سموتريتش... تغريب الأصيل وتأصيل الغريب

بعد قرن ونيف من التنقيب الأثري الذي لم يترك شبراً أو حجراً من أرض فلسطين دون قلبها، لم يعثر حتى الآن على أي دليل آثاري، سواء كان كتابة أو نقشاً، أو في نصوص يمكن أن يشير إلى تاريخ عبري/ إسرائيلي في فلسطين.

  • أكاذيب وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش.
    أكاذيب وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش سرعان ما تتهافت بالأدلة التاريخية.

قال وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، مساء الأحد (19/2/2023) في باريس، إن «الشعب الفلسطيني اختراع لم يتجاوز عمره 100 عام». وتابع سموتريتش، خلال إحياء ذكرى وفاة الناشط الفرنسي الإسرائيلي المقرّب من اليمين الإسرائيلي جاك كوبفر «يجب قول حقيقة جاك بكل قوة ومن دون تردد... قال إنه لا يوجد شيء اسمه الفلسطينيون - لأنه لا يوجد شيء اسمه شعب فلسطيني». وسأل «هل تعرفون من هم الفلسطينيون»؟ مجيباً «أنا فلسطيني»، مشيراً إلى جدته التي ولدت في بلدة المطلة قبل 100 عام، وجده المقدسي من الجيل الثالث عشر، باسم «الفلسطينيين الحقيقيين». وتابع «هناك عرب حولهم لا يحبون ذلك... اخترعوا شعباً وهمياً ويدعون حقوقاً وهمية في أرض إسرائيل فقط لمحاربة الحركة الصهيونية». وأضاف «هذه هي الحقيقة التاريخية، هذه هي الحقيقة التوراتية... التي يجب أن يسمعها العرب في إسرائيل وكذلك بعض اليهود المشككين في إسرائيل، هذه الحقيقة يجب أن تُسمع هنا في قصر الإليزيه، وفي البيت الأبيض في واشنطن، والجميع بحاجة لسماع هذه الحقيقة، لأنها الحقيقة». وتابع الوزير الإسرائيلي قوله: «وفقًا للقانون الدولي، يتم تعريف الشعب من خلال تاريخه وثقافته ولغته وعملته وقيادته، من هو أول ملك فلسطيني؟ ما هي اللغة الفلسطينية؟ هل كانت هناك عملة فلسطينية من قبل؟ هل هناك تاريخ أو ثقافة فلسطينية؟ لا».

اقتبسنا هذه الفقرات وفي نيتي أن أقدم في هذه الدراسة تقويماً تاريخياً لهذه النصوص. وبقليل من الجهد نستطيع أن نقتبس أقوالاً وحججاً من مصادر تاريخية تفنّد تصريحات وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش.

"إسرائيل" طفل لقيط

ما لم يقله سموتريتش، هو أنّ الكيان الصهيوني، هو طفل لقيط، ولد نتيجة العدوان على الشعب الفلسطيني، واغتصاب أرضه. وأن المشروع الصهيوني استيطاني ـ اجتثاثي ـ إحلالي، جوهره تفريغ الأرض من السكان، فالحكايا الفلسطينية التي يرويها أجدادنا عن النكبة والتطهير العرقي، تم تأكيدها بوساطة التوثيق المحفوظ في الأرشيفات الإسرائيلية، فالمؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه، في كتابه «التطهير العرقي»، يؤكد أن ما تم في فلسطين، هو، «تصفية إثنية مخططة وممنهجة»، و«كانت النتيجة الحتمية للنزعة الأيديولوجية الصهيونية، التي تطلعت إلى أن تكون فلسطين لليهود حصرًا».(1) أو كما يقول المفكر الفرنسي، إنزو ترافيرسو، ذو الأصل الإيطالي، في كتابه «نهاية الحداثة اليهودية: تاريخ انعطاف محافظ»: «ثمة أمر مؤكد هو أن سلوك الجيش الإسرائيلي خلال الصراع كان يندرج في إطار المشروع الصهيوني لإنشاء دولة يهودية من دون عرب». وبذلك ظهرت "إسرائيل" على حد تعبير أندرسون، كـ«جمهورية من الدم والعقيدة»، أي ديمقرطية محددة على أسس طائفية وعرقية، مفتوحة أمام كل أنصار الشريعة الموسوية.(2)

التوراة لا إثباتات على الأرض

بعد مرور أكثر من قرن ونيف على التنقيب الأثري الذي لم يترك شبراً أو حجراً من أرض فلسطين دون قلبها، لم يعثر حتى الآن على أي دليل آثاري، سواء كان كتابة أو نقشاً، أو حتى نقش يقبل التفسير، أو في نصوص تقبل ـ حتى ـ التأويل، يمكن أن يشير إلى تاريخ «عبري/ إسرائيلي/ يهودي» فيها؛ وأي محاولة للتوفيق بين البيِّنات التوراتيَّة، وغير التوراتيَّة، إثباتاً لتاريخانيَّة «العبري/ الإسرائيلي/ اليهودي»، سرعان ما دخلت مرحلة الانهيار، التي ما زالت مُتواصلة حتى اليوم.

ومن أبرز رواد هذا الإتجاه وأكثرهم تأثيراً توماس تومسون (Thomas L. Thompson)، وفيليب ديفيز (Philip R. Davies)، وكيث وايتلام (Keith W. Whitelam)، ونيلز بيتر لمكه (Neils Peter Lemche)، وجيوفاني غاربيني (Giovanni Garbini). 

فمنذ أواخر سبعينيات القرن العشرين ومطلع ثمانينياته، بدأ جيل جديد من علماء الآثار استخدامَ وتطوير أسلوب مستحدث في التنقيب؛ وهو أسلوب المسح الميداني الكامل لمناطق جغرافية معينة (Regional Survey)، بدلاً من الحفر في مواقع متباعدة ومنعزلة عن بعضها.  في هذا السياق، جهّزت جامعة تل أبيب فِرَق تنقيب متنوعة مزودة بعلماء من شتى الاختصاصات لمساعدة علم الآثار. مسح أفرادها كل متر من مناطق الهضاب الفلسطينية، سيراً على الأقدام.

عملت تلك الفرق، خلال العشرين سنة الماضية، على جمع معلومات غزيرة أحدثت ثورةً في علم آثار فلسطين. وكلما كانت المعلومات الأركيولوجية تتراكم ويتم الربط بينها وتحليلها، تبين للمؤرخين والآثاريين صعوبة ملاءمة هذه المعلومات مع الرواية التوراتية.

دفع ذلك واحداً من ألمع علماء الآثار في الكيان الإسرائيلي، وهو إسرائيل  فنكلشتاين (Israel Finkelstien)،  إلى الدعوة لتحرير علم الآثار الصهيوني من سطوة النص التوراتي. وفي ندوة عقدتها جامعة بن غوريون، عام 1998، وموضوعها "أصول إسرائيل"، أكّد فنكلشتاين أنّ المصدر التوراتي الذي تحكّم بماضي البحث في أصول "إسرائيل" قد تراجعت أهميته في الوقت الحاضر، ولم يعد من المصادر الرئيسية المباشرة، إذ إن حمل أسفار التوراة، التي دُوّنت بعد وقت طويل من الأحداث التي تتصدى لروايتها، طابعاً لاهوتياً يجعلها منحازة، الأمر الذي يجعل من البحث عن بذور تاريخية في المرويات التوراتية عملية بالغة الصعوبة، هذا إذا كانت ممكنة من حيث الأصل. من هنا يرى فنكلشتاين ضرورة استقراء الوقائع الأركيولوجية استقراءً موضوعياً وحراً، بمعزل عن الرواية التوراتية.(3) 

يُعدّ من أبرز رواد هذا الاتجاه البروفيسور تومسون، أستاذ علم الآثار في جامعة ماركويت في ميلووكي بالولايات المتحدة الأميركية، الذي حورب بسبب آرائه المعارضة للتوراتيين التقليديين، إذ طُرد من منصبه في العام 1992، لأنه دعا في كتابه الذي صدر في العام نفسه، وعنوانه "التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي" إلى "نقض تاريخية التوراة"؛ أي عدم الاعتماد على التوراة كتاباً لتاريخ المنطقة والحضارات، في مقابل اعتماد الحفريات الأركيولوجية (الأثرية) وثروة الآثار الكتابية القديمة كمصادر لإعادة كتابة تاريخ المنطقة، قائلاً: "إن أي محاولة لكتابة تاريخ فلسطين في أواخر الألف الثانية قبل الميلاد، أو بدايات الألف الأولى قبل الميلاد، على الضوء التام لمصادر الكتاب المقدس، لتبدو على الفور محاولةً فاشلةً وميئوساً منها، بل يمكن اعتبارها محاولة هزلية بالكامل، وتبعث على الضحك والفكاهة. إن قصص العهد القديم ما هي إلا مأثورات وحكايات كُتبت أثناء القرن الثاني قبل الميلاد. وإنه مضيعة للوقت أن يحاول أي إنسان أن يثبت مثل هذه الأحداث التوراتية من خلال علم الآثار القديمة، فالعهد القديم ليس له أي قيمة كمصدر تاريخي«(4).

عَمَلَ كيث وايتلام، أستاذ العلوم الكتابية في قسم الدراسات اللاهوتية بجامعة سترلنغ بالمملكة المتحدة، على مراجعة المؤلفات التي تعاملت مع تاريخ فلسطين القديم، وأدرك في حينها مدى توغل الخطاب الاستشراقي في الكتابات عن تاريخ فلسطين. أشار وايتلام إلى أن هناك عملية طمس متعمد ومبرمج من قبل الحركة الصهيونية لكثير من الدلالات التاريخية للمكتشفات الأثرية في فلسطين، ومحاولة تفسيرها بطريقة مغلوطة في أغلب الأحيان، ليتوصل في كتابه "تلفيق إسرائيل التوراتية طمس التاريخ الفلسطيني" إلى "أن صورة ماضي إسرائيل، كما وردت في معظم فصول الكتاب العبري، ليست إلا قصة خيالية؛ أي تلفيق للتاريخ"(5).

كانت الصفعة القاسية والضربة القاصمة، التي تلقاها الباحثون عن "إسرائيل القديمة" في فلسطين، هي تلك التي رماهم بها عالم الآثار الصهيوني، أستاذ قسم الآثار وحضارة الشرق القديم في جامعة تل أبيب، البروفيسور زئيف هرتسوغ في تقريره الموسوم بـ"التوراة: لا إثباتات على الأرض"، الذي نشرته جريدة "هآرتس" العبرية بتاريخ 18/11/1999. ورغم أننا لا نتفق مع كل المنطلقات النظرية للعالم الصهيوني، أو مع بعض استنتاجاته التي وصل إليها بخصوص بعض جوانب التاريخ الفلسطيني القديم، إلا أن ذلك لا يمنعنا من إدراك أهمية بحثه.

يذكر هرتسوغ أنه: "بعد سبعين عاماً من الحفريات المكثفة في أرض فلسطين، توصل علماء الآثار إلى نتيجة مخيفة، لم يكن هناك شيء على الإطلاق، حكايات الآباء مجرد أساطير، لم نهبط مصر، ولم نصعد من هناك، لم نحتل فلسطين، ولا ذكر لإمبراطورية داود وسليمان". ويستطرد هرتسوغ قائلاً: "من المعتقد أن سكان العالم كله، لا مواطني إسرائيل وأبناء الشعب اليهودي وحدهم سيذهلون لسماع الحقائق التي باتت معروفة لعلماء الآثار الذين يتولون الحفريات في أرض فلسطين منذ مدة من الزمن".

فقد حدث انقلاب حقيقي في نظر علماء الآثار الصهاينة إلى التوراة باعتبارها مصدراً تاريخياً، حتى أن أغلبية المنشغلين في النقاشات العلمية في مجال آثار وتاريخ "شعب إسرائيل"، الذين كانوا يبحثون في الأرض عن البراهين والدلائل للحكايات الواردة في العهد القديم، يتفقون الآن على أنّ مراحل تكون "شعب إسرائيل" كانت مغايرة تماماً لما يوصف في التوراة. يبدو أنه من الصعب قبول ذلك عند كثيرين، لكن من الواضح للعلماء والباحثين اليوم أن "شعب إسرائيل" لم يُقم في مصر، ولم يَتُه في الصحراء، ولم يحتل الأرض من خلال حملة عسكرية، ولم يستوطنها من خلال أسباطه الاثني عشر. والأصعب من ذلك أيضاً هو هضم الحقيقة التي تتضح، رويداً رويداً، بأنَّ مملكة داود وسليمان الموحدة التي وصفتها التوراة على أنها دولة عظمى إقليمية، كانت في أقصى الأحوال مملكة قبلية صغيرة. إضافةً إلى ذلك، يُتوقع عدم ارتياح كل من سيضطر إلى العيش مع المعلومة القائلة أنّ "يهوه إله إسرائيل كان متزوجاً، وأن الدين الإسرائيلي القديم تبنّى التوحيد فقط في أواخر عهد المملكة وليس على جبل سيناء"(6).

هذا ما حدا بأحد أساتذة جامعة تل أبيب لعلوم الآثار، البروفيسور نيل سبلرمن، وزميله البروفسور إسرائيل فلنكشتاين إلى إطلاق صرختهما الشهيرة في كتابهما الصادم "التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها"، وذلك بعد أن تبين لهما وجود تضارب عميق بين ما تسطّره التوراة فيما يخص تفاصيل المواقع الجغرافية لأنبياء وممالك بني إسرائيل، وبين ما تشهد به الأرض بعد أن استنطقتها علوم الآثار(7).

الفلسطينيون.. تغريب الأصيل:

أما الوجود التاريخي للشعب الفلسطيني، فالحفريات تشير إلى أن «الإنسان وجد في فلسطين منذ أقدم العصور، وأنه عاصر أقدم النماذج البشرية» ــ كما تفيد آخر المكتشفات الأثرية ــ منذ ما يربو على مليون ونصف مليون سنة خلت، وقد وجدت هياكله العظيمة وآثاره الحجرية في عدة مواقع من فلسطين، ويطول بنا المجال إذا ما حاولنا تتبع هذه المسيرة عقب الحقب السحيقة في القدم، فمن هنا ــ على ما يبدو ــ ظهر الإنسان العاقل، منذ ما يربو على خمسة وثلاثين ألف عام مضت، وقامت كل الثورات الأولى هنا. إن الثورة بدأت بتعلم الإنسان فنون الزراعة، حتى أصبح ينتج قوْتَه بعد أن كان يلتقطه، ويكفينا أن نقول إن الزراعة كانت أهم عامل دفع الإنسان نحو الحياة المستقرة؛ فنتج من ذلك ظهور المجتمعات الصغيرة الأولى، ثم تطورت هذه المجتمعات إلى قرى، ثم إلى مدن صغيرة وكبيرة. وقد رافق هذا تطور مهم في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والفنية والسياسية.

فمن كان أصحاب هذه الحضارة، وإلى أي جنس ينتمون؟ أصحاب هذه الثورة الأولى، البالغة الأهمية، هم «الناطوفيون» (نسبةً إلى واد نطوف، شمال غرب القدس)، وتدل الهياكل العظمية التي عثر عليها في مواضع مختلفة على أن أصحاب هذه الثقافة كانوا أقرب إلى قصر القامة، يمتازون بالنحافة، يحملون صفات البحر المتوسط، برؤوسهم الطويلة، ووجوههم الضيقة المسكونة، مثل كثير من العرب الحاليين. فقد اكتشفت في فلسطين نحو خمسين هيكلاً لنموذج عرق البحر المتوسط في مقبرة قديمة، تبعد عشرين ميلاً عن القدس.(8)

ويلمس المؤرخ في تاريخ فلسطين، منذ العصر الحجري الحديث، بعض الظواهر الحضارية الخاصة، التي تؤكد توافد سلالات بشرية من الصحراء إلى هذه المنطقة، لا شك في أنها سامية (بمفهوم لغوي).

في هذا الصدد، يقول البروفيسور توماس تومسون، إن هذا التغير في سوريا - فلسطين، أواخر العصر الحجري الحديث، وأوائل العصر النحاسي يجب ألا يعتبر غزواً كثيفاً، أو اقتلاعاً للسكان المحليين. إبان العصر الحجري الحديث كان الخليط الإثني في فلسطين قد أصبح معقداً، ولا معلومات لدينا عن أية تطورات مهمة، خلال فترة الانتقال إلى العصر النحاسي. وأكثر من ذلك، إن وجود مستويات ثقافية ومادية لدى السكان المحليين، ووجود قرى ومدن ذات حجم كبير، ونظام اجتماعي تفوق أي شيء يمكن توقعه، يجعل من الصعب أن نتصور سوريا - فلسطين عرضة لغزو قام به عدد، لا بد أن يكون صغيراً، من الفلاحين والرعاة الساميين، والأحرى أنّ السكان المحليين استمروا، وأن التغير كان لغوياً وتدريجياً(9).

وقول سموتريتش «إنه لا يوجد شيء اسمه الفلسطينيون - لأنه لا يوجد شيء اسمه شعب فلسطيني»، يجب إنكاره، ولسنا هنا في مجال الحديث عن أصول اسم «فلسطين»، ونحيل القارئ إلى كتاب «فلسطين أربعة آلاف عام في التاريخ»، للمؤرخ والأكاديمي الفلسطيني نور مصالحة، الذي يؤكد، استنادًا إلى أدلة أثرية؛ «أن الفلسطينيين هم أهل البلاد، وجذروهم ضاربة في أعماق ترابها، وهويتهم الأصلية وإرثهم التاريخي سبق ولادة الحركة الوطنية الفلسطينية الناشئة في العهد العثماني المتأخر، وظهور الحركة الاستعمارية الاستيطانية قبل الحرب العالمية الأولى"(10).

يؤكد البحاثة الأثري الفرنسي هيلير دو بارانتون (Hilaire de Baranton)  في كتابه "الايتروسكيون في غربنا وفي أصولنا الفرنسية" (Les Etrusques en Notre Occident et nos Origines Francaises ) ، قائلاً: إنَّ «الإيتروسكيين» هم فرع من الفينيقيين السوريين، وإن «الفلسطينيين» هو أحد أسمائهم، وأن معنى «الإيتروسك» في اللغة المصرية القديمة هو «بحارة النيل»، وأن معنى «الفلسطينيين» هو الجنود المحاربون. وزاد الباحث على ذلك فقال عن هؤلاء الفينيقيين السوريين إنهم يحملون أسماء كثيرة مختلفة، وذلك تبعاً لمهنهم أو لعقائدهم، ثم أخذ يعدد هذه الأسماء ومنها «الفلسطينيون» عملاً بمهنتهم الحربية (11). 

وفي عام 1980، كتب باحث آخر هو الأستاذ مايكل غرانت (M. Grant)  كتاباً عن الإيتروسكيين وكانوا عنده، في خلاصة القول، ينحدرون من أصل كنعاني [فينيقي].(12)

لكن دعونا نعود بذاكرتنا إلى ذلك المؤرخ الإغريقي الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد ويُعرف باسم: أبو التاريخ، وألَّف كتاب «التاريخ» حوالي سنة 440 ق.م.(13)

المؤرخ هيرودوت وفلسطين

ما يهمنا من مؤلَّفه هو ما كتبه عن «فلسطين»، فقد ذكر هيرودوت أنّ السكيثيين اجتاحوا آسيا، «ولما تم لهم هذا زحفوا إلى مصر للاستيلاء عليها، فلما بلغوا فلسطين وجدوا أمامهم ملك مصر بسميتاك ومعه الهدايا وهو يلهج بالدعاء لهم، راجياً التوقف عن زحفهم. فعادوا أدراجهم حتى توقفوا في عسقلان، من دون أنْ يلحقوا ضرراً بالبلاد في أثناء مسيرتهم، لولا أنّ قلّة منهم تأخرت عن الركب، وأخذت تعمل نهباً في معبد أفروديت. وقد تقصيتُ الأمر وتبيّن لي أنه أقدم المعابد الخاصة بهذه الآلهة، وما المعبد المكرّس لها في قبرص -كما يُسلّم أهلها بذلك- إلاّ تقليد لهذا المعبد في عسقلان، والمعبد الذي في شتيرا أقامه الفينيقيون، وهم أهل هذه المنطقة من سوريا».

كتب هيرودوت عن هوية سكان «فلسطين» عند حديثه عن عادة الختان ما يلي: «الختان معروف عند المصريين والإثيوبيين منذ أقدم العصور. وهذا أمر يقر به الفينيقيون والسوريون سكان فلسطين فيقولون بأنهم إنما أخذوا هذا التقليد عن المصريين". كما يشير هيرودوت إلى "فلسطين" الإقليم بالقول: "إن النصب التي أقامها سيسوستوريس في البلاد التي قهرها قد زال معظمها، ولكني رأيت بأم العين تلك النصب ما تزال قائمة في ذلك الجزء من سوريا المسمى فلسطين».

وفي مجال إشارة هيرودوت إلى الضرائب التي يدفعها كل إقليم، حسب تقسيم الفرس الإداري، يضع هيرودوت «فلسطين» جزءاً من الإقليم الخامس قائلاً: «ثلاثمئة وخمسون تالنت (وزنة) يدفعها سكان المنطقة الواقعة ما بين مدينة بوسيديوم التي أسسها الأمفيلوكيون والتي تقع على الحدود بين قليقيا وسوريا حتى مصر، باستثناء المنطقة العربية التي لم تكن تدفع أي ضريبة على الإطلاق، وهذا الإقليم كان يضم الأراضي الفينيقية والقسم من سوريا الذي يطلق عليه فلسطين وقبرص».

ويقول أيضاً: «أما اللسان القاري الآخر (الهضبة) فيبدأ في فارس ويشمل بلاد الآشوريين والعرب، وينتهي - كما هو متفق عليه- عند خليج العرب (البحر الأحمر) الذي قام داريوس بوصله بنهر النيل عبر قناة. وما بين فارس وفينيقيا أرض شاسعة واسعة، ويمتد هذا الفرع الذي أقوم بوصفه ههنا بمحاذاة ساحل البحر المتوسط من فلسطين – سوريا حتى مصر، حيث ينتهي ويضم ثلاثة أقوام».

يعود هيرودوت في نصوصه إلى الحديث مرة أخرى عن «فلسطين» الإقليم والسكان بالقول: «ويسكن البلاد الممتدة من أرض الفينيقيين حتى حدود مدينة كاديتس [غزة] السوريون الذين يسمون "الفلسطينيون". ومن هذه المدينة -التي تضارع مدينة سارديس في حجمها- فإن جميع الموانئ حتى جينيسيوس تتبع ملك العرب. والمنطقة التي تمتد من هناك حتى بحيرة سربونيس (سبخة البردويل) والتي بالقرب منها ينحدر جبل كاسيوس ليصل إلى البحر، فإنها تعود لسوريا أيضاً. أما مصر فتبدأ من منطقة بحيرة سربونيس (حيث تذهب الرواية إلى أن تيفون (الإله سيث) يختفي هنا»(14). 

اختراع الشعب اليهودي

قامت عملية اختراع الشعب اليهودي على ركنين أساسيين، وهما فكرة الشتات اليهودي وبأن اليهودية بقيت محصورة في العرق الذي اعتنقه في البداية، الدلالة الرئيسية المتوخاة لهذا الادعاء هي أن الشتات الذي رحل إلى مناطق مختلفة من العالم وكُتب له البقاء يعود من ناحية جذوره العرقية والقومية إلى القبائل اليهودية الأصلية التي كانت في فلسطين وطُردت منها، وأنه لم تدخل اليهودية أجناس وقوميات أخرى أثرت في نقاء العرق اليهودي. وقد قام بتفنيد هذا الإدعاء البروفيسور الإسرائيلي شلومو ساند، في كتابه "اختراع الشعب اليهودي"، من خلال نفي ما يسمى بالشتات اليهودي الذي تقف وراءه فكرة طرد الرومان لليهود سنة 70 للميلاد بعد تدمير الهيكل، بقوله: "فإننا لن نجد في التوثيق الروماني الغني ولو إشارة واحدة إلى حدوث أيه عملية نفي من أرض يهودا"(15).

ويدحض ساند الادعاء بأن الدين اليهودي لم يكن ديناً تبشريياً بل بقي محصوراً في العرق الذي اعتنقه منذ بداياته، بالقول: "يرجع سبب انتشار واتساع رقعة الديانة اليهودية إذن، من وجهة نظره [أوريئيل راببوت]، إلى حركة التهَّوُّد الواسعة. وبطبيعة الحال فإن حركة الالتحاق هذه لم تُقابَل بلا مبالاة يهودية وإنما أُديرت بمساعدة سياسة تهويد ودعاية دينية نشطة أخذت تحرز نجاحات حاسمة مع انهيار العالم الوثني. وبذلك انضم رببورت إلى تقاليد هستوريوغرافية (غير يهودية) متعددة الفروع، ضمت كبار الباحثين في العصر القديم ــ من إرنست رينان وحتى يوليوس فلهاوزن، ومن إدوارد مايير وحتى إميل شايرر ــ والتي أكدت، وفقاً للهجة الحادة التي استخدمتها تيودور مومزن، على أن "اليهودية في العصر القديم لم تكن بتاتاً منغلقة أو منعزلة، على العكس فقد يملؤها الحماس للتهويد بدرجة لا تقل عن المسيحية والإسلام من بعدها"(16).

تصدى جمال حمدان في دراسته القيمة «اليهود أنثربولوجيا»؛ لنظرية «النقاء العرقي»، و«النقاوة الجنسية»، وتوصل إلى أن «اليهود الحاليين ليسوا من بني إسرائيل؛ فيهود اليوم مختلطون في جملتهم اختلاطاً يبعدهم عن أيّ أصول إسرائيلية فلسطينية قديمة، ولا يوجد رابط أنثربولوجي بين الجهتين، والرابط الوحيد هو رابط الدين"(17).

فجّر آرثر كوستلر، في العام 1976؛ قنبلته الأدبية التي حملت العنوان «القبيلة الثالثة عشرة»، والتي ترجمت إلى لغات عديدة وأثارت موجة من ردود الفعل المتباينة. أوضح فيها أثر الخزر في تكوين اليهود المعاصرين، وخلاصة ما ينتهي إليه أن «غالبية اليهود العصريين ليسوا من أصل فلسطيني بل من أصل قوقازي وأن التيار الأساسي للهجرات اليهودية لم يتدفق من البحر المتوسط عبر فرنسا وألمانيا إلى الشرق ثم العودة مرة أخرى، بل اتجه التيار على نحو ثابت  إلى الغرب من القوقاز غبر أوكرانيا إلى بولندا ومن هناك إلى أواسط أوروبا ــ وعندما نشأت في بولندا تلك المستوطنات الجماعية التي لم يسبق لها مثيل، لم يكن هناك في الغرب أعداد من اليهود تكفي لتفسير هذه الظاهرة، على حين كان هناك في الشرق أمة بأسرها تتحرك نحو حدود جديدة. وبطبيعة الحال سوف يكون من الحماقة أن ننكر أن يهوداً من أصل مختلف أيضاً في المجتمع اليهودي الكائن في عالم اليوم، ومن المستحيل أن نحدد النسبة العددية لمساهمة الخزر إلى مساهمات الساميين وغيرهم، ولكن ما تجمع من البراهين يجعل المرء ميالاً إلى الاتفاق مع إجماع المؤرخين البولنديين على أنه (في الأزمنة المبكرة نشأت الكتلة الأساسية من اليهود أصلاً من بلاد الخزر) ومن ثم تكون مساهمة الخزر في التركيب الوراثي لليهود مساهمة جوهرية بل ومهيمنة في كل الاحتمالات"(18).

وباختصار، يمكننا القول إن ما تفوه به سموتريتش، يتراوح ما بين الجهل والجنون، وهو نتيجة حتمية للخطاب التوراتي والصهيوني!

من المناسب أن نختم هذه الدراسة بالدعوة إلى الشروع في الخروج من بوتقة «الكتاب المقدس» باعتباره تاريخاً، فاليوم الذي يتوقف فيه «الكتاب المقدس» عن تغذية تاريخنا الفلسطيني، تعدو فيه كتابتنا للرواية التاريخية الفلسطينية ــ العربية، رواية لها بداية ونهاية؛ أي تمتد من ماضيها القديم إلى حاضرها الحديث، رواية محررة من إمبراطورية الأفكار التوراتية.

 الهوامش

([1]) إيلان بابه، التطهير العرقي، ترجمة: أحمد خليفة، ط1، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2007.

(2) إنزو ترافيرسو، نهاية الحداثة اليهودية: تاريخ انعطاف محافظ، ترجمة: محمد الجرطي، ط1، دار صفحات للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق ـ دبي، 2020، ص 220. 

 (3) تومس طمسن ود. سلمى الخضراء الجيوسي، القدس أورشليم العصور القديمة بين التوراة والتاريخ،
 ترجمة: فراس السواح، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2003. (فراس السواح، أورشليم في عصر مملكة يهوذا، ص (168- 169). 

 (4) تومس طمسن، التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي، ترجمة: صالح على سوادح، بيسان للنشر والتوزيع، بيروت، 1995، ص 277 وما بعدها. 

 (5) كيث وايتلام، تلفيق إسرائيل التوراتية طمس التاريخ الفلسطيني، ترجمة: ممدوح عدوان، ط2، قدمس للنشر والتوزيع، دمشق، 2002، ص 49. 

 (6) زئيف هرتسوغ، التوراة: لا إثباتات على الأرض، جريدة هآرتس، (ــــــ)، 18/11/1999. 

 (7) إسرائيل فنكلشتاين ونيل اشر سيلبرمان، التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها، ترجمة: سعد رستم، الأوائل للنشر والتوزيع، دمشق، 2005. 

 (8) أحمد الدبش، فلسطين من هنا بدأت الحضارة: من العصر الحجري القديم إلى العصر الحجري النحاسي، ط1، دار صفحات للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، 2017. 

 (9) طمسن، التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي، مرجع سبق ذكره، ص 124.

 (10) نور مصالحة، فلسطين: أربعة آلاف عام في التاريخ، ط1، ترجمة: فكتور سحاب، ط1، مركز دراسات 
   الوحدة العربية، بيروت، 2020.

 (11) د. محمد معروف الدواليبي، دراسات تاريخية عن مهد العرب وحضارتهم الإنسانية، ط 2، دار
      الكتاب اللبناني، 1983، ص (129 ـ 130). 

 (12) د. على فهمي خشيم ، آلهة مصر العربية، المجلد الأول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، 
      1998، ص 44.

 (13) هيرودوتس، تاريخ هيرودوتس الشهير، ترجمة عن طبعة لارشي الفرنسي: حبيب أفندي بسترس، 
مجلدين، مطبعة القديس جاورجيوس، بيروت، 1886 ـ 1887. هيرودوت، الكتاب الرابع من تاريخ هيرودوتس (هيرودوت): الكتاب السكيثي والكتاب الليبي، نقله عن الإغريقية: د. محمد المبروك الذويب، دار الكتب الوطنية، بنغازي ــ ليبيا، 2003. هيرودوت، تاريخ هيرودوت، ترجمة: عبد الإله الملاح، المجمع الثقافي، أبو ظبي، 2001.  

(14)المصدر السابق.

 (15) شلومو ساند، اختراع الشعب اليهودي، ترجمة: سعيد عيّاش، ط1، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، 2011، 
     ص 180.

(16) ساند، مرجع سبق ذكره، ص 205. 

(17) د. جمال حمدان، اليهود أنثربولوجيا، دار الهلال، القاهرة، 1996.

(18) آرثر كيستلر، القبيلة الثالثة عشر ويهود اليوم، ترجمة: أحمد نجيب هاشم، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب،1991، ص 177.

*أحمد الديش كاتِب وباحِث فلسطيني.