"خزف سجنان" حِرفة فنية تونسية تقاوم النسيان

أدرج في لائحة "اليونيسكو" للتُراث غير المادي في العام 2018.. "خزف سجنان" حِرفة فنية وتقليدية تونسية تقاوم سطوة آلات الصناعة الرأسمالية.

تحت عنوان "سجنان"، وبإشراف "المركز الوطني للخَزْف الفني" سيدي قاسم الجليزي، تحتضن "مدينة الثقافة" في العاصمة التونسية معرضاً حِرفياً في رواق خزفيات. وقد تمّ تسجيل هذا المنتوج التقليدي رسمياً على لائحة "اليونيسكو" للتُراث العالمي غير المادي في شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 2018. فما الذي حوَّل هذه الحِرْفة التقليدية إلى عملٍ فني؟ ولماذا تحاول أن تقاوم التلاشي خاصة وأنها تدخل ضمن هوية البلاد الثقافية؟

علاقة الحِرفة اليدوية بالهوية الثقافية والاجتماعية

  • إناء للأكل
    إناء للأكل

في كتابه "جدل التنوير" أثار ثيودور أدورنو مسألة تضاؤل قيمة المنتوج الآلي الميكانيكي أمام المنتوج اليدوي، وتفوّق الحِرْفة التقليدية ضمنياً على ما تفرزه ماكينة المجتمع الإستهلاكي الخاضع للرأسمالية المتوحَّشة، وهو ما يعني مقاومته للهيمنة الصناعية التي أرست النمطية. فهي تسعى من خلال تكريس النموذج ذاته إلى طَمْسِ الهوية الفردية، ورَدْم جماليّاتها التي تجمع بين اللمسة الفنية وصُنف فُطري يكاد يكون بدائياً لهذه المصنوعات ذات الطابع المحلي.

من هذا المنطلق نفهم تمسّك الحِرَف التقليدية بالبقاء في عالمٍ مُتسارعٍ يستهلك الزمن ولا يعبأ بقيمة الجهد الفردي. لا يشذّ "خَزف سجنان" عن هذا المنحى الرافض لسطوة الآلة على أصابع الحِرَفية. خاصة إذا عرفنا أن المرأة هي التي تقوم بصنع هذه التحف الفنية ذات الاستخدام اليومي النَفْعي، بما يُتيح للمُستهلك تحويلها إلى مُنْتَجٍ له قيمة تراثية جميلة ويمكن استعمالها في مستويات عدَّة.

يعتبر هذا النشاط الحرفي التقليدي المتوارث منذ آلاف السنين مورد رزق أساسي بالنسبة إلى عدد كبير من العائلات التي تساهم المرأة في دعمها مالياً.

في سجنان الواقعة في شمال تونس وهي منطقة أمازيغية عُرِفَت بقساوة طبيعتها، دأبت النساء على صناعة الفخَّار أو الخَزْف اليدوي وتعرفن بأنهن صانعات "عرائس الطين"، حيث يقاومن الظروف الاجتماعية الصعبة.

ويُعتبر هذا النشاط الحِرَفي التقليدي المُتوارَث منذ آلاف السنين مورِد رزقٍ أساسي بالنسبة إلى عددٍ كبيرٍ من العائلات التي تساهم المرأة في دعمها مالياً. تُعْرَف هذه الحِرْفة بأنها شاقّة وتتطلّب خبرة ودراية كبيرتين ومعرفة بأنواع الطين وبالمواد الطبيعية المُسْتَخْدَمة، مثل أنواع النبات والمقادير التي تُسْتَعْمَل في زخرفة وطلاء الأواني والتحف ، وكذلك المعرفة بعملية التجفيف وهندسة الأشكال التقليدية بما يتلاءم مع الخصوصيات التي تمتاز بها المناطق البربرية في تونس والمغرب العربي.

هناك  ثُنائية اللون عادة، وتكون الزخرفة مُشعَّة بالأسود أو الأحمر، وتتجمَّع في مركز القطعة المصنوعة وتستخدم الخطوط كدلالة على التقسيم البدائي الذهني لأيّ جسمٍ محسوسٍ أو مُتَخيَّل، وهي تذكِّرنا بالحياكة البربرية وما يوشَم على أيدي وأرجل النساء. كما لا تخلو القطعة عادة من المُثلّثات والدوائر وأوراق بعض الشجر البسيطة، وغالباً ما تبقى خالية من التزيين ما يعكس تصوّراً بسيطاً لفنٍ فطري تقوم به طبقة اجتماعية لم يدخل عنصر الفَهْم المركّب للفن سجّلها الحياتي اليومي.

رؤية استعادية للعالم 

  • طير للزينة
    طير للزينة

غالباً ما يتمّ استخراج الطين الذي يُقطَّع إلى كتلٍ من أحواض الأودية ويتمّ إثر ذلك سحقها بعد تنقيتها ونقعها، حيث تكتسب بعد ذلك مرونتها بعد أن تبقى مدّة معيَّنة ليتمّ عَجْنها وخلطها بمادةٍ محليةٍ هي (التفون)، المكوَّنة من شظايا فخّار أو قرميد يتمّ سحقه للحصول على اللون الأحمر الذي يُضاف إلى الأسود. والمعروف أن هذه المكوِّنات لا تخضع لمواد صناعية أو كيمياوية إذ يمنع استخدام الورنيش أو الحبر الصيني.

المُلاحَظ لزخزفيات سجنان أنها أعمال تستمدّ نماذجها من البيئة الريفية. فهناك طائر الحبارى الشهير بجماله والقطّ والسُلحفاة والدُمى أو العرائس التي تُعيدنا إلى التانيت وعليسة والعرائس التي تجمع الأمّ بطفلها، تُحيلنا إلى التحف الأثرية المُسْتَخْرَجة من المدافن البونيقية التي وجِدَت في تونس.

ومن أهمّ الملاحظات حول هذه الأعمال هو تثمينها للمواد الأولية والبيولوجية، وكذلك إعادة الرمز الطَوْطَمي ليس في بُعده الأسطوري فقط، بل في بُعده الشعبي كمادةٍ مُتَخَيَّلةٍ وبسيطةٍ وخاليةٍ من التكلّف.

تستمد زخزفيات سجنان نماذجها من البيئة الريفية. فهناك طائر الحبارى الشهير بجماله، والقطّ والسُلحفاة والدُمى أو العرائس التي تُعيدنا إلى التانيت وعليسة والعرائس التي تجمع الأمّ بطفلها.

ربما يُحيلنا هذا التعامل غير المُعقَّد مع الحيوانات والأواني والمُجسَّمات البشرية إلى ما ذهب إليه مارسيا الياد في كتابه "أسطورة العود الأبدي"، إلى أن كل فعل دنيوي عند الإنسان القديم يُسهم بطريقةٍ ما في طقسٍ مُقدَّس، فهو لا يفصل بين العالمين. ورغم أن أغلب هذه الأفعال خضع إلى مسارٍ طويلٍ حتى نزعت عنه القداسة عند الإنسان الحديث، لكن لا يمكننا طَمْس الماضي.

قطعة خزفية لا تتكرَّر

  • محمد حشيشة مع جمعة السالمي الحاصلة على وسام الجمهورية للحرف وهي احدى العارضات
    محمد حشيشة مع جمعة السالمي الحاصلة على وسام الجمهورية للحرف وهي احدى العارضات

حينما نتحدَّث عن خَزْف سجنان فإننا نتحدَّث عن كل الحِرَف التقليدية اليدوية. فنحن إذ نحاول محاصرة لحظة إتمام  كل القِطَع المعروضة، فإننا لا نقاوم فكرة أنها مثل عمل فني قد يتشابه لكنه لا يتكرَّر، وهذا لصعوبة إعادة  المقاييس نفسها على الخَزْفيات المُتشابِهة وهو ما عبَّر عنه مارسيل دوشامب في حديثه عن الفن بأن النادر هو ما يعطي للعمل قيمته الفنية.

ونعود كذلك إلى فكرة أن الطبيعة الخاصة لهذه القِطَع الخَزْفية المُستوحاة من البيئة نفسها، لكن مصنوعة بأيدٍ مختلفة، هو ما يعطيها قيمة في رحلتها من سلعةٍ معروضةٍ للبيع إلى مادةٍ تمتلك جماليات العمل الفني.

ولعلَّ هذا ما دمج الحِرَف مع الفنون الجميلة. وهي قابلة للانتشار من دون أن تفقد خصوصيّتها المحلية. هذا هو التنوّع المثالي إذا اعتبرناها سِلعاً استهلاكية. فهي قابلة للبيع ومُعدّة لعدم الاستغناء عنها كشيءٍ نادرٍ لأنه غير خاضع للذوق الآنيّ أو الاستخدام الزمني القاسي للموضة مثلاً. رغم أنه لا توجد نيَّة تجميلية بَحْتة على حساب الاستخدام اليومي للخَزْفيات إلا نادراً، وحيث أن البحث عن تجديد التراث يخضع لمهمة الفنان فإنه لا يتمّ إعلاء الجانب الفني على حساب الجانب النَفْعي، فالأواني عادة تُسْتَخْدَم كأدواتٍ لا غنى عنها في الطَهْيّ أو الأكل أو التدفئة أو الإضاءة.

ويشير محمد حشيشة، مدير "المركز الوطني للخزف الفني"، إلى أن قيمة فخار سجنان "تترسخ بمحافظته على خصوصياته المحلية والجمالية كما لا تتوفر له الديمومة ما لم يتم الحفاظ على الجانب التقني الصحيح أثناء مراحل صنع هذا المنتوج الذي اكتسب شهرة عالمية"، لافتاً إلى أن "مراحل صناعة هذه القطع تتم عادة على امتداد سنة كاملة حيث يتم استخدام النار وفق معايير مضبوطة، لأن لكل لون ناري درجة معروفة من الحرارة تتواصل 24 ساعة وتراعي تحول الفخار إلى مادة صلبة وهو ما يسمى "التفخير" وبذلك يمكن أن تقاوم الزمن".

حشيشة: هناك محاولات لتشويه هذا الارث تحت ذريعة الانتشار والكسب السريع، وإن كانت الرغبة في الكسب المالي لها انعكاسات سلبية على القطع الفخارية، حيث أنها صارت تعتمد سرعة الانجاز مما يؤدي إلى تدني قيمتها وتقلص مدة استخدامها.

وأضاف حشيشة أن هذا المنتوج: "يجب ألا يتأثر بعوامل التحديث أو ادخال لمسة عصرية عليه، حيث أنه لا يمكن أن ندخل عليه تعديلات هجينة على مستوى الشكل أو اللون تفادياً لمحو مميزاته البربرية التونسية. وقد شهدت هذه الحرفة اليدوية صعوبات كثيرة أهمها الصعوبات الاقتصادية حيث أنها نشاط هش يعتمد على سوق متغيرة وهي ترتكز على مجهود المرأة الحرفية بالأساس. فالرجل يغيب عن عملية الصناعة لأن دوره يتمثل أغلب الوقت في عملية البيع. كما أكدت ذلك بعض الدراسات الاجتماعية التي رصدت هذا العالم الحرفي المتجذر في المناطق الأمازيغية الشمالية والذي يمتد الى جزر كاناري. هناك محاولات لتشويه هذا الارث تحت ذريعة الانتشار والكسب السريع وإن كانت الرغبة في الكسب المالي لها انعكاسات سلبية على القطع الفخارية، حيث أنها صارت تعتمد سرعة الانجاز مما يؤدي إلى تدني قيمتها وتقلص مدة استخدامها".

وعلى الرغم من أن فخّار سجنان دخل التراث العالمي، فإن مدير "المركز الوطني للخزف الفني" يدعو إلى ضرورة إيجاد "سياسة حكومية واضحة للحفاظ عليه عبر الاحاطة أكثر بالنساء الحرفيات وتوفير ظروف معيشية أفضل، خاصة وأن هناك من حصدن جوائز خارج تونس، فهنّ حارسات تراثنا في عالم يحاول إفراغ الرموز الأصيلة من شحنتها القيمية الانسانية، وإسقاط مفاهيم وتصورات بعيدة من واقعنا وفهمنا لعلاقتنا وكيفية التعامل مع مكونات هويتنا".

وظيفة جمالية واقتصادية

  • عروسة الفخار
    عروسة الفخار

ترى عالِمة الأنثروبولوجيا رينتز بيدات أنه استناداً إلى العلاقة بين الحِرَفي والمُسْتَهْلِك، فإننا نفسِّر هذا النشاط الاجتماعي مُتَّبعين الفرضية الماركسية الأساسية القائلة إن العلاقات الاقتصادية هي أيضاً علاقات اجتماعية.

فنحن إزاء معروضات تحوَّلت إلى موضوع منفعة وقيمة. كما أننا ننظر إليها كصياغةٍ لمجهودٍ بشري تحوَّل إلى نَسْجِ علاقات اجتماعية تقوم على عَقْدٍ اجتماعي، غايته إعادة توزيع هذا المجهود بمقابلٍ مادي.

هذا الدور التفاعلي بين العارض وبين المُتفرِّج/المُشتري هو استمرارية للهوية وللتراث كقيمة، وهذا عكس العمل الآلي الصناعي. إذ نجهل أغلب الوقت الهوية الحقيقية للصانع، حيث سلطة الإنتاج تُغطّي على صاحب المنتوج.