عبر السينما اللبنانية.. هادي زكاك يوثّق بيروت خلال القرن الماضي

المخرج اللبناني هادي زكّاك يعيد اكتشاف مدينة بيروت في القرن الماضي من خلال معرض فني سينمائي.

  • ملصقات أفلام على المدخل الخارجي
    ملصقات أفلام على المدخل الخارجي

"في هذا المكان: شرائط لوسط بيروت" معرض فني سينمائي للمخرج هادي زكّاك مع صور قديمة للمدينة وملصقات أفلام، وذلك في "مركز مينا للصورة" (نظمه "بيروت دي سي"). 

يرتكز المعرض (11 حزيران/يونيو - 22 تموز/يوليو الجاري) على تقديم صورة توثيقية عن بيروت استناداً إلى 5 أفلام توليفيّة مُستَخْرجة من 50 فيلماً روائيّاً طويلاً لبنانياً وعربياً وأجنبياً أُنتِج بين أعوام 1935 و1975.

غاص زكّاك في الأفلام مستعيداً الحياة اللبنانية في حقبة يمكن توصيفها بالازدهار النسبي، من ضمنها الحقبة التي نشأ فيها الكيان اللبناني سنة 1943، وصولاً إلى بداية الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975.

ما قام به زكّاك هو توضيح الخطوط العريضة للكيان اللبناني وبنيته، والدور الذي قامت على أساسه هذه البنية، والثقافة العامة التي رافقت نشوء الكيان. 

حوّلت الأفلام الخمسة المركز إلى موسوعة تأريخية لأسس لبنان والقِيَم المركزية التي قام عليها. وقد وزّع زكّاك الأفلام، وفق رؤاه، إلى 5 محطات، أولها فيلم "أهلاً بكم في بيروت" الذي يعرض في فسحة مدخل الموقع، وكأنه يستقبل الزوّار ليضعهم في الصورة العامة عمّا سيشاهدونه في المحطات التالية. يصف زكاك هذه المحطة برحلة في الزمان والمكان، بشريط من 7 دقائق ونصف دقيقة مبنيّة على 19 فيلماً روائياً طويلاً.  

  • عرض فيلم
    عرض فيلم "أهلاً بكم في بيروت" والبانو التعريفي الأسود

يرتفع في الفسحة "بانو" ضخم أسود بحروف بيضاء يشرح الأسباب التي دفعت زكّاك إلى هذا العمل، وإلى تلمّس اختفاء الأماكن مع ناسها وذكرياتها، و"كيف تتحوّل صورنا بسرعة إلى أرشيف"، بحسب قوله، ذاكراً أنّه "تعامل مع الأفلام الروائية الطويلة كأنّها مادة أرشيفية تساعده على استعادة المكان والجوّ العام".

يقول زكّاك لـــ"الميادين الثقافية" إن العمل "يظهر حاجة الناس إلى الحوار مع صورتهم ومع الماضي؛ ففي هذا الماضي، هناك كل العناصر التي تؤدي إلى الحاضر القريب والبعيد".

بعدها، يدعو "البانو" الزوار إلى عبور المحطات التالية: المرفأ، البلد، الفندق (أوتيل بيروت)، الكباريه.

درجات قليلة في الجهة اليسرى من المدخل تُفضي إلى صالة تبدأ بإعلان عن فيلم "المرفأ" مع بعض اللقطات. وقبالة الإعلان، يوجد على الجدار المقابل ملصقان متعلّقان بالمرفأ، الأول لفيلم "بنت الحارس" لفيروز، والآخر لفيلم "إلى أين؟" لجورج نصر، الذي يروي مشكلة الهجرة اللبنانية.  

وفي شاشة في واجهة الصالة، يُعرَض وثائقي من 15 دقيقة، مبنيّ على 16 فيلماً روائياً طويلاً. يظهر الفيلم أن المرفأ شكّل منصة للعمل أو الهجرة في الأفلام اللبنانية، واستقبل السياح في عدد من الأفلام، لكنه كان أيضاً مسرحاً للعمليات المشبوهة المتمثلة بالتهريب، وخصوصاً في أفلام الجريمة والتجسّس الأوروبيّة. 

ويبرز في الفيلم دور الأجهزة الأمنية اللبنانية وتعاونها مع الأنتربول لضبط عمليات التهريب، وتمرّ فيه مشاهد لحالات السفر والوداع والتعب خلال العمل في مرفأ بيروت مع صوت فيروز...

المحطّات الثلاث الباقية موزّعة في الصالة الأخرى المرتفعة والواسعة التي قُسِّمت إلى أجزاء بعوازل خشبية، رُكِّز في وسطها تجهيز سُداسيّ مبتكر، مستلهم من فكرة "صندوق الفرجة" مع شاشة على كل جانب تُعرض فيها المحطة الثالثة: فيلم "البلد". ويستطيع أشخاص عدة مشاهدة الفيلم في آن من الزوايا المختلفة المحيطة بالتجهيز.

أما "البلد"، فمدته 25 دقيقة، وهو يرتكز على 25 فيلماً روائياً طويلاً. يفيد زكّاك بأن "السينما عامة لم تُركِّز  على الأسواق، وخصوصاً الشعبية، لأنها ترتكز على تقديم أفلام استعراضيّة فيها الكثير من الغناء والرقص، وتبتعد عن الأبعاد الاجتماعيّة والنقديّة والسياسيّة، وعن المواضيع التي تظهر أنَّ هناك مشاكل في هذا البلد. معظم الأفلام دخلت بأجندة سياحيّة. من هنا كان التركيز على الكورنيش وخط الفنادق"، كما قال.  

يظلّ "البلد" بقعة جغرافيّة مُصَغّرة عن كلّ بيروت، حيث يتمّ التواصل مع الخارج، وفيه ظاهرة الساحات المكتظّة، وحركة المرور الصعبة، ومراكز التواصل مع الخارج، ومراكز الانتقال إلى المناطق كافة؛ فهنا المصرف ومركز الشرطة وظاهرة المباني الضخمة الحديثة. 

  •  المتشرد شوشو أسفل نصب الشهداء من فيلم
    المتشرد شوشو أسفل نصب الشهداء من فيلم "البلد"

ولا تغيب الشذرات الاجتماعية التي نلقاها في متشرد (شوشو) يقف تحت نصب الشهداء. يخلع حذاءه ويجعله مخدة يتّكئ عليها لينام في العراء، وعيناه شاخصتان نحو الشهداء. وفي فيلم "غارو" لغاري غارابتيان، تبرز ضواحٍ شرق بيروتيّة شعبيّة فقيرة. 

أما المحطة الرابعة، فـهي "أوتيل بيروت"، وهي شريط من 23 دقيقة، مبنيّ على 24 فيلماً روائياً طويلاً، يحكي قصة جانب من الدور الذي رسم للكيان اللبناني. وقد تجلّى ذلك في مراحل مختلفة من تاريخه الحديث، إذ أظهرت السينما أن الفنادق كانت مادة للأفلام التي أظهرتها بؤرَ تجسّس، فعرف فندق السان جورج بـــ"عشّ الجاسوسية"، وكان فينيسيا وجهة أساسيّة للعملاء السريين. وهناك غيرهما من الفنادق، مثل البالم بيتش والألكزار وسواهما. التنصت شبه حتميّ فيها، وخطر الموت قائم في كل لحظة. هناك، تحاك العمليات والمؤامرات المختلفة.

المحطة الخامسة والأخيرة هي "كباريه بيروت". الفيلم شريط من 19 دقيقة، مبنيّ على 15 فيلماً روائياً طويلاً. يُظهر الفيلم جانباً آخر من دور لبنان، ويختزل الشعارات التي أرساها قادة تأسيسه مع الفرنسيين، وهي أنّ "قوة لبنان في ضعفه"، فاستخدمت العناصر الضعيفة - نساء الكباريهات والدبلوماسيّة والسياحة - لجذب الرساميل العربية والأجنبية، لكن تلك القوّة لم تمنع الإغارة الإسرائيلية على المطار عام 1968 من دون ردّ، ولا اجتياح عام 1982 ووصول الإسرائيلي إلى بيروت. 

  •  جاسوس في فيلم
    جاسوس في فيلم "أوتيل بيروت"

وثمة تكامل بين دور الفنادق والكباريهات التي نشأت حولها، مثل "لو كافيه دو روا" وملهى "إبي كلوب"، حيث صُوّرت أفلام عدّة.

يتحدث زكّاك عن "هذه الأفلام التي لم تكن تحمل أهمية فنيّة سينمائيّة، لكنها تحولت إلى وثيقة عن المدينة والمجتمع بأشكال مختلفة، وخصوصاً الأمكنة التي اختفى كثير منها، كما اختفى بعض العادات الرائجة في حينه".

ويقول: "من هذا البعد، يصبح الإنسان كأنه يشتغل من خلال الأفلام على أنثروبولوجيا المدينة بحدّ ذاتها، وتصبح الأفلام الروائية وثيقة محتملة، رغم أن هدفها لم يكن توثيقياً. ومن هذه الزاوية، تبرز أهميتها الكبرى كقيمة فنيّة سينمائيّة".