يُبعث من جديد، وأن عمال العالم لن يتحدوا… فعلمتُ أنه مثلي.. يتشبث بيقينه لكيلا ينتهي عالمه.. لكيلا يضيع الحلم الذي دفعنا فيه ثمناً عمراً بأكمله". إلا أنه يعتبر موقف عبد الناصر من السياسة كان ملتبساً فيقول: "كل ما وصلنا إليه من تراجع هو نتيجة ضرب المثقفين منذ الستينيات. عندما كان يحكم جمال عبد الناصر بيد من حديد. كان يعترف بالمثقفين، وأسند رئاسة تحرير صحيفة "الجمهورية" لطه حسين.. المثقف هو الخطر الحقيقي على المستبد، لأنه يسعى إلى التنوير ونشر الوعي".

ثورة 25 يناير 2011

تفاعل طاهر بشكل إيجابي مع ثورة 25 يناير 2011 على غرار عدد من الأدباء والكتاب، لكنه سرعان ما عبّر عن مخاوفه من عودة التيار الإسلامي الذي ظهر بقوة في الحراك الثوري، وبدأ في الإعراب عن مخاوفه بشكل علني، ثم عارض حكم جماعة الإخوان المسلمين التي وصفها بـ"الإرهابية".

شارك في الإعتصام الذي دعا إليه الروائي صنع الله إبراهيم في مكتب وزير الثقافة علاء عبدالعزيز -أيام حكومة هشام قنديل خلال حكم الرئيس محمد مرسي - احتجاجاً على ما اعتبر "أخونة للدولة". وأيد تظاهرات 30 حزيران / يونيو 2013، كما أيد تولي وزير الدفاع عبدالفتاح السيسي رئاسة مصر. لكنه عاد وأيد ضرورة الحوار مع "الإخوان المسلمين" واعتبر أن المصالحة معهم ضرورية لمصلحة البلاد. ويعلل ذلك بقوله: " لأنّ مشروع الإخوان لم ينسحب لو أردت الحديث عن مشروع إسلام سياسي. هو موجود وراسخ بقوة وتجاهل وجوده نوع من العمى السياسي".

تغيير الخطاب المتكلس

يرحل بهاء بعد أن أوصى في مذكراته "السيرة في المنفى": أن "أبسط الأحلام التي أتمنى تحقيقها، تغيير الخطاب الثقافي برمته، هذا الخطاب المتكلس، فمازلنا نتعامل مع الثقافة كأنه أمر شرفي، جوائز ومهرجانات واحتفالات ليس أكثر ولا أقل". ويتمنى بهاء أن يتم العودة إلى ماكان دعا إليه طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" سنة 1937 أن "القراءة الحرة ينبغي أن تكون بمثابة ثلث المناهج التعليمية على الأقل". ويقول بهاء: تم بالفعل تطبيق هذا في العام ونصف العام الذي كان فيه وزيراً، بل وزعت علينا في المدارس كتب مجانية للقراءة فقط، وبفضل هذه التجربة بدأ أناس كثيرون جداً الاهتمام بالقراءة والثقافة.". 

قصر ثقافة بهاء طاهر

في تشرين الثاني/ نوفمبر 2009 أعلن بهاء طاهر، تبرعه بقطعة أرض ورثها عن والدته لبناء قصر ثقافة عليه. وفي عام 2013، تم افتتاح المبنى في قرية بهاء طاهر، الذي أطلق عليه قصر ثقافة بهاء طاهر. وصمم المبنى على طراز قرية المعماري حسن فتحي.   

ولد بهاء طاهر في محافظة الجيزة في 13 كانون الثاني / يناير سنة 1935، وحصل على ليسانس الآداب في التاريخ عام  1956 من جامعة القاهرة حيث كان من العشرة الأوائل الذين يتعلمون فى الجامعة مجاناً بعد فوزة بمسابقة التاريخ وهو في المرحلة الثانوية، وحاز على دبلوم شعبة الدراسات العليا - إذاعة وتلفزيون سنة 1973.

توفي الكاتب الكبير بهاء طاهر في 27 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي عن عمر ناهز 87 عاماً بعد صراع مع المرض.