حليم بركات: العرّاف يرفض نبوءته

شَهَرَتْهُ رواية "ستة أيام" التي "تنبأ" فيها بهزيمة 1967.. كيف جمع الأديب السوري حليم بركات بين السوسيولوجيا والرواية؟

  • مرّ حليم بركات بـ3 غربات في تنقلاته بين سوريا ولبنان والولايات المتحدة
    مرّ حليم بركات بـ3 غربات في تنقلاته بين سوريا ولبنان والولايات المتحدة

يتذكّر قارئ اسم حليم بركات (1933 - 2023) مفهوم الاغتراب الذي شغل هذا الرجل طوال حياته، وكرّس له من طاقته وجهوده في البحث والحفر ما يفوق قدرة إنسانٍ واحد. لكنّ الاسم، على الطرف الآخر، مقرونٌ بالرواية، كاشتغالٍ فكري وأدبي على حد سواء. الرواية كدراسة للمجتمع، أو قراءة له، واستشراف ما يمكن أن يؤول إليه بناءً على هذه القراءة المتوزّعة على 17 كتاباً، على صعيدَي السوسيولوجيا والرواية.

مرّ بركات بـ3 غربات، الأولى حين غادر بلدته السورية الكفرون إلى بيروت، والثانية حين غادر بيروت إلى الولايات المتحدة، والثالثة تمثّلت في استقراره في الولايات المتحدة. اغترابه الشخصي هذا سيدفع به للحفر في مفهومي الاغتراب والغربة والكتابة عنهما. مع ذلك، ظلّ لبركات صوته الخاص، صوتٌ قوي تتبيّنه بين عشرات الأصوات، كما يقول جبرا إبراهيم جبرا عنه، فيه شيء من جمجمة الشباب الحي، ولكن فيه صلابة نفّاذة، تُقلق الأذن ثم ترغمها على الإصغاء... إنه صوتُ مَن رأى رؤى وأحسَّ بالمأساة.

سؤال الرواية 

أهمية الرواية بالنسبة لبركات توازي أهمية علم الاجتماع، حيث يشكّل كلاهما بالنسبة له نوعاً من الهم الفكري الساعي ليصير اشتغالاً نقدياً أو أدبياً، على الرغم من الاختلاف بينهما في نمط التفكير ومنهجية العمل. يؤكد ذلك قول بركات نفسه: "منذ البداية بدأت أعرف أنني أريد أن أكون روائياً، وسألت نفسي هل أدرس في الجامعة لأتخصص بالأدب، أم أتخصص في علم الاجتماع والنفس، فاخترت علم الاجتماع، وذلك ليقيني أنّه سيفيدني في كتابة الرواية لأنّه يكشف البنى الاجتماعية وتأثيرها في الأفراد، والعلاقة بين هذه البنى والمؤسسات مثل العائلة والدين والسياسة والطبقات الاجتماعية، وهي عناصر تدخل في بنية الرواية، ليس فقط في وصف الشخصية بل في تجارب هذه الشخصية المتأثرة إلى حدّ بعيد بالطبقات الاجتماعية والأوضاع المختلفة لظروف العائلة والدين والسياسية".

على الطرف الآخر، فإنّ الرواية بالنسبة لبركات لا تتكلم عن المشاعر، بل عن الوعي وعن معرفة الواقع الاجتماعي، معرفة العائلة وكيف تؤثر بالأفراد، وكذلك معرفة الطبقات الاجتماعية والمؤسسات الدينية. لا يستطيع العربي أن يكتب من دون أن يتوسع أفقياً وعمودياً في فهم المجتمع. كما يعتقد بركات أن الرواية تتبدل وتتغير، تركّز على الفرد أحياناً وعلى المجتمع في أحيان أخرى. عندما يريد بركات أن يدرس العائلة أو الدين فإنه يجدهما في الرواية، إذ تستطيع الرواية أن تتناول المجتمع بشكل شامل، بينما تفتقر الفنون الأخرى إلى هذا النوع من الاهتمام.

بركات، وفقاً للروائي اللبناني إلياس خوري، روائي نموذجي للدراسة، لأنّه يكشف أو يسمح للنقد بأن يكشف عناصر تكوّن الوعي في أحد أوساط النخبة العربية، أو هو يكشف وعي النخبة للمسائل المركزية التي يواجهها المجتمع العربي، التي تتمثّل في حلّ المشكلة الوطنية والاجتماعية.

وهو بهذا المعنى يتابع خطّاً روائياً يبدأ من "عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم، ويمتد إلى قطاعٍ واسع من الرواية العربية، مثّله كُتّاب مثل سهيل إدريس والطيب صالح، حيث أنّ البطل هو المثقف، وحيث ينعكس في وعي البطل الواقع الشامل الذي تعيشه الأمة، والذي لا تستطيع التعبير عنه من خلال نماذج من طبقات اجتماعية مختلفة، فيصبح الوعي هو البطل، ويصير البطل مثقفاً بالضرورة.

من هنا، أحدثت روايته "ستة أيام" هزّة في الأدب العربي عند نشرها سنة 1961، إلى حدِّ اعتبارها نبوءة واعتبار صاحبها عرافاً يكتب شيئاً يقينياً لا بد من حدوثه.

العرّاف الذي يرفض نبوءته

يضع حليم بركات جملةً موحية في الصفحة الأولى من رواية "ستة أيام"، يظلّ يتردّد صداها على امتداد الرواية التي صنعت شهرته. والجملة الموضوعة لوصف بطل الرواية تقول: "كأنه عرّافة دلفي وقد أخذ دخان المذابح يغمرها".

الرواية كلّها، بجملها الشعريّة القصيرة، وأجوائها التي تُحيل إلى الرعب وتُرجِع إلى الاغتراب، بعبارتها المقتضبة والمكهربة حسب وصف ميخائيل نعيمة، ونبضها العالي اللجوج الذي كأنه في سباقٍ مع الثواني، أو كأنه يخشى أن تمرّ به ثانية فلا ينتزع منها كل ما هي مشحونة به من أحداث وأسرار. الرواية كلّها إذن تكاد تكون معادلاً لكلمات الشاعر ثيوكريتوس عن عرّافة دلفي: "الآن هي تستعد… احذروها عندما ترعد وتزبد… وتتفوه بكلمات كالصواعق… ومثل أحاجي السحر تسير بك الكلمات عبر مصيرك الذي تتمنى لو لم تعرفه".

تنطبق العبارتان الأخيرتان تماماً على الرواية، كما يبدو أنّ ما كُتِب في تقديمها كافٍ كي لا تُلغى متعة اكتشافها: "كانت (أي الرواية) سبّاقة في أسلوبها، وفي طرحها لموضوعة هزيمة العرب في حربهم ضد العدو الإسرائيلي الذي حصل بعد ذلك بسنوات (سنة 1967)، وفي جرأتها على طرح أفكارٍ جديدة تمسّ صميم مشاكل المجتمع العربي. فالرواية توجّه نقداً مبكراً لأساليب النضال آنذاك، ولتقديس الأشخاص، وللرهانات الفاشلة على قدرة الأنظمة العربية آنذاك على تحرير الأرض المحتلّة، كما للانقسامات الطائفية والمذهبية التي تنخر وحدة المجتمع العربي، ولتلك الصورة من البطولات التي تدفع ثمناً غالياً ولكنها لا تجني سوى الهزيمة. وهي تقول ذلك بلغة مباشرة بسيطة وقوية، بعيداً عن التفخيم اللغوي الذي كان يميز الكتابة العربية، فتعتمد الجملة القصيرة وترسم صورة واقعية لم تكن هي الصورة السائدة آنذاك".

رفض بركات دائماً وصف روايته بالنبوءة، وأصرّ على أنها مُستقاة من دراسته للمجتمع العربي وفهمه له. لكنّ الرواية، من جهة ثانية، تشمل البحث المجتمعي في الإطار الروائي، لا سيما في موضوعة الاغتراب. إنّ القضية الأساسية التي يطرحها بركات هنا من خلال بطله، وفقاً لعبد الكريم الأشتر في "دراسات في أدب النكبة"، هي قضية القدرة على فهم الواقع المتخلف في بلادنا، وتجاوز ما يولّده في النفس من إحساس منفّر بالقبح، والرضا عنه بالرغم من أغلال التخلف الثقيلة. إذن، هي القدرة على تحطيم أسوار الذات، وخلط همومها بهموم الأرض وناسها، حتى تصبح جميعاً همومه (أي البطل) التي يسعى للخلاص منها. يختصر الأشتر مغزى هذه الرواية بالقول: "الانتماء، الانتماء العميق الواعي إلى الوطن وقضيته، والامتلاء بهما، والفرار إليهما من التوتر والحيرة والضجر، أمراض المجتمعات المعقدة".

الرواية الرفضيّة

التضافر بين اهتمامي حليم بركات في الرواية وعلم الاجتماع مؤكد أكثر في روايته التي تبعت "ستة أيام"، وهي "عودة الطائر إلى البحر" (1969). شخصية الرواية الرئيسية هي أكاديمي فلسطيني يُدعى رمزي الصفدي، وهو شخصية ترمز إلى المؤلف نفسه.

تقوم الرواية في جزءٍ كبير منها على التسجيل، وتعتمد على بحوث ميدانية ومقابلات استبيانية يجريها رمزي صفدي في الرواية، وهو ما كان قد قام به بركات فعلاً في عمّان بعد الحرب بالشراكة مع الأكاديمي الأميركي بيتر دود.

صدرت دراستهما باللغة الإنجليزية في العام 1968 عن "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" بعنوان "نهر بلا جسور: دراسة لنزوح اللاجئين العرب في 1967". جاءت الرواية إذن لتكمل هذا البحث الميداني، وقد صرّح بركات بذلك عام 2000 في حواره مع مجلة "الآداب"، قائلاً إنّه أحسّ بأنّ الدراسة الأكاديمية لم تتمكّن من تغطية الجانب الإنساني، ومن هنا أتى اضطلاعه بكتابة الرواية لتلافي ذلك النقص.

لخّص حليم بركات في إحدى المرات الموضوعات المطروحة في روايتيه المذكورتين أعلاه بالقول: "في روايتي "ستة أيام" ينشغل بطلها سهيل بقضايا قريته "دير البحر"، التي ترمز إلى فلسطين. ومشكلته كانت أنّه كان جزءاً من حركة المقاومة، وإذا عدت إلى روايتي "عودة الطائر إلى البحر" تجد أن بطلها أيضاً يودّ أن ينخرط في بلاده، وأن يصبح هو وبلاده شيئاً واحداً. وما ينطبق على الروايتين المذكورتين ينطبق بنسبة أو بأخرى على روايتيّ "الرحيل بين السهم والوتر" و"إنانة والنهر"، لأنّهما عالجتا قضايا إنسانية يرتبط بها إنساننا".

إنّ أغلب مُنجز بركات الروائي، لا سيما "ستة أيام" و"عودة الطائر إلى البحر"، يقوم على رواية التمرّد الفردي، أو الرواية الرفضيّة. وهي، كما يقول بركات، تُصوّر الإنسان في حالة اغتراب عن المجتمع والمؤسسات والثقافة السائدة، وتنفر من الواقع بما فيه من حركات التغيير القائمة، كما ترفض علاقات القوة.

ويمكن القول إنّ رواية التمرّد العربية عبّرت عن القلق الناتج من الحداثة في الحياة الإبداعية؛ فقد كانت جزءاً من حركة التنوير العربية التي تدعو إلى التحرّر على صعيد الرؤية والمفاهيم والمواقف وأساليب التعبير في طرحها مع التقاليد التي تتمسك بها الثقافة السائدة.