تصوير الموتى.. غرابة أطوار أم احتفاء بالراحلين؟

تصوير الموتى فكرة مخيفة. لا يرغب أحد في إمعان النظر في جثة، لكنَّ هذه العادة راجت في القرن الـ19. ما القصة؟

قد تبدو فكرة تصوير الموتى مخيفة وصادمة وغير مقبولة، فلا أحد يرغب بإمعان النظر في جثة، لكنَّ هذه العادة لقِيَت رواجاً واسعاً في القرن الـ19، خاصة بعد أن اخترع الرسام وعالم الفيزياء الفرنسي لويس داغير (1787 – 1851) "الداغيروتيب"، وهو نوع من الصور الفوتوغرافية التي تُلتَقط على صفائح معدنية.

بدأت فكرة صورة ما بعد الوفاة في النصف الثاني من القرن الـ19 في بريطانيا، في عهد الملكة فيكتوريا، وسرعان ما انتشرت هذه البدعة في الولايات المتحدة وبقية أوروبا. لكن كيف تحلّى الناس حينها بالقوة والجرأة لتصوير أحباءهم الموتى؟

لفهم ذلك، يجب أن ندرك أن علاقة الناس بالموت في تلك الحقبة كانت مختلفة جداً عن زمننا هذا. فالموت كان حاضراً بقوة بسبب انتشار الأوبئة، كالكوليرا والسل والتيفوئيد، وكانت نسبة الوفيات مرتفعة جداً، خاصة بين الأطفال، بسبب تدني مستوى الرعاية الصحيّة. أما المشارح فكانت مفتوحة للجمهور، لكي يتمكّن المواطنون من التعرّف على جثث أقاربهم، كما أنّ الجثث المجهولة الهوية كانت تُعرض في واجهات المحلات، لكي يتمكّن الجميع من رؤيتها، وكان العديد من الرجال والنساء يحضرون لتأمّلها بهدف اختبار أحاسيس عنيفة وقوية، أو للتعليق على حوادث أو جرائم قاسية. وفي حال نجحت جثة ما بإثارة إعجاب الجماهير فكانت تُعرض لـ3 أيام، أما بقية الجثث فكان يجري دفنها قبل تلك الفترة.   

اعتبر الفيكتوريون أنّه لا بُدّ من الاستعداد الدائم للموت، لذلك حملت العديد من فنونهم ورسومهم التصويرية فكرة العبارة اللاتينية الشهيرة "ميمنتو موري"، التي تعني "تذكّر أيها الإنسان أنّك ستموت لا محالة". فلا عجب أنّهم حرصوا على الحصول على "موت جيد"، لتسوية الأمور ليس فقط مادياً، ولكن معنوياً أيضاً، استعداداً للانتقال إلى المرحلة التالية من حياة الأرواح.

الجدير بالذكر أيضاً أنّه في القرن الـ19 كان العديد من الناس يموتون في منازلهم وسط أحبائهم، وليس في المستشفيات كما هي الحال اليوم. لذلك كان التقاط صورة لقريبٍ مُتوفّى خطوة طبيعية جداً، وليست مُروِّعة كما يظن البعض، لأنّ هذه الصورة هي الوسيلة الأخيرة للاحتفاظ بأثر الشخص المفقود، وقد تكون اللقطة الوحيدة التي تمتلكها العائلة للراحل. بالإضافة إلى أن صورة ما بعد الوفاة أصبحت جزءاً ضرورياً من عملية الدعم النفسي والعزاء لأحباء المُتوفَّى، لكي يتمكنوا من تجاوز الفاجعة، وقد اعتادت العائلة تخزين الصور في ألبومات ووضعها في غرفة المعيشة لكي تكون مُتاحة للجميع، أو عرضها على جدران المنزل، أو حتى إرسالها إلى الأصدقاء والأقارب في المناسبات. 

يرى الفيلسوف و الناقد السيميولوجي رولان بارت، أنّ صورة ما بعد الوفاة هي الدليل القاطع على وجود الإنسان المتوفى ومروره في هذا العالم الدنيوي، كما أن إعداد بورتريه للشخص الميت يمنحه نوعاً من الحياة، فالفوتوغرافيا تتعلق في شيء ما بالبعث، كما تساهم في وضع الموت في سياق حميم ومطمئن، لأنّ الجثة لا يجب أن تبقى مجرد جسد متحلل، بل يجب إعادة دمجها في سرديّة الأحياء.

هكذا يعيد التصوير خلق الميت رمزياً، وتحويله إلى فاعل اجتماعي بواسطة آليات رمزية. كما تسمح هذه الصورة للعائلة بالاجتماع والحديث عن ذكريات مشتركة جمعتهم بالراحل، وتَقَبُّل حقيقة الموت. ولكن في المقابل، تُعتبر صورة الوفاة وسيلة مُبدعة لكتمان الموت، ومنعه من إخفاء العزيز الراحل، وطمس ذكراه إلى الأبد.

يمكن إدراج صورة الوفاة أيضاً كمحاولة من الأحياء لنبذ الحالة اللإنسانية التي تنشأ عن الموت، فنحن نرفض أن نقول كلمة "جثة" عندما نتكلم عن أحد الأعزاء، ونستبدلها بكلمة "جثمان"، وغالباً ما نستعيض عن كلمة "مات" بكلمة "ذهب" أو "رحل" أو "في الجنة". 

من المؤكد أنّ الصورة الفوتوغرافية لا تملك ترف تعابير اللغة اللفظية، لكنها تتميز باستراتيجيات جمالية ودلالات خاصة، تسمح للجثة بأن تأخذ صيرورة منطقية، مُتيحةً بالتالي "فهماً أعمق" للموت. كما أنها تسمح باستعادة النظام في مواجهة الفوضى الرمزية التي يمكن أن يخلقها الموت، وبتخليص أفراد العائلة من عقدة الذنب، من خلال إظهار قيامهم بكلِّ واجباتهم تجاه الراحل.

طريقتان لتصوير الميت

الطريقة الأولى هي التقاط صورة يبدو فيها الميت نائماً ببساطة، أو مستلقياً بهدوء في سريره أو نعشه. هذا الربط بين الموت والنوم تعود جذوره إلى العصور اليونانية القديمة. فمثلاً في "الإلياذة" لهوميروس، نجد أنّ "هيبنوس" Hypnos، إله النوم عند الإغريق، هو الأخ التوأم لإله الموت "ثاناتوس"Thanatos . في المُخيِّلة الجماعية، وفي العديد من الديانات، يتمّ دائماً ربط الموت بالنوم، من خلال الخصائص التي يشتركان فيها، ألا وهي الثبات والصمت. اعتُمِدت هذه الوضعية للأطفال الموتى بشكل خاص، إذ يتم تصويرهم نائمين غالباً، محاطين بألعابهم أو محمولين بين ذراعي أمهاتهم.

تقوم الطريقة الثانية للتصوير على إظهار الميت كأنّه ما زال على قيد الحياة. تهدف هذه الصورة إلى كسر الصمت والجمود المحيطين بالموت، والإيحاء للناظر بأنّ الميت كائن حي يتمتع بإرادة حرّة، وليس مجرد جثّة هامدة. كما كان المصورون يلجأون أحياناً إلى فتح عيني المُتوفى باستخدام بعض الأدوات الخاصة كالملاعق الصغيرة، وإلى خياطة فمه الذي يرتخي بعد الموت، وإعادة تثبيته في مكانه برفق. 

في النصف الثاني من القرن الـ19، أخذ المصورون يعتمدون بشكل متزايد على وسائل التجميل والماكياج، لإضفاء رونق على الجثة، الأمر الذي يُخفف من صدمة الموت على الأهل، كما استعانوا أحياناً بالتحنيط الكيميائي لمنع التحلّل السريع للجثة.

من الميت في الصورة؟ 

في هذه الصورة، الميتة هي الفتاة الشابة إلى اليسار. حاول المُصوّر إجلاسها نوعاً ما بشكل مستقيم، من خلال جعل جثمانها يتّكىء على كتف والدتها وعلى الكرسي. هذا النوع من الصور يسعى لإخفاء الموت من خلال إلباس الميت سِمات الأحياء، لأنّ الوضعية العمودية للجسد تدلُّ على الحياة، وتتعارض مع الأفقية التي يفرضها الموت. لكن غالباً ما تحمل الجثّة رموزاً دينية للإشارة إلى انتقالها إلى العالم الآخر، كالصليب أو المسبحة أو الكتاب المقدس.

في بعض الأحيان، يمكننا ببساطة تخمين الميت من خلال ملاحظة الشخص الأكثر حدّة وظهوراً، لأن أي حركة بسيطة كانت تؤدي إلى تشويش الصور، بسبب النظام البدائي للتصوير في تلك الحقبة الزمنية. لذا، من الطبيعي أنّ الشخص الميت سيبدو حتماً أكثر وضوحاً من أقاربه في حال تزحزحوا قليلاً من أماكنهم، كما في الصورة أدناه. 

في المقابل، يحثّ بعض الباحثين على التعامل بحذر مع الصور والمعلومات التي تعود إلى الحقبة الفيكتورية، فهناك العديد من الصور المنتشرة على شبكة الإنترنت لأشخاص يقفون بشكل مستقيم، تحت عنوان "صور موتى من العصر الفيكتوري"، بينما هي في الحقيقة تعود لأُناس على قيد الحياة. السبب الرئيس في هذا الالتباس يعود إلى وجود دعامة من الخشب خلف الأشخاص المُصَوَّرين، ساد الاعتقاد طويلاً بأنّها كانت تُستخدم لتثبيت الجثث في مكانها، لكنَّ العديد من المختصّين يدحضون هذه الفكرة، ويؤكّدون أنّ تلك الصور تعود لأشخاص أحياء، وأنّ المنصة الخشبية استُعِملت فقط لمنع الحركة، كي لا تكون الصورة مُشوَّشة. ويؤكد الخبراء أنّ الدّعامات مهما بلغت صلابتها لا تستطيع أن تتحمّل ثقل جثمان الميت، ولا بُدَّ لها أن تنهار.

على سبيل المثال، تقول العديد من المواقع إنّ الصورة أدناه تعود لفتاة ميتة، لأنّ المصور لجأ إلى رسم عينيها للإيحاء بأنها على قيد الحياة، ولأننا نستطيع أن نرى الوتد الخشبي الذي يحمل الجثّة بين قدميها، ولكنَّ هذا ليس دليلاً كافياً على موتها. الأرجح أنّ المُصوّر اضطر إلى هذه الحيلة بسبب تشوش الصورة بفعل حركة مفاجئة من الفتاة، أو مجرد رفّة عين أثناء فترة التموضع الطويلة أمام الكاميرا.

كما تدّعي العديد من الصفحات الإلكترونية كذلك أنّ الصورة أدناه تعود لفتاة ميتة من العصر الفيكتوري، ويقال إنَّ المصور أضاف اللون الزهري إلى وجنتيها لإيهام الناظر بأنّ الجسد لا يزال نابضاً بالحياة، ولكن لا شيء يُثبت فعلياً أنّها جثة، وقد يكون المصور أجرى بعض التعديلات لتحسين جمالية الصورة. 

في نهاية القرن الـ19، لم تعد العائلات مضطرة لتوظيف مصور محترف لالتقاط الصور الخاصة، فقد صمّم الأميركي جورج إيستمان، مؤسس شركة "كوداك"، في العام 1888، أول فيلم تصوير قابل للّف، يسمح بالتقاط 100 صورة. وبمجرد الانتهاء من التصوير، يتمُّ إرسال شريط الفيلم إلى شركة "كوداك" التي تقوم بتظهيره. وهكذا أصبح بإمكان الجميع التقاط صورة لأحبائهم المتوفين. 

في بداية القرن الـ20، بدأ التصوير الفوتوغرافي للجثث بالاندثار، ولا سيّما مع سَنّ قوانين عديدة لحماية الخصوصية، بما في ذلك خصوصية الموتى.

أما اليوم، في عصر الهواتف الذكية، حيث أصبح بإمكان أي شخص التقاط الصور بسهولة، فأكثر ما يخشاه المرء هو أن يموت فجأة، ويتمّ التقاط صورته وبثّها على مواقع التواصل الاجتماعي، من دون مراعاة حرمة الموت. ولكن من جهة نظر أخرى، قد تكون هذه اللقطة فرصة للإنسان الذي لم يحصل على الشهرة في حياته، في أن ينالها بعد رحيله عن الدنيا، بفضل "صورة مميّزة" لجثته! 

المصادر

Mignacca Stéphanie, Photographies commémoratives post mortem américaines du XIXe siècle : mises en scène et mises en sens du cadavre, Université du Québec à Montréal, juin 2014   https://archipel.uqam.ca/6464/1/M13457.pdf

https://mieuxvautartquejamais.com/2019/10/31/photographier-la-mort/ 

https://www.atlasobscura.com/articles/victorian-post-mortem-photographs 

https://hauntedpalaceblog.wordpress.com/2017/02/07/memento-mori-victorian-post-mortem-photography/