جان رطل لـ "الميادين نت": وضعت نفسي مكان المشاهد لأتعرّف مثله على "المير"

عن الكتابة والتوثيق والتخييل في الفيلم الوثائقي "المير"، أجرت "الميادين الثقافية" حواراً خاصّاً مع المخرج اللبناني جان رطل هذا نصه.  

يحتّل المخرج اللبناني جان رطل، مكانة هامّة ومُميّزة داخل السينما الوثائقية العربيّة، فقُدرته على التخييل، تتجاوز حدود الصورة الوثائقية وصنميّتها، حيث يفتح لها من داخل الصورة نفسها أفقاً بصرياً رحباً، يُمكّنه من الركون، صوب خلائط سرديّة مُختلفة.

وإنْ كانت سيرة المُناضل الشيوعي اللبناني أحمد المير الأيوبي أكبر من الوثائقي نفسه. لكنّ حدس جان رطل القويّ بأهميّة الشخصية السياسيّة، تجعله يُنجز وثائقياً تلقائياً غير مُكترثٍ أو مُتهمّ فيه بمفاهيم وأسئلة التاريخ والذاكرة والحرب، رغم أنّ قليلاً من هذا يحضر، على لسان ضيوف يعملون بين مشهد وآخر، على ربط مرحلة اغتياله بسياق تاريخيّ بعينه يتمثّل في مواجع الحرب الأهلية اللبنانيّة ومآزقها (1975 - 1990).

غير أنّ كاميرا جان رطل، لا تقف عند حدود الشهادة والرواية، كما قد يُخيّل إلينا بصرياً، بل إنّها تمتد إلى أعمق من ذلك، من خلال إقامة تواشجاتٍ جماليّة سرديّة خفيّة، تمزج في خطابها بين ما ترويه حكايات الناس حول "المير" وما تفضحه الصورة بشكلٍ مُبطّن.

الرغبة في التخييل حاضرة، لكنّ ثقل الشخصية من الناحية السياسيّة وأبعادها الرمزيّة والتاريخيّة، يجعل كاميرا جان رطل، تروم التوثيق منه إلى التخييل، لكنّ الأخير، يظلّ حاضراً على المُستوى المنهجي في اختيار الضيوف وتعدّدها وقُدرتها على الاختلاف حول معلومةٍ عامّة أو مشهدٍ واحدٍ.

وهنا تنعدم أحياناً "صحّة" الشهادة في ذهن من يحكيها، ويجعل عنصر الخيال يتدخّل ويتجاوز قلعته، مُكسّراً من صرامة العقل والتوثيق والشهادة، من أجل سردٍ بصريّ تخييلي، لا يكتسب شرعيته، إلاّ انطلاقاً من تعدّد الحكاية نفسها داخل الفيلم. 

عن الكتابة والتوثيق والتخييل في الفيلم الوثائقي "المير"، كان لـ "الميادين الثقافية" هذا الحوار الخاصّ مع مخرجه اللبناني جان رطل. 

**

جان رطل، أوّلاً، كيف اهتديت إلى عالم السينما وأسئلة صُوَرها من خلال الفيلم الوثائقي؟

من المشاهدات الكثيرة وبالتحديد من الأفلام الروائية أيضاً ذات الطابع الواقعي من كل ما تيسر لنا في المعهد وخاصة من أفلام مارون بغدادي وبرهان علوية وجان شمعون، الذي كان أستاذنا ومن أندية السينما في بيروت وطرابلس كما مؤخراً في المهرجانات حيث توافرت كل مشاهدة تعطيك درساً في الأسلوب. 

في فيلمك الوثائقي الأخير "المير" ترسم صورة جديدة لذاكرة المناضل الشيوعي اللبناني أحمد المير الأيوبي. ما الأسباب الخفيّة، التي تدفع مخرجاً سينمائياً، يُعيد نسج علاقةٍ مُتخيّلة مع راهن السياسة ولا مُفكّرها؟

الفيلم أساساً كان على طلب من إبن الشهيد أحمد الأيوبي الأصغر عمراً والذي لا يعرف أباه إلا من ذاكرة من يلتقيهم مصادفة ويعرفون والده. طرح عليّ المشروع باعتبار الأمر استعادة صورة إنسان مضى على غيابه 40 عاماً. أعجبني الموضوع وكنت أتصور أن الفيلم لن يتجاوز 40 دقيقة غير أن جهات وشخصيات تراكمت وتوافدت عليّ وكل من ظهر لديه قصة. أحرجني الأمر فكبرت مدة الفيلم وأصبح تقريباً 74 دقيقة.

أما علاقته بالراهن السياسي، فأعتقد أني تلافيت ذلك حتى أني تلافيت ذكر صراحة من قام بالاغتيال مع أن أكثر من عضو ذكرهم بالإسم وحدد الجهة. غير أني تركت كل أجنحة الحزب الحالية تتحدث عن الذاكرة وتبتعد عن الخلافات السياسية الحالية باعتبار أنه كان إصراري أن تبقى الأمور معلقة عند سنة 1979، سنة الاغتيال، مع أن المتحاورين معهم تحدثوا عن أمور لاحقة. غير أني بالمونتاج تخليت عنها لأحصل عل تركيز بالموضوع. إذاً، الفيلم أطلق فكرته زياد الأيوبي وما علق بذهنه ممن يعرف والده كما ساعدته ورقة صغيرة من أخته رولى التي توفيت وكان عندها نفس الرغبة في صناعة فيلم. 

على كل حال لم يكن المتوافر بالشيء الكثير سوى مقابلة مع عبد المجيد الرافعي، النائب السابق، والذي كان على علاقة مع الشهيد من الناحية الطبية والتنسيق السياسي أيامها، وكانت المقابلة بالصوت نقلتها إلى الفيلم مع الاستعانة بصور فوتوغرافية. ولولا التسجيل الصوتي لكانت شهادة الرافعي غير ممكنة، لأنه قد توفّى منذ زمن وغيره كثر قد غابوا أو رفضوا تسجيل شهاداتهم. فالصورة النائية أتت بمن حضروا بالفيلم وهم من عارفيه شخصياً في مناسبات كثيرة. 

هل تعتقد أنّ الشخصية السياسيّة وتاريخها، قد فرضت نفسها عليك كمُخرجٍ ووجّهتك قبل اختيار الشكل الفيلمي وعناصره الجماليّة؟

بالطبع، فقد قرأت كل ما توافر لي من وثائق، وهي قليلة، ومقالات كتبها أحمد المير وبعض صفحات من محاضرات تثقيفية حزبية وكنت أستخدمها فيلمياً أو عبر أحاديث من التقيتهم فأشاروا إليها كل بحسب موقعه قرباً أو بعداً عنه، وهذا من أبسط الأمور للخروج بصورة أمينة عن الشخصية المتحدث عنها بالفيلم. 

أما عن شخصي فكنت أضع نفسي مكان المشاهد أتعرف مثله على "المير" ولكن مع تقسيم الفيلم إلى فصول كل فصل عن ميزة في الرجل. من السياسي إلى العائلي إلى رجل المواقف.. الخ. كما لا يخفى على أحد أني تحكمت بإيقاع الفيلم وإدخال بعض التقطيع المتقابل بأن جعلت أكثر من شخص يحكي نفس الحكاية الواقعية باختيار جملة من كل فرد لأحل على كل الواقعة التي حصلت منذ 40 سنة أو يزيد. 

وفقاً لهذا التناظر، كيف تفهم فيلمك الوثائقي بالذاكرة اللبنانيّة في علاقتها بتجربة النضال والتحرّر؟

ما أظهرته الوقائع في الفيلم كان بالنسبة لي غير معروف، كما كثيرين، وهو أن الشهيد الأيوبي كان له دور في المقاومة ضد العدو الإسرائيلي منذ زمن بعيد، وهنا أقصد في ستينيات القرن الماضي، متزامناً مع بروز الثورة الفلسطينية ومع قيام المؤتمر الحزبي للشيوعي اللبناني والذي عدل في سياسته تجاه العروبة. وهذا ما يجعل بكل تأكيد نظرة جديدة لدوره وبالتالي دور الشيوعيين في تاريخ لبنان ومستوى الانخراط إلى هذا المدى في شأن الصراع في المنطقة، وممكن أن يؤثر ذلك في الكشف عن أمور جديدة. 

وكانت من المسكوت عنها وربما كانت أعداد من شارك في الستينيات وبشكل سري بقيادة المير هم من انخرطوا في "جمول" المقاومة الوطنية اللبنانية، باعتبار أنهم قد تدربوا على القتال بأعداد صغيرة، والتي أتت هذه المقاومة بعد اجتياح 1982 الذي وصل إلى بيروت وأخرج المقاومة الفلسطينية من لبنان. 

إلى أيّ حدّ يُمكن للصورة الوثائقية، أنْ تعمل على تحرير الذاكرة التاريخيّة من جمودها وتجعلها مُتحرّرة من التاريخ ومُتشابكة بأسئلتها وقضاياها مع الزمن المعاصر؟

حاولت أن أظهر ما قاله لي المعاصرون لتلك الحقبة وقد نقلت ما رأيته يضيف، ويؤكد على ثوابت تاريخية والتفصيل مدعم من أكثر من شخصية شاركت بشهاداتها في الفيلم على ما تصورت. بالنهاية الفيلم يأتي مما يزيد عن 16 ساعة وثائق استل منها الفيلم كما ظهر في نهاية المطاف. أما أسئلة الزمن المعاصر، أقصد الآن، فلم أكن قاصداً الحديث عنه. الجميع يعرف أن الحزب الشيوعي اللبناني أصبح ثلاثة أقسام والفيلم تفادى الدخول بذلك واكتفى بالوصول إلى سنة 1979 السنة التي تم فيها اغتيال  الأيوبي. 

تبرز أهميّة الفيلم، لا باعتباره يطرق شخصية مُناضلٍ سياسي، بل في قُدرتك كمُخرج على إقامة توثيق بصريّ مذهل. إلى أيّ حد يُمكن الحديث هنا، عن تقاطع أو تلاق بين الواقعي والتخيلي؟

يمكن القول ذلك باعتبار أنه صادفني من بين الذين قصدناهم لأخذ شهادات عن تلك الفترة أي عن 40 سنة خلت أن ذهبوا بالخيال، وقد لاحظت أن القصص تناقض بعضها البعض. عندما كان يحصل ذلك كنت مجبراً على الاختيار والسؤال عن ذلك لمن ذاكرتهم لا زالت حية وناشطة، وعندما لم يتوافر ذلك كنت أتخلى عن القصة بكاملها.

أما عندما تتطابق كنت أسعى إلى المونتاج لأجمع كل التفاصيل من أكثر من صوت. قد يكون هذا الحل ضد منطق الوثائقي الأمين على الواقع الصافي إنما كانت حلولاً جمالية للاختصار ولإرساء بعض الحيوية على المشهدية التي حاولت تقديمها ولا أدري ما كانت النتيجة، إنما الجمهور الذي حضر عروضاً خاصة كان غير منزعج، أما بعض الأكاديميين فأبدو تحفظات. ولكن لا تنسى أن الفيلم تضخم بالمدة لترك مجال لأكثر عدد من الشهادات باعتبار أن الأفلام عن الحزب الشيوعي بدت لي شبه معدومة وأنا لا أعتبر شيوعياً منتسباً تنظيمياً.

وأمر ثان في هذا المجال وبدل تمثيل ما هو مفقود بالوثائق والذاكرة العامة ورغبة مني في استعادة لحظة الاغتيال، استخدمت نشيد "الجسر" ولكن بعد أن طلبت من مؤلف الموسيقى مارسيل خليفة أن أتصرف بالإيقاع ليصبح وكأنه يسير ليصبح، مارش فونابر، أي ما يشبه النشيد الجنائزي، فكان هذا الصوت مترافقاً مع صور الأمكنة التي سار بها الشهيد في آخر دقائق عيشه والذين كانوا مقربين منه يعرفونها.

وكأني بذلك أسقط إدخال مشاهد تمثيلية هناك بعض من يلجأ إليها ليسد الفراغات المحتملة أو ليوجد احتمالات الوصل بشؤون معاصرة، وهذا ما يعرف ب"الدوكو درام". هذه أيضاً من الحلول الفنية المتخيلة. 

بهذا المعنى، هل تستطيع السينما، مهما تشابكت مع عنصر الواقع واستندت إلى مادّة تاريخيّة محضة، أنْ تُقدّم سرداً بصرياً مُكثّفاً وأكثر دقّة بالنسبة إلى مسار الشخصية وذاكرتها وأحوالها؟

قد تكون الإجابة عن هذا السؤال تشبه إلى حد ما الإجابة عما أتى قبله. ولو شئت إعطاء أمثلة من الفيلم لأشرت إلى التفاصيل التي سمحت لنا بها أماكن كان يتواجد فيها وهي المقاهي الشعبية والمرفأ بصفته مهتماً بالنقابة فيه، ويدير نشاطاته والتركيز على الأيدي التي أصابتها التجاعيد نسبة للسنين التي مرت. وكذلك العاصفة التي تحرك الشجر خلف المتحدث وهي أمور كلها تعطيك إياها اختيار زاوية العدسة من الكاميرا كما تعطيك إياها خيارات محددة لشخصية بعينها. 

فمع الإبن البكر الذي شاهد أباه على متن سفينة لآخر مرة شئت أخذ المقابلة معه خارج التقليد، حيث تركت المرفأ كخلفية. ربما هذا المشهد وغيره مما هو مرتبط بمدينة الميناء أتت كلها لتلخص علاقة الشهيد بمطارح محددة في المدينة التي يعرفها، ولا زالت من خلال جيل محدد تعرفه معرفة حقيقية. هذا ما يمكن اعتباره تأريخاً أولياً ونقله من الشفهي إلى الوثيقة المشغولة عبر وسيلة وسيطة تتجه من خلال توسعها بالموضوع لتعبر عن الحياة السياسية التي كانت أكثر رحابة من أيامنا هذه. فقد تبين لنا أن أحزاباً وتجمعاً بمختلف المشارب من الإسلاميين إلى القوميين وصولاً إلى الشيوعيين كانوا على تواصل وحوار فكري وإنساني.

فالطبيب الذي عاين أحمد الأيوبي عندما انتابته أوجاع في الظهر جراء هربه من البوليس كان بعثياً وخلال الحصار على طرابلس سنة 1984 تجمعت كافة الأحزاب والجمعيات لتؤلف اتحاداً الهدف منه الخروج بحلول عملية للتخفيف على المواطنين.

كلها شؤون تم ذكرها في الفيلم ويمكن لها أن تذكر بتاريخ شخصي له انعكاسات على الشأن العام وهذا ما له علاقة بالتأريخ وعلاقة الفرد الشخصي به. أي علاقة هذا القائد الذي كان من قادة الحزب الشيوعي به. وبالطبع لو أضفنا على الفيلم شخصيات من تيارات أخرى سنحصل على بانوراما مكتملة عن صورة الحال السياسية، من دون أن تكون الوسيلة والطريقة جافة بما يشبه البيانات السياسية المحددة الأهداف.