عن الحرب الأميركية من أجل "الشرق الأوسط الكبير"

إن إدامة الحرب في الشرق الأوسط الكبير لا يُحسّن الحرية الأميركية والوفرة والأمن، ولكن سيكون لذلك أثر سلبي. في يوم ما سيستيقظ الأميركيون ويدركون هذه الحقيقة. عندها وعندها فقط تنتهي الحرب.

  • بيان القوات الأميركية: الغارات كانت ضرورية للدفاع وحماية الأفراد الأميركيين
    الأميركيون احتلوا أفغانستان والعراق وتورطوا في مستنقعهما.

الكتاب: "الحرب الأميركية من أجل الشرق الأوسط الكبير"

الكاتب: أندرو باسيفيتش 

الناشر: مؤسسة راندوم هاوس - 2016.

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى عام 1980، لم يُقتل أي جنود أميركيين تقريبًا أثناء تواجدهم في الشرق الأوسط الكبير. ومنذ عام 1990 لم يُقتل أي جنود أميركيين تقريبًا إلا هناك. ما سبب هذا التحول؟ 

يقدم أندرو ج. باسيفيتش، أحد أهم الخبراء في الشؤون الخارجية، تاريخًا حاسمًا لهذا المشروع العسكري المستمر(الشرق الأوسط الكبير) - الآن وبعد أكثر من ثلاثين عامًا، ولا نهاية له في الأفق.

خلال مسار الحرب الباردة قامت الولايات المتحدة بأخطاء فظيعة، مثل المغامرة غير المحسوبة في فيتنام، والأعمال البدائية للإدارات الرئاسية المتعاقبة التي منيت بهزائم مذلة، مثل محاولات القيام بانقلابات، وخدع قذرة، وزواج المصلحة التافهة. كل ذلك جعل ادعاء واشنطن بالوقوف على أرضية المثاليات أمر يثير السخرية. كما أن سباق التسلح النووي من جانب الولايات المتحدة  قد وصل إلى مرحلة تحمل مخاطر وقوع كارثة لا توصف.

خلال الثمانينات من القرن الماضي، حدث تحوّل كبير بعد انتهاء الحرب الباردة، حيث بدأت الولايات المتحدة في صراع جديد - حرب من أجل الشرق الأوسط الكبير.
يربط باسيفيتش بين النقاط بطريقة لم يقم بها أي مؤرخ آخر من قبل، وهو ينسج رواية مقنعة من حلقات متنوعة مثل قصف  بيروت عام 1983، والحرب في مقديشو عام 1993، وغزو العراق عام 2003، وصعود تنظيم داعش في العقد الحالي. كل ذلك كان يتطلب فهم ما بذلته الولايات المتحدة من مجهود عسكري باهظ الثمن، من خلال رؤية هذه الأحداث المتقطعة التي تبدو وكأنها أجزاء من حرب واحدة، حيث كانت الأخطاء التي ارتكبها القادة السياسيون في كلا الحزبين في واشنطن "مسيرة هائلة إلى الحماقة". 

يرى الكاتب أن الحرب من أجل الشرق الأوسط الكبير قد بدأت بالفشل في الصحراء، ولكن لا يمكن مقارنة هذا الفشل بالكارثة التي حَلَّت بالقوات الأميركية في ممر القصرين خلال الحرب العالمية الثانية أو بمعركة خزان تشوسين في كوريا، حيث خسر مئات عدة من الأميركيين حياتهم على ساحات القتال تلك.

خلال عملية "مخلب النسر" التي بدأت وانتهت في ليلة 24 - 25 نيسان / أبريل 1980، كان عدد القتلى الأميركيين مرقمين بما لا يتجاوز خانة واحدة، كل ذلك قبل أن تقترب القوات الأميركية لتشتبك مع العدو. وكان ذلك يعني أن عملية "مخلب النسر" تعادل هزيمة فريق كرة القدم حتى قبل النزول إلى الملعب .

كان الْإِذْلَاَل الناتج الذي أصاب من كل اِبْتَكَر وأصدر الأوامر ونفذ هذه العملية غير قابل للتحمل، وهكذا فالْإِذْلَاَل يُصنع للمعلمِ البائس، ومع ذلك فقد تحوّلت الدروس التي سنتعلّمها من هذا الفشل إلى خطيئة، بينما كانت الفرضية الأساسية تقول "إن المشاكل التي تواجه الولايات المتحدة في الشرق الأوسط الكبير ستواجه بالحل العسكري، ولكن لم تكن هذه الفرضية مجرد إِشْعَار مهجور فقط، وإنما أصبحت أكثر عمقًا".

في فصل اِخْتِيَار الحرب يناقض الكاتب المقدمات والأسباب والمبررات التي دفعت الإدارة الأميركية لتبني هذا المشروع. من الخارج، تبدو الحرب الأميركية لأجل الشرق الأوسط الكبير، وكأنها حرب من أجل الحفاظ على طريقة حياة الأميركيين الراسخة في الفهم الخاص للحرية وفي الوعي الجمعي. فالمطلوب هو توفّر الطاقة الرخيصة، بمعنى أخر، وكما كانت الثورة الأميركية من أجل الاستقلال، والحرب الأهلية تمحورت حول العبودية، كان النفط يعتبر دائمًا سبباً للحرب لأجل الشرق الأوسط الكبير. ومع الوقت، عَقَّدْت الْاِعْتِبَارَات المستمرة سلوك الحرب، إلا أن النفط كان من اليوم الأول من الْاِعْتِبَارَات المستمرة.

هناك شيئان يُمَيِّزَانّ هذا الخليط الغريب المترافق – في الأول، لا أحد من المشاركين يحمل أي ذرة اهتمام بالشعب الأفغاني. والثاني، أنهم، ما عدا باكستان، لم يقدموا أي شيء ذي فائدة لأفغانستان. في كل الأحوال، فقد اكتسب ذلك البلد الفقير غير الساحلي أهميته السياسية بسبب وجود السوفيات فيه، ومع نهاية هذا الوجود ستجلب أفغانستان الْاِنْتِبَاه العالمي كما كان الأمر في "فيجي"، حيث كان صنّاع القرار يَنْوُون جعل أفغانستان مسرح صراع مثل "حرب العصابات الفيتنامية، من دون الاهتمام فيما إذا غادر عملاء الفوضى المشهد أو لا". حيث صرّح الموظف في وكالة الاستخبارات الأميركية روبرت غاتس أن "مستقبل أفغانستان بعد السوفيات سيكون قبيحًا" واعترف لاحقًا "لكن لم نكن نأخذ بعين الْاِعْتِبَار أنه سيكون ملاذاً لِلْإِرْهَابِيِّين ".

كان الاعتبار الأهم للولايات المتحدة هو عدم الصدام المباشر مع الروس، فالتحريض الواسع على حرب واسعة النطاق في أفغانستان كان سيؤدي إلى مخاطر كبيرة للولايات المتحدة، بحيث لا يمكن لصنّاع القرار تصوّرها، لذلك كانت الحرب عن طريق وكلاء، حيث تهريب الأسلحة والذخائر والأموال من باكستان. وهكذا فإن المقاومة الأفغانية هي من كانت تحارب وتموت، مما حوّل أفغانستان إلى فيتنام جديدة، إلا أن الولايات المتحدة لم تكن تنوي التورط المباشر.

استخدم السوفيات القوة الغاشمة لقمع التمرد، إلا أن المحاربين "المجاهدين" اعتمدوا على قوة التحمّل والإصرار، من جهته قدّم التحالف الذي تقوده واشنطن أسلحه قديمة للمجاهدين مما سمح لهم باستخدام قوة نيران إضافية.

  • كتاب
    كتاب "الحرب الأميركية من أجل الشرق الأوسط الكبير" للكاتب أندرو باسيفيتش.

هل خلق الأميركيون الوحش؟

هل خلق الأميركيون الوحش؟ قبل أن يَسمع الأميركيون عن تنظيم القاعدة أو عن أسامة ابن لادن، كان ذلك الاحتمال يعرض نفسه.

وهكذا فإن التعاون القوي على أرض الواقع بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة قد حوّل أفغانستان من دولة على وشك السقوط إلى دولة منهارة، وخلال تسع سنوات حاول الأميركيون منع السوفيات من إصلاح أفغانستان ونجحوا في ذلك من دون خسارة أي جندي أميركي. وأخذ الأميركيون من التجربة دَرْسَيْن مُعَدَّيْن لِإِعْدَاد الرد لأزمات أخرى في الشرق الأوسط. كان الدرس الأول ضعيف الثقة مع  عملية "عاصفة الصحراء" التي اعتُبرت ثروة مفضّلة وجريئة، وبعد كل ذلك كانت النتائج التي تبرّر الخطوات المحفوفة بالمخاطر مثل إعطاء المجاهدين أسلحة تتبع للولايات المتحدة. الدرس الثاني يقترح أن هذه الأسلحة المعقدة قد غيرت اللعبة، وبالأخص صواريخ "ستنيغر" حيث أن ذلك إِثْبَات لا يمكن دحضه، ولكن مع مزيد من الْاِختبَار سيثبت أن هذه الدروس كانت مُضَلَّلَة.

بعد أن بدت الأحداث تتكشف في أفغانستان، أمر الرئيس الأميركي السابق رولاند ريغان بإرسال فرقة من قوات الماريز إلى بيروت، لكنها عانت هنالك من خسائر مؤلمة، وخرجت بعد ذلك من المبنى بعد أن انتهت مهمتها بفشل كبير، وكأنها شرطة غبية مسلّحة بهراوات، وجدت الولايات المتحدة نفسها تتجول في وسط حرب العصابات. وفي الوقت التي اِنْتَهَت فيه من التجوال كان المقاومون "الإسلاميون قد الحقوا بالقوات الأميركية العسكرية أكبر هزيمة تكتيكية منذ الحرب الكورية".

التدخل الأميركي في لبنان وليبيا 

كان الاختلاف بين التدخّل في أفغانستان ولبنان كبيرًا، لأن الحرب الأفغانية كانت غير معلنة وغير محميّة وبدت للوهلة الأولى أنه يمكن أن تنتهي بنجاح. بالمقارنة، كان التدخّل الأميركي في لبنان معلنًا ومختصرًا نسبيًا لكنه أدى إلى نتائج كارثية. في أفغانستان عملت الولايات المتحدة عبر وسطاء، بينما كانت وكالة الاستخبارات الأميركية تروّج للعنف بشكل فعال في لبنان في ظل وجود حَمَلة النجوم المعروضة بشكل بارز.

في عام 1979 جعلت هذه الأحداث ليبيا تتصدر قائمة وزارة الخارجية الأميركية للدول الراعية للإرهاب، وبعد أن أصبح ريغان رئيساً، رأى أنه لا بد للقذافي من أن يتعلم درسًا قاسيًا، وكان ذلك تهديدًا صاخبًا للزعيم الليبي.

أَمَنّ الخلاف القائم على "خليج السدرة" الفرصة لواشنطن للقيام بذلك، ففي عام 1979 أدّعى القذافي ملكية الخليج وقام بوضع إِجْرَاءَات حماية على الساحل الممتد من مصراتا إلى بنغازي، وأكّد على أن اختراق الخليج يعني عبور ما سماه "خط الموت"، أي خرق للمياه والأجواء الليبية والتورّط بالمشاكل.

رفضت الولايات المتحدة اِدِّعَاء القذافي دون الضغط على القضية، ولكن الأمر تغيّر مع رولاند ريغان، ففي آب / أغسطس عام 1981 أثار ما أسماه "حرية الملاحة" وقام الأسطول السادس الأميركي بخطوة متدرّجة ولكن حازمة لتحدّي القذافي، تجلّت في إرسال حاملة  الطائرات فورستال ونيميتز عبر ما يسمى "خط الموت" من أجل الاستفزاز واستدعاء الرد. وهكذا "وقع القذافي في الفخ" وأرسل طائرات مقاتلة للتصدي للدخلاء: وفي 19 آب / أغسطس، أسقطت مقاتلتان من طراز "اف 14" الطائرتين الليبيتين من طراز "اس يو-22 أس". وكان ذلك بالنسبة للبيت الأبيض نتيجة ممتازة: لقد ربحنا، وهم خسروا. 

العراق بين الاحتواء والتدمير – مساعدة صدام حسين.

إن الانتقال إلى مساعدة صدام - لأجل ِإِنْقَاذه - يشكّل أيضًا جزءًا من الحرب الأميركية من أجل الشرق الأوسط الكبير خلال مراحلها التحضيرية، هنا، وفي أكثر من أي حلقة أخرى من حلقات عهد ريغان، كان الإرباك وعدم الترابط قد أَدّيَا إلى تخلخل سياسة الولايات المتحدة في العالم الإسلامي خلال حقبة ثَّمَانِينَات القرن العشرين يتضح بشكل كبير. في المقابل كان المعجبون بريغان يَتَذَكَّرُونه كتجسيد للثبات في سبيل تحقيق الأهداف الأخلاقية، وعندما يتعلّق الأمر بالعراق لم يكن هناك إلا قليل من الوضوح، أو لنقل بأن الانتهازيّة قصيرة النظر قد سادت .

نادرًا ما يُوَلِّي الأميركيون أي اهتمام بالصراعات العسكرية التي لم يتورّطوا بها، لكن هناك اِسْتِثْنَاءَات، بالطبع حرب الأيام  الستة في عام 1967 وحرب تشرين الأول / أكتوبر عام 1973، إلا أن الحرب العراقية الإيرانية الأكبر، والأكثر تدميرًا من كل الحروب العربية –الإسرائيلية لم تكن ضمن قائمة الاستثناءات هذه، حيث لم يكن لها إلا أثر قليل في الوعي الجمعي، وقد اختفى هذا الصراع الإسلامي –الإسلامي من الذاكرة بالنسبة للأميركيين العاديين الذين يحتفظون بالقدر نفسه من التّمرد المشابه لتّمرد الملاكم. كان هذا مؤسفًا لأنه لا يختلف عن أحداث 11 أيلول / سبتمبر، وهكذا فإن هذه الحرب قد دفعت الولايات المتحدة بشكل عميق في حربها من أجل الشرق الأوسط الكبير.

يرى الكاتب أن النصر في الخليج سيكون نتيجة  طبيعة لتحرير الكويت، وذلك سوف يُبشّر بالقرن الأميركي ويؤسس لبداية القطبية الأحادية، حيث تتربع أميركا في مركزها الطبيعي.

مع اكتمال وصول القوات في تشرين الأول / أكتوبر، وفي الوقت الذي لم يظهر فيه صدام أي نيّة للانسحاب من الكويت، كان على الرئيس الأميركي جورج بوش الأب أن يقوم بالحركة التالية. وكان لديه خياران: يمكنه أن يأخذ وقته ليرى فيما إذا كانت العقوبات ستقنع صدام حسين بالانسحاب من الكويت، أو إجبار العراق على الانسحاب باستخدام القوة.

حرب "عاصفة الصحراء"

في وقت متأخر من تلك الليلة ظهر بوش على التلفزيون مُعلنًا: أنه تم تحرير الكويت وهزيمة العراق وتم تحقيق أهدافنا والحرب خلفنا. إلا أن هذه التأكيدات الأخيرة لم تأخذ بعين بالاعتبار التَّعْقِيدَات المستقبلية، حيث أن الجزء الجوهري من قوات الحرس الجمهوري العراقي لم تتأذَ، فقد هربت إلى بغداد، وما ضاعف الخطأ أيضًا، هو فشل شوارزكوف في تنفيذ وقف إطلاق النار، فبدل أن يفرض شروطه، اختار أن يتنازل. وكانت لذلك عواقب مؤسفة، وهكذا فقد كان تعليق العملية مُثيرًا للدهشة، ولم يكن أحد في موقع المسؤولية يعطي تفسيرًا لما سيحدث لاحقًا، ولم تزوّد واشنطن السنتكوم بأي تعليمات لإنهاء الأعمال العدائية، إلا أن شوازكوف قد التقى أحد جنرالات صدام الغامضين من أجل بحث وقف إطلاق النار، حيث أكّد الجانب الأميركي أنه "بعد أن امتثال العراق للطلبات الأميركية" فلا نيّة للقوات الأميركية في البقاء بشكل دائم على الحدود العراقية. كما وافق شوازكوف على الطلب العراقي بالسماح له باستخدام  طائرات الهليوكوبتر العراقية.

كانت سردية الحرب في الولايات المتحدة، كما كان الحال في حرب فيتنام تشغل الدراما، وتتحدث عن الإنجازات المدهشة والحاسمة، وتعلن عن نهاية الاكتئاب الناتج عن ما يسمى "متلازمة فيتنام" حيث أن النصر في الخليج يُبشّر بالقرن الأميركي ويؤسس لبداية القطبية الأحادية، حيث تتربع أميركا في مركزها الطبيعي. وبدا ذلك واضحًا مع الاحتفالات والتكريم الذي حظي به قادة "السنتكوم" وبالأخص شوازكوف الذي منحه الرئيس بوش وسام الحرية، وميدالية الكونغرس الذهبية، وميداليات أخرى من المملكة المتحدة. واقترح الكونغرس ترفعيه إلى رتبة الخمس نجوم وتم وضعه مع "كولن باول" على قدر المساواة مع عظماء الحرب العالمية الثانية مثل إيزنهاور ومارشال. كما حصل شوازكوف على عقد بقيمة 5 مليون دولار لكتابة مذكراته، وقد حقق ذلك الكتاب لاحقًا مبيعات هائلة.

بتساءل الكاتب عن جدوى هذه الحرب قائلاً: بكل الأحوال وبالعودة إلى عاصفة الصحراء التي غيّرت الوضع بشكل دراماتيكي، لكن هل خلقت فرصاً للسلام في الشرق الأوسط أكثر من أي وقت مضى؟ 

الجواب لا، قد يرى البعض أنها كانت حرباً "من أجل النفط" ولكن مخرجات حرب "عاصفة الصحراء" كانت مقبولة حيث تم تحرير الكويت، ولم يعد هناك أي احتمال لغزو عراقي للسعودية، وأَزال الأميركيون أي شكوك حول استعدادهم لتأمين الحماية، إلا أن استمرار صدام في السلطة كان يعني عدم الاستقرار الإقليمي.

كانت "عاصفة الصحراء" ناجحة بالمقارنة مع حرب فيتنام، لكنها كانت تقود إلى إشكاليات مستقبلية وبدرجات متفاوتة. فخلال العقود التالية  طوّرت واشنطن سياستها تجاه صدام، فمازال الدكتاتور العراقي المريض الذي كان على الولايات المتحدة أن تكافحه، كما كان للمشكلة طيف متعدد الطبقات: الفراغ الذي تشكّل بعد انهيار الإمبراطورية البريطانية، التخلف الاقتصادي، غياب الشرعية السياسية، الانقسامات والصراعات بين الإسلاميين والقوميين العرب، إنشاء "إسرائيل"، والتهديدات التي فرضتها الثورة الإسلامية في إيران. 

الصومال والحسابات الخاطئة 

استمر التدخّل العسكري الأميركي في الصومال من آب / أغسطس عام 1992 إلى آذار / مارس عام 1994، حيث بدأ مع أفضل النوايا وتوّج بهزيمة دموية وانسحاب، حيث أصبحت الصومال في معركة دائمة، وفي واحدة من أصغر المسارح في الحرب الأميركية من أجل الشرق الأوسط، ولكن ليس للذين كانوا هناك.

والأكثر من ذلك، فقد كشفت حملة الصومال الخلل في تحركات الجيش، لأن هذه التحركات كانت تتم من دون معلومات استخباراتية، ولم تكن تحترم أساسيات تأمين وحماية العمليات، فالقادة الذين يشرعون في الحرب يفعلون ذلك بعدد محدود من الأرصدة؛ المال، الأرواح، الوقت، الدعم على الجبهة الداخلية. أما التحدّي فهو القيام بالعمل دون استنزاف لتلك الْمُحَدِّدَات.  

الاعتقاد الواضح بأن البراعة العسكرية هي من تؤثر بالعدو، والتي إِمَّا تجاهلها القادة العسكريون (حملة الصومال) أو ثبت أنهم غير قادرين على فك شيفرة البعد السياسي للحرب التي كانوا يَخُوضُونهَا. وكما سنرى لاحقًا، كانوا بكل الأحوال آخر ضباط الجيش الكبار الذين يتعرضون لهذا السقوط بالتحديد. وهكذا، وطوال الحرب من أجل الشرق الأوسط الكبير، كان تجاهل تلك الشيفرة يشكّل نقطة ضعف دائمة للبراعة العسكرية الأميركية، ولكن كانت هناك اِسْتِثْنَاءَات أخرى بما يتعلق بِاِحْتِرَام القواعد الواضحة. "كان اسمه ديفيد بترايوس".

أفغانستان، والعراق مجدداً

حدثت أحداث 11/9 عام 2001  في اليوم 234 لرئاسة جورج دبليو بوش، وقبل هذا اليوم البارز لم يحدث الكثير مما يلفت الانتباه، حيث كانت الحرب الأميركية من أجل الشرق الأوسط مستمرة بشكل آلي (وكأنها تُدار كما  يدير الطيار الآلي الطائرة). فقد كانت الطائرات الأميركية التي تفرض حظر طيران في شمال وجنوب العراق تقصف بين الحين والآخر بعض الأهداف، واستمرت سياسية احتواء العراق وإيران كما كانت في عهد إدارة الرئيس بيل كلينتون. وبينما لم يتم تجاهل أسامة بن لادن فقد تحرّك فريق الأمن القومي لإدارة بوش بشكل مُكثّف بتداول التقييمات من أجل التعامل مع تهديده، إلا أن هذه التَّدَاوُلَات لم تكن فعالة، على الرغم من تصنيف "القاعدة" على أنه المشكلة الأساسية ويشكّل قلقًا أكثر من كاسترو في كوبا. فقد كانت تقف وكأنها القضية المأساوية وراء الحاجة الملحّة لتطوير الصواريخ الدفاعية الباليستية، كما الرد على التحدّي الاستراتيجي الذي تفرضه جمهورية الصين الشعبية.

كان الاهتمام بالشرق الأوسط، وبالأخص بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي يمثل إلى حد ما "الفجوة" بين الإدارة السابقة والإدارة الحالية، حيث أن الرئيس بوش قد صرّح بشكل واضح أنه غير مهتم بتكرار حماس سابقه من أجل محاولة حل هذا الخلاف. لأن ترويج السلام في الشرق الأوسط لا يشكل أولوية، بشكل مماثل لم يكن هناك اهتمام كبير بالمشاكل التي نتجت عن تدخّل الولايات المتحدة في العالم الإسلامي. وبالتالي لم يكن للفريق الجديد أي وقت للتفكير بذلك من جديد. لقد أتوا وهم يعرفون كل شيء يحتاجون لمعرفته، لكنهم لم يعرفوا ما يكفي لتجنّب الهجوم المروع على مركز التجاري العالمي وعلى البنتاغون والذي أدى إلى مقتل عدة آلاف من الأبرياء، والى أضرار قُدّرت قيمتها بـ178 مليون دولار، بالإضافة إلى فقدان النشاط الاقتصادي.

في 7 تشرين الأول / أكتوبر، وبعد أقل من شهر من أحداث أيلول / سبتمبر 2001، بدأت الحملة الجوية في منتصف الليل، وذلك ميّز إدارة بوش نفسها عن الإدارات السابقة، وعلى الرغم من أن الحملة لم تختلف عن الحملة السابقة في كوسوفو  قبل سنتين، حيث استخدمت الصواريخ لاستهداف حركة طالبان من البحر والجو، كما تم نقل بعض المساعدات الرمزية من وجبات غذائية ومساعدات طبية إلى مناطق قريبة من مناطق الاستهداف. وكانت شحنات المساعدة تُنقل باستخدام طائرات "س-17" التي تنطلق من قاعدة رامشتاين في ألمانيا، إلا أنه وعلى المدى القصير تم تخفيض عدد الطائرات المقاتلة نظرًا "لغرق واختفاء طالبان"، وهذا ما دفع بوش الذي فقد الصبر إلى القول "أنهم يضربون الرمل".

في الوقت نفسه، كانت وحدات خاصة بقيادة الكولونيل جون مولهولاند متجمعة في أوزبكستان، وكانت تلك القوات تعرف باسم "ك2" حيث جُمعت من أجل تشكيل خنجر في ظهر طالبان، بينما كانت مهمة مولهولاند الشاقة ترتكز على بناء كثافة نيران ضد طالبان في المنطقة الصغيرة التي تسيطر عليها قوات أفغانية صغيرة  مناهضة لطالبان. لكن هذه القوات لم تكن قادرة على انتزاع كابول أو أي مدن أفغانية كبيرة من المدن التي تسيطر عليها طالبان. ومن أجل إكمال هذه المهمة، تم الاتصال بمجموعة صغيرة من المقاومة الأفغانية وبدأ توظيف الأموال والأسلحة وقوة النيران من أجل حث تلك القوات على القتال.

كانت المجموعة الواعدة المؤهلة لتكون حليفة للأميركيين، يحسب تقدير الاستخبارات الأميركية، أي المجموعة التي تدعى" التحالف الشمالي" والتي تتمركز في وادي بانجشير شمال شرق العاصمة كابول. وعلى الرغم من أن هذا التحالف يضم تحالفات فضفاضة، ويجمع الكثير من أمراء الحرب الذي يهمهم فقط الوصول إلى  السلطة، إلا أن هذه القوت كانت تضم حوالى 20 ألف مقاتل معظمهم من الأوزبك والطاجيك، وكان ذلك كافياً لإقناع إدارة بوش بزواج المصلحة هذا.

وعلى الرغم من بديهية مركزية العراق في مخطط بوش، ومع ذلك لا يبدو أنه اتخذ قرارًا فعليًا بالذهاب إلى الحرب هناك. كما أنه لم يعقد اجتماعًا لاستطلاع رأي مستشاريه الرئيسيين على هذه المسألة، ولا توجد ورقة مجهزة بعناية تَزِنُ الإيجابيات والسلبيات من أي وقت مضى  وخلال وجوده في المكتب البيضاوي. فبعد انتهاء العمل في أفغانستان (كما افترضوا)، كان ذلك يعني ضمنًا الذهاب إلى العراق وكأنه اتفاق مسبق بإجماع حقيقي. على النقيض من حجة  أسلحة الدمار الشامل المصطنعة والتي ألمح إليها بول وولفويتز. ففي بداية عام 2002 على الأقل لم يكن السؤال حول إمكانية غزو العراق أو لا، بل كان السؤال متى وكيف؟

كانت التحضيرات للحرب تجري على الأرض، حيث كانت الإجراءات تشمل ثلاث مهام أساسية: 

· المهمة الأولى: كان على مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس جمع القوانين والأعراف والتحقق من أنها صحيحة.

· المهمة الثانية: كان على نائب الرئيس ديك تشيني أن يُظهر المصلحة القاطعة للولايات المتحدة في هذه الحرب لدحض الرافضين والمشككين بالحرب.

· المهمة الثالثة: كان على رامسفيلد إعداد خطة مضمونة لتحقيق النصر.

في النتيجة، فإن أقوى مؤسسة عسكرية في العالم قد بدأت الحرب التي لم تستطيع إنْهَاءهَا، حيث أن المحاكمة لهذه الحرب المستمرة بشكل منفصل عن الغرض الاستراتيجي ستكون نوعاً من الجنون المحض، حتى لو افترضنا وجود الإرادة السياسية، والتي لم تكن!. لم يبقَ شيء إلا الخروج الذي يضمن الحفاظ على ماء الوجه.

يشير الكاتب في الفصل الأخير إلى النتائج الكارثية لهذة الحرب المستمرة لأجل الشرق الأوسط التي يمكن أن تسيء للأميركيين، فالخيال في هذه النقطة بالذات يكمن في الاعتقاد السخيف بأن امتلاك القوة هو من يشكل مسار الأحداث المستقبلية. 

ويستطرد قائلاً: خلال مسار الحرب الباردة قامت الولايات المتحد بأخطاء فظيعة، مثل المغامرة غير المحسوبة في فيتنام، والأعمال البدائية للإدارات الرئاسية المتعاقبة التي مُنِّيَت بهزائم مذلة، مثل محاولات القيام بانقلابات، وخدع  قذرة، وزواج المصلحة التَّافِهَة. كل ذلك جعل ادّعاء واشنطن بالوقوف على أرضية الْمِثَالِيَّات أمرًا يثير السخرية، كما أن سباق التسلح النووي من جانب الولايات المتحدة قد وصل إلى مرحلة تحمّل مخاطر وقوع كارثة لا توصف.

ومع ذلك، كل يمكن أن تكون الأمور أسوأ، فخلال الحرب الباردة كانت السياسات العسكرية للولايات المتحدة والأغراض الأميركية منسجمة بشكل كبير ومتوازن، وكان هذا الانسجام للتقوية وليس لتقويض رخاء الأمة، وكانت الوفرة والأمن في الولايات المتحدة يسيران يدًا بيد.

وبعد النهاية السعيدة للحرب الباردة (من وجهة نظر الولايات  المتحدة) التي أتت بشكل متميز ولكن مع جانب سلبي لأجهزة الأمن القومي الأميريكي، حيث بدأ التحضير بقوة للحرب الكونية (من أجل منع حدوثها). وفي فعل ذلك وفّرت الخدمات الحربية الزبائن المتنوعين وجهًا لوجه مع أزمة من الطراز الأول. وبما أن احتمال وقوع حرب عالمية ثالثة قد تلاشى، ومع انتهاء الغرض الشامل للمؤسسة العسكرية بعد الحرب والذي لأجله تم إنشاء المؤسسة العسكرية الأميركية. إذًا، ماذا ستفعل بالضبط المؤسسة العسكرية وفروعها وملحقاتها؟ 

لم يضيّع البنتاغون وقت للإجابة عن هذا السؤال، وبدلاً عن تحقيق السلام صرّح أن ذلك من أجل إدامة مواقف كينان من التباين، أي "تشكيل" النظام العالمي.

من وسط هذه التحديات، نجد أن الآلام التي يعاني منها العالم الإسلامي لا تزال بلا شك مستمرة، وسواء أكان التقليل من تلك الآلام يشكّل أهمية للولايات المتحدة أو لا، إلا أن التحرّك باِتجاه مقاربة جديدة سيكون ايجابيًا، حتى لو لم  ينعكس ذلك على أولويات الأمن القومي بعد.

في هذا السياق، تصبح الحرب الأميركية لأجل الشرق الأوسط تحوّلاً يمكن أن يسيء للأميركيين، فالخيال في هذه النقطة بالذات يكمن في الاعتقاد السخيف بأن امتلاك القوة هو من يشكل مسار الأحداث المستقبلية، على العكس سيؤدي إلى انغماس الولايات المتحدة في مشاكل ملحة. 

وهكذا وجدت واشنطن نفسها في لعبة البارحة التي لعبتها بشكل سيء، بينما اللعبة الأكثر أهمية وبقواعد مختلفة بدأت تأخذ مسارها في مكان آخر.

في النهاية، فاللعبة التي على الأميركيين النجاح بها من أجل الاحتفاظ بمواقعهم المميزة هي في الداخل وليست في العراق أو في أفغانستان. وفي النهاية، فإن قدرة الولايات المتحدة على إعادة تشكيل الشرق الأوسط الكبير هو أقل أهمية من قدرتها على إعادة تشكيل نفسها واستعادة الفعالية للحوكمة، وتوفير الرخاء الْمُسْتَدَام والعادل، واستخراج قيم أكثر طموحًا من الحماس الرقمي الضحل ومن عبادة المشاهير.

إن إدامة الحرب في الشرق الأوسط الكبير لا يُحسّن الحرية الأميركية والوفرة والأمن، ولكن سيكون لذلك أثر سلبي. في يوم ما سيستيقظ الأميركيون ويدركون هذه الحقيقة. عندها وعندها فقط تنتهي الحرب ولكن من المستحيل معرفة  متى يستفيق الأميركيون. يغط الأميركيون في نوم عميق.