سيرة ليون تروتسكي (2 - 2)

يقول أوّل وزير سوفياتي للتعليم عام 1917 الفيلسوف أناتولي لوناشارسكي: "تروتسكي يعمل كبطارية متحرّكة، وكلّ من يتعامل معه يشحنه بطاقته".

  •   ليون تروتسكي: حياتي
    ليون تروتسكي: حياتي

يذكر تروتسكي في مقدّمة الكتاب بعض العناوين التي فكّر فيها قبل أن ينتهي إلى العنوان المختار "حياتي"، وكان أحد تلك العناوين: "أن تحيا هو أن تناضل، السيرة الذاتية لثوريّ"، ولعله الأبلغ تعبيراً عن الكتاب حيث سنتابع في هذا القسم سيرة حياة هذا الرجل الذي كان النضال حقاً هو حياته، وهو أيضاً الحياة التي لو قُيّض له أن يعيشها من جديد سيختارها كما هي، وهو الحياة التي سيوصي بها للأجيال القادمة:

كنا قد توقّفنا عند تشكّل الحكومة الانتقالية، ومن ثم فوز البلاشفة في انتخابات سوفيات بتروغراد وتولّي تروتسكي رئاسة المجلس. لم تكن الحكومة الانتقالية المشكّلة بقيادة كرينسكي على قدر التحديات والظروف الملتبسة والدقيقة التي حاصرت روسيا في تلك الفترة، حيث انتشرت الفوضى في البلاد وكانت بتروغراد تحت خطر الهجوم الألماني، تشكّلت تكتلات يسارية معادية للحكومة وبدأ البلاشفة يخطّطون ويحشدون لانتفاضة وبعد الكثير من المد والجزر وكيل الاتهامات وخوض الصراعات، أطاحت اللجنة العسكرية الثورية بقيادة البلاشفة بالحكومة الانتقالية في 25 تشرين الأول/أكتوبر واستلمت زمام السلطة.

عن علاقته بلينين التي تمّ تشويهها عمداً في الحقبة الستالينية، يبيّن تروتسكي أنهما كانا يتوصّلان للاستنتاجات نفسها، ويتشاركان القناعة بفكرة الثورة الدائمة، والضباب الذي اكتنف العلاقة في بعض المراحل لا يلبث أن يتبدّد تحت ثقل الملامح التاريخية والعمق النضالي في شخصية كلّ منهما.

إقرأ ايضاً: سيرة ليون تروتسكي (1 - 2)

يشرح المؤلف كيف تؤثّر النظرية في العملية التاريخية، قد لا يكون هذا التأثير ظاهراً وواعياً في البداية. لكن، "حين تحطّم الجماهير الروتين الاجتماعي، وتقدّم تعبيرها الانتصاري عن الاحتياجات العميقة للتطوّر التاريخي، في مثل هذه اللحظات، يسطع الوعي النظري للعصر بشكل فائق مع الحركة الفورية للجماهير المضطهدة الأبعد ما تكون عن النظرية نفسها. وهذا الاتحاد الخلّاق بين العنصر الواعي وغير الواعي هو ما يطبّق عليه عادةً " الإلهام" وما الثورة إلا نوبة إلهام للتاريخ". 

بعد تشكيل سوفيات مفوّضي الشعب وجد تروتسكي نفسه وجهاً لوجه أمام مسؤوليات السلطة التي لم يفكّر بربط حياته الشخصية بها يوماً، فقد كانت أحلامه حول مستقبله تدور حول أن يصبح كاتباً ثم اتّحدت حياته الشخصية مع الثورة، وكان كما كتب عنه أحد رجالات تلك الأيام الفيلسوف أناتولي لوناشارسكي: "تروتسكي يعمل كبطارية متحرّكة، وكلّ من يتعامل معه يشحنه بطاقته".

اقترح لينين تسميته رئيس سوفيات مفوّضي الشعب لكن تروتسكي رفض، أراد أن يبقى بعيداً عن الحكومة وأن يشرف على عمل الصحافة، ولما كانت المهام الملحة مواجهة الثورة المضادة وتطوير ثورة أكتوبر وتصديرها إلى العالم، فقد تقرّر أن يترّأس مفوضيّة الشؤون الخارجية.

وهكذا كان ...

مفاوضات بريست ليتوفسك: لم تطل مدة ترؤس تروتسكي لمفوضية الشؤون الخارجية، وكانت معظم الأحداث والاتصالات مع دول أوروبا تدور حول وقف الحرب. وختام هذه المرحلة هي مفاوضات بريست ليتوفسك.

يحاول المؤلف في مذكّراته جلاء الموقف من الحرب منذ البداية، يشرح ظروف الاتحاد السوفياتي، الدولة المشكّلة حديثاً عقب روسيا القيصرية، والتي كانت في طور التأسيس حيث بقايا الجيش المفكّك والجوع والفقر ينهب البلاد وحرب بين دول الوفاق ودول المركز يموت فيها الجنود الروس بالمجان....

مثّلت روسيا الجبهة الشرقية في الحرب العالمية الأولى وانسحابها يعني قفل هذه الجبهة بالنسبة لدول الوفاق، أميركا وبريطانيا وفرنسا.

كان السوفيات مع السلام وأقرّوا ذلك بمؤتمر السوفيات للسلام، وكان جوهر صيغة السلام السوفياتية "لا إلحاقات، لا تعويضات، وحقّ الشعوب في تقرير مصيرها". وهكذا عندما أعلنت روسيا نيّتها الانسحاب من النزاع دعت الحلفاء إلى الاشتراك في المفاوضات لكنهم أخذوا يكيدون المؤامرات لحكومة الثورة ويحاولون تأجيج الحرب الأهلية والتدخّل في الشؤون الداخلية، وهنا هدّدت روسيا بعقد صلح منفرد مع ألمانيا.

بدأت المفاوضات في 9 كانون الأول/ديسمبر عام 1917، لكن تروتسكي لم يصل إلا في الـ 27 من الشهر نفسه، وكان هدف الفريق السوفياتي إطالة أمد المفاوضات وكسب الوقت على أمل "نضج الخميرة الثورية عند الطبقات العاملة الأوروبية". بحيث يتبيّن العمال الأوروبيون حقيقة الثورة السوفياتية وسياساتها في السلام، ولكن كما يقول المؤلف لاحقاً في مكان آخر:

"الحسابات حول حركة الجماهير والبروليتاريا الثورية التي قد تأخذ شهوراً وسنوات تختلف عن حسابات الحروب التي تحسب بالأيام والأسابيع". 

وحيث أن الحسابات حول البروليتاريا الثورية لم تكن في صالح السوفيات، أصبح الهاجس الأكبر هو إتاحة الوقت للدولة السوفياتية حديثة الولادة، والإثبات للبروليتاريا الألمانية والأوروبية عدم وجود أي صلات بل عداوة مؤكدة مع الحكومة القيصرية الألمانية. وحينذاك وعندما هجم الجيش الألماني وتقدّم في الأراضي الروسية اضطر السوفيات لتوقيع معاهدة بريست ليتوفسك للسلام بشروطها المجحفة بحقهم في 3 آذار/مارس عام 2018.

وإذ لم يسعنا التوسّع أكثر في ملابسات تلك المفاوضات التي يذكرها المؤلف في كتابه بشيء من التفصيل، في محاولة لإثبات أن اختلاف الرأي مع لينين لم يكن قطعياً أو مستمراً كما حاول الستالينينون تصويره لاحقاً، بل كانت آراؤهما تعود للتلاقي مع تطوّر الأحداث. إلا أنه من الإنصاف القول إن تروتسكي قدّم مدرسة في التفاوض وحماية الإرث الثوري بما جبلت شخصيته عليه من الحذق والقوة والنباهة السياسية والحميّة الثورية، واستطاع النيل من خصومه نفسياً وجعلهم موضع سخرية وضحكات مكتومة في أكثر من محطة في مسار المفاوضات[1].

الحرب الأهلية وقطار الثورة:

بعد مفوضيّة الشؤون الخارجية ترّأس تروتسكي مفوضية الشؤون الحربية ومنصب القائد الأعلى للمجلس العسكري الثوري، وكان ذلك إبان تصاعد الحرب الأهلية واشتداد التدخّل الخارجي وتدبير المؤامرات ضد الدولة السوفياتية. حينها سافر على متن قطار عسكري (والذي سيكون مسكنه لعامين من الحرب الأهلية)، إلى قازان ووقف على واقع الحال والجنود على جبهات القتال، حيث جيوش الدول الأوروبية تحاصر روسيا من الشرق والغرب، كما وجد وحدات الجيش ومفارزه مفكّكة "العامل المشترك بينهم هو الاستعداد للتراجع والانسحاب"، وظهرت أكثر من حركة عصيان على عدة جبهات، وبدأت الحرب الأهلية "كالخناق الذي يحيط برقبة موسكو"، كما انتشرت الشائعات بهزيمة السوفيات بين الفلاحين.

أدرك تروتسكي التفاوت في التنظيم والخبرة العسكرية بين الجيش الأحمر والجيوش البيضاء، لكنه أدرك أيضاً انطلاقاً من رؤية فلسفية تاريخية أن أهم عامل في العوامل المؤثرة في التاريخ البشري هو " الإنسان الفاعل النشط".

وفي حين بدا أن مصير الثورة كان يتعلّق بخيط رفيع... نجت الثورة فكيف ذلك؟ يفسّر لنا المؤلف ذلك بأمور بسيطة لكنها لا شك تتحوّل إلى عوامل محفّزة وحاسمة في المواقف العسكرية المفصلية.

"كان على صفوف الجماهير على الجبهة أن تدرك الخطر القاتل الكامن في هذا الوضع، كان الشرط الضروري الأول للانتصار هو ألا يخفى أي شيء، وبالأخص نقاط ضعفنا، ألا نعبث مع الجماهير أو نكذب عليها، بل أن نسمّي الأشياء بمسمّياتها الصحيحة".

كما أدرك في الوقت ذاته أن الخطب الحماسية على أهميتها غير كافية لإنقاذ الموقف على جبهات القتال ولا بدّ من الحزم والقوة. فأصدر البيانات والتحذيرات وقدّم الخونة إلى محاكم الثورة الميدانية وأدرك ببصيرة القائد أنّ "الجرح المتقيّح يداويه الحديد الساخن".

ما لبثت الدعاية وحسن التنظيم والصرامة والقدوة الثورية، أن فعلت فعلها في وحدات الجيش الذي بدأ شيئاً فشيئاً يستردّ السيطرة على الأراضي التابعة للدولة السوفياتية. 

يتعمّد تروتسكي أن يقدّم وصفاً لرجالات الثورة والتاريخ النضالي فهم مقدامون، صارمون بغير قسوة، مبتهجون من غير أثر للتحذلق في شخصياتهم، وأهم ما يميّزهم الضمير الحي والسلطة الشخصية البعيدة عن أسلوب الأمر والفرض، لكنها أيضاً "ناصعة ولا تقبل الجدل".

بقي رئيس المجلس العسكري الثوري عامين على متن قطاره العسكري حيث كان يتوجّه إلى الأماكن الأكثر خطراً ويتابع الأوضاع ويتلقّى المعلومات من جميع الجبهات، حتى ارتبطت حياته في فترة الحرب الأهلية بالقطار، فكان يكتب ويتابع الصحف الروسية والعالمية ويراقب التحوّلات السياسية، كما اشتمل القطار على موظفي سكرتارية ومكتبة ومطبعة وجهاز تلغراف ومحطة راديو.... وعلى الصعيد العسكري يقدّم تروتسكي في مذكّراته منهاجاً مبسّطاً حول استراتيجيات وأدوات الحرب. فلسفته في العقاب أو بناء الجيش وقيادة الحشود بعيداً عن أساليب التخويف والقسر.

في معرض حديثه عن هذا الفصل من حياته، يعدّد المؤلف بعض الأسماء من رجالات النضال والكفاح المسلّح والذين انتهوا إلى السجون والمنافي الستالينية ويختم بهذه الرسالة:

"من هذه الصفحات أرسل تحياتي الأخوية لكلّ رفاقي في السلاح".

يروي للقرّاء فيما بعد نقاط الخلافات القليلة الأخرى مع لينين والتي استغلّت بشدة وبتحريف ومبالغات لاحقاً من قبل "رجال الصف الثاني" بعد وفاة لينين مثل السياسة الاقتصادية الجديدة مجتزئين اللحظات والمواقف ومختلقين الأكاذيب، لكنه يوضح أن كلاً منهما أي لينين وتروتسكي كان ثورياً وسياسياً بما فيه الكفاية ليفصل ما هو شخصيّ عمّا هو سياسيّ.

يتحدّث تروتسكي أن لينين بعد أن اشتدّ عليه المرض كان قلقاً بشأن من يتولّى خلافته في حماية وصيانة الثورة من بعده، ولذا ناقشه في مسألة تعيينه نائباً له، لكن القدر كان السبّاق وتوفي لينين عن 54 عاماً.

في الفصول الأخيرة يشرح المؤلف تصاعد الخلاف مع ستالين ورفاقه الذين أطلق عليهم "رجال الصف الثاني"، ومن ثم الاتهامات والمحاكمات وردوده السريعة والفاضحة للنفاق والتلفيق، وبعد ذلك نفيه إلى جزيرة معزولة في تركيا، وتجريده من عضوية الحزب، ومحاولاته الحصول على تأشيرات لجوء سياسي إلى بلدان أوروبية عديدة من "بلدان الديمقراطية والحرية" والتي قوبلت جميعها بالرفض، وقد عبّر عن ذلك بقوله "كوكب بلا تأشيرة".

حصل على لجوء مؤقت في كل من فرنسا والنرويج تباعاً، لكن ستالين الذي بقي قلقاً حدّ الرعب من خصمه المحنّك تروتسكي، أخذ يضغط على تلك الحكومات بقطع العلاقات الاقتصادية، إضافةً إلى اعتبارات تتعلّق بنشاط المؤلف السياسي من قبل فرنسا.

أخيراً قبلت المكسيك منحه تأشيرة كلاجئ سياسي بوساطة بعض أصدقائه، لكن ليون تروتسكي يبقى الثوري الذي ارتبطت حياته بالثورة، يستمرّ في نضاله بالكتابة، يفضح الانحطاط البيروقراطي للدولة العمالية ويحارب الحزب وحيد الاتجاه، والقيادة المعصومة عن الخطأ، ويؤسس منظمة عالمية باسم الأممية الرابعة التي استمرت زمناً طويلاً بعد اغتياله عام 1940 على يد قاتل مأجور من عملاء ستالين بعد عدة محاولات اغتيال سابقة.

كان آخر ما نطق به تروتسكي وهو على فراش الموت[2]: "الحياة جميلة، فلتنظّفها الأجيال القادمة من كل شرّ، ومن كل اضطهاد، ومن كل عنف، وتستمتع بها كلياً".

في النهاية، وبالإحالة إلى المقدمة التي أوردناها في القسم الأول من هذه القراءة، يمكن القول إن قراءة تاريخ تلك المرحلة وأدبياتها، يطرح علينا سؤالاً حول أي نوع من الأنظمة "الاشتراكية" اتّبعته بعض دول العالم الثالث؟

ويبدو أن الإجابة لا تحتاج الكثير من الجهد، فنتائج سياسات "رجال الصف الثاني"، صفراء المعالم، تبدو واضحة، كما تعلو شاهقةً أفعال القادة في التاريخ مهما كاد لها الكائدون. 

[1] بالعودة إلى ثلاثية اسحق دويتشر عن تروتسكي ج1: (النبي المسلح)، بتصرف.
[2] كتاب "النبي المسلح" اسحق دويتشر.