فلاسفة "التنوير" و"الحرية".. وتجارة العبيد والعنصرية؟

أحدهم كان تاجر رقيق، وآخر أيدّ حق "إسرائيل"في الوجود.. كيف أسّس فلاسفة أوروبيون العنصرية والعبودية وناقضوا أفكارهم؟

ما الفائدة من الفيلسوف إذا لم يكن قادراً على المساهمة في بناء إنسان مؤمن باحترام وتقدير الذات والآخر، بغض النظر عن طبيعة هذا الآخر؟ ألا يتمثل دوره في التربية على الاحتكام للعقل والإيمان بحرية التعبير، ونبذ العنف بكل أشكاله المادية والرمزية؟ كيف أمكن لبعض الفلاسفة أن يتغاضوا عن الظلم، الأخطاء والشرور، بل والحرص على شَرْعَنَتِها وتبريريها حَتى؟ وهل يمكن تخليصهم من لا شعورهم العنصري والاستعماري؟

سارتر "الملتزم" بدعم "إسرائيل"

  •  جون بول سارتر
    جون بول سارتر

في العام 1940 انضمّ الفيلسوف والكاتب الفرنسي جون بول سارتر إلى الجيش الفرنسي، واحتجز لفترة وجيزة في معسكر أسرى الحرب الألماني، ثم هرب منه.

شكل تحرير باريس عام 1944 من النازيين والهزيمة اللاحقة للجيوش الألمانية في أوروبا أرضية لولادة الفلسفة الوجودية باعتبارها "فلسفة حرية" بامتياز على أيدي كل من سارتر وسيمون دو بوفوار. 

في مقالاته بعد الحرب، حثّ سارتر المثقفين على الالتزام والعمل، داعياً إلى الحاجة الملحّة إلى "أدب"  ملتزم سياسياً. 

انبهر المثقفون العرب من مواقفه المناهضة للاستعمار الفرنسي للجزائر وللإمبريالية في: كوبا وأميركا اللاتينية وفيتنام، علاوة على رفضه غير المسبوق لجائزة نوبل للآداب في عام 1964.  

قبل شهر من حرب حزيران/يونيو 1967 وقّع سارتر وسيمون دو بوفوار إلى جانب العديد من المثقفين الفرنسيين بياناً يدعو الفرنسيين إلى دعم "إسرائيل"، معتبراً أنها "الدولة الوحيدة التي يتمّ التشكيك في حقها في الوجود، والمهدّدة من القادة العرب".

في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي دعم سارتر وسيمون دو بوفوار بشكل صريح إقامة دولة يهودية، وكان اليسار الفرنسي متعاطفاً مع الاتحاد السوفياتي الذي كان بدوره داعماً لــ "إسرائيل" في البداية، وفي العام 1947 قدّم سارتر دعمه الصريح للصهيونية، إثر محاكمة تلميذه روبرت مصراحي الذي اتهم بشراء أسلحة لصالح منظمة شتيرن العسكرية الصهيونية، بهدف الاستيلاء على أرض فلسطين بالقوّة والتخلّص من العرب، قائلاً: "أعتبر أن واجب غير اليهود هو مساعدة اليهود والقضية الفلسطينية " (يقصد قضية يهود فلسطين). 

قبل شهر من حرب حزيران/يونيو 1967 وقّع سارتر وسيمون دو بوفوار إلى جانب العديد من المثقفين الفرنسيين بياناً يدعو الفرنسيين إلى دعم "إسرائيل"، معتبراً أنها "الدولة الوحيدة التي يتمّ التشكيك في حقها في الوجود، والمهدّدة من القادة العرب"، وبشكل صريح رفض البيان فكرة كون "إسرائيل" أمّة إمبريالية. وتابع البيان: "نعتقد أنه من غير المفهوم تحديد هوية إسرائيل بكونها ضمن معسكر إمبريالي وعدواني" .

شكّل البيان خيانة كبرى للقضية الفلسطينية، حيث تمّ الطلاق بين سارتر والمثقّفين العرب، بسبب تغيّر موقفه جذرياً من "الصراع" العربي - الإسرائيلي في الفترة من 1967 إلى 1980 مقارنة بما كان عليه من قبل. وكرد فعل على دعم سارتر الصريح للكيان الصهيوني، طلبت أرملة فرانز فانون (1925 - 1961) من ناشري كتاب زوجها "المُعذّبون فِي الأرض"حذف مقدمة سارتر من جميع الطبعات المقبلة للكتاب.

ألبير كامو: "لَوْ خُيِّرتُ بين العدالة وأمّي لاخترتُ أمّي"

  • ألبير كامو
    ألبير كامو

عندما عارض البير كامو، في السنوات الأخيرة من حياته، بشكل علني، وحتى بعنف، المطلب القومي باستقلال الجزائر، فقد عارضه تماشياً مع التصوّر الذي قدّمه عن الجزائر منذ بداية مسيرته الأدبية. 

في مقالة نشرها في صحيفة "لو موند ديبلوماتيك" في العام 2000، يقول إدوارد سعيد إن الاستقلال الوطني للجزائر لم يكن في نظر البير كامو، "إلا مجرّد صيغة عاطفية بحتة".

في رواياته وأعماله، يقدّم كامو الوجود الفرنسي في الجزائر، إما كموضوع سردي خارجي، أو باعتباره القصة الوحيدة التي تستحق أن تُروى كقصة،وليس باعتباره  استعماراً غاشماً.

وأضاف: "لم تكن هناك أبداً أمّة جزائرية بعد. سيكون لليهود والأتراك واليونانيين والإيطاليين والأمازيغ نفس القدر من الحق في المطالبة باتجاه هذه الأمّة الافتراضية. في الوقت الحالي، لا يشكّل العرب وحدهم كل الجزائر. حجم وعمر المستوطنة الفرنسية على وجه الخصوص كافيان لخلق مشكلة لا يمكن مقارنتها بأيّ شيء في التاريخ. الفرنسيون في الجزائر هم أيضاً، بالمعنى القوي للكلمة، مواطنون. يجب أن نضيف أن جَزَائِرَ عربية بحتة لا تستطيع أن تحقّق الاستقلال الاقتصادي الذي من دونه يكون الاستقلال السياسي مجرّد خدعة...".

في رواياته وأعماله، يقدّم  كامو الوجود الفرنسي في الجزائر، إما كموضوع سردي خارجي، أو باعتباره القصة الوحيدة التي تستحق أن تُروى كقصة، وليس باعتباره  استعماراً غاشماً للجزائر ونهباً لخيراتها المادية والرمزية. وبدلاً من أن ينحاز لعدالة القضية الجزائرية، انحاز لأمّه فرنسا. إذ "لم يكن كامو يحبّ جزائر الجزائريين، بل جزائر الأقدام السوداء والمعمّرين، الجزائر التابعة للمستعمر…"، على ما يقوله الكاتب الجزائري رشيد بو جدرة.

جون لوك: "فيلسوف الحرية".. مهندس العبودية العنصرية!

  • جون لوك
    جون لوك

تتخلّل التنوير مفارقة صارخة، تتمثّل في تجذّر أفكار الحرية الإنسانية والحقوق الفردية في الدول التي استعبدت البشر، والتي كانت بالموازاة مع ذلك تقوم بإبادة السكان الأصليين. سارت الهيمنة الاستعمارية ونزع الملكية جنباً إلى جنب مع انتشار "الحرية"، وظهرت الليبرالية جنباً إلى جنب مع المفاهيم الحديثة عن العرق والعنصرية. لقد كشفت هذه المفارقة عن الوجه العنصري الخفيّ للتنوير، والذي لا يتمّ الحديث عنه إلا نادراً.  

تطوّرت العنصرية كما نفهمها اليوم - باعتبارها نظاماً اجتماعياً سياسياً قائماً على تراتبية هرمية دائمة لمجموعات معينة - كمحاولة لحلّ التناقض الأساسي بين الاعتراف بالحرية والتمسّك بالرق. 

تدعم هذه المسيرة المشتركة لليبرالية وتفوّق العرق الأبيض -  سواء كان "عَقْد لوك الاجتماعي" أو "نظرية كانط الأخلاقية" - فكرة "العَقْد العنصري" الضمني الذي يدعم مشروع التنوير. يؤسّس العَقْد العنصري نظام حكم عنصرياً، ودولة عرقية، ونظاماً قضائياً عرقياً، حيث يتم تحديد وضع البيض وباقي الأعراق الأخرى بوضوح، سواء بموجب القانون أو العرف.

في كتابه "مقالة في الفهم الإنساني"، بلور جون لوك "فهماً جيّداً للإنسان" من خلال استثمار مدخّراته في شراء مجموعة من الأسهم في شركة "رويال أفريكان"، التي كانت تصطاد وتأسر العبيد في أفريقيا وتبيعهم.

لقد كان الغرض من هذا، على وجه التحديد، الحفاظ على النظام العنصري وإعادة إنتاجه، وتأمين امتيازات البيض بالكامل والحفاظ على تبعية باقي الأعراق لهم.

صحيح أن لوك، قد أعلن، في كتابة "مقالتان فِي الحُكومة"، معارضته لـ "العبودية". لكن هذه "العبودية" تشير إلى الهيمنة السياسية للحاكم المطلق. وفي مقالته الثانية، يقدّم لوك تبريراً للعبودية كنتيجة للحرب، مستخدماً نفس لغة "السلطة المطلقة" التي تمنح ملاّك العبيد سلطة على حياة وموت عبيدهم. في حين أن حجّته لا تتناسب مع العبودية الوراثية التي تتشكّل في الولايات المتحدة، فقد تم استخدامها مع ذلك لتبرير هذه الممارسة. 

في كتابه "مقالة في الفهم الإنساني"، بلور جون لوك "فهماً جيّداً للإنسان" من خلال استثمار مدخّراته في شراء مجموعة من الأسهم في شركة "رويال أفريكان"، التي كانت تصطاد وتأسر العبيد في أفريقيا وتبيعهم في أميركا... لا يمكن تبرئة "فيلسوف الحرية المزعومة" هذا من دوره كمسؤول استعماري ومستثمر في تجارة الرقيق في شركة "رويال أفريكان" المملوكة للتاج البريطاني. فهو كان حريصاً بشكل أساسي على" حرية وازدهار الإنكليز، ولو تَمّ ذلك على حساب الأفارقة".

فولتير: فيلسوف "التنوير".. تاجر عبيد وعنصري!

  • فولتير
    فولتير

كان فولتير، أو "الفيلسوف التاجر" كما كان يحب أن يُنْعَت، مستمراً في شركة الهند الشرقية الفرنسية، التي تأسّست عام 1664 لاستغلال منتجات العالم الجديد، بما في ذلك الأفارقة الذين تمّ شراؤهم وبيعهم كسلع من أجل الربح. 

كانت كراهية فولتير الشديدة للمجموعات الدينية كافية للتحريض على العنف ضدّهم، بينما أكّدت عنصريّته البيولوجية أن هناك تدرّجات لأشكال الحياة، حيث صوّر أصحاب البشرة السوداء، في "رسائل أمابيد" (1769)، كـــ"حيوانات" ذات "أنوف سوداء مسطّحة، مع ذكاء قليل أو من دونه".

كان فولتير إلى جانب جون لوك وكانط..  نموذجاً لفلاسفة التنوير، الذين قدّموا تبريرات مقلقة لكراهية الجماعات العرقية والدينية. في عمله الأنتروبولوجي، وضع إيمانويل كانط مخطّطاً أكثر رسمية للتراتبية العرقية، حيث يقول: "في البلدان الحارّة، ينضج الإنسان مبكراً ولكنه لا يصل إلى كمال المناطق المعتدلة".

كشفت  العنصرية الممنهجة عن ارتباط وثيق بين بعض فلاسفة التنوير والإمبرياليين الذين سعوا إلى قهر وقمع بعض الأعراق بدعوى أنها أقل شأناً.

وأن "البشرية حقّقت كمالها الأعظم في العرق الأبيض. للهنود الصُّفْر موهبة أقل. يوجد الزنوج في مرتبة أقل بكثير، وبعض شعوب أميركا تحتل مرتبة أدنى".. وفي موضع آخر، يؤكّد على أن "[البيض] يمتلكون كل الدوافع الطبيعة في المشاعر والعواطف، وجميع المواهب، وكل الاستعدادات للثقافة والحضارة ويمكنهم بسهولة طاعة الحكم. ووحدهم من يتقدّمون دائماً نحو الكمال".

كشفت هذه العنصرية الممنهجة عن ارتباط وثيق بين بعض فلاسفة التنوير والإمبرياليين الذين سعوا إلى قهر وقمع بعض الأعراق بدعوى أنها أقل شأناً.

لم يكن شرّ عصر التنوير هذا هامشياً في عمل هؤلاء الأيديولوجيين. لقد تمّت قراءة كتاباتهم على نطاق واسع في جميع أنحاء أوروبا، ولا سيما من قِبَل صديق فولتير، ملك بروسيا فريدريك الثاني الذي دعاه إلى الانضمام إلى البلاط الملكي في بوتسدام عام 1750، ليكون مُرْشداً له في سياسته وإدارته لحكم بروسيا.

إن كل حرص على إيجاد تبريرات لإعفاء هؤلاء الفلاسفة وغيرهم من كل مسؤولية عن الشرور والأخطاء القاتلة الناتجة من تحيّزاتهم العنصرية والاستعمارية بدعوى أنها صدرت عنهم في أزمنة "أقَلّ تَنْوِيراً"، ليس في جوهره إلا حرصاً على شَرْعَنَة الاستعمار وتفوّق العرق الأبيض المزعوم على باقي الأعراق الأخرى لأجل إِدَامة استعبادها ونهب خيراتها المادية والرمزية. 

المراجع

(*) Farouk Mardam-Bey: Sartre, Israël et les Arabes: la "détermination affective" Dans Matériaux pour l’histoire de notre temps (N° 96) 2009

(*) Edward W. Said: Albert Camus, ou l’inconscient colonial. Le Monde diplomatique, Novembre 2000 

(*) Wayne Glausser:Threeapproaches to Locke and the slave trade. Journal of the History of Ideas 51, 1990 

 (*) Emmanuel ChukwudiEze: The Color of Reason: The Idea of "Race" in Kant'sAnthropology

(*)JamelleBouie: The Enlightenment’sDarkSide

*ملحوظة: كل النصوص من ترجمتنا. [عبد النور زيّاني ]

 

في جو من الأزمات التي تعيشها أوروبا على وقع العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وتداعيات وباء كورونا، تشهد فرنسا انتخابات رئاسية في 10 و 24 نيسان/أبريل 2022، فهل يعاد انتخاب إيمانويل ماكرون لولاية ثانية، أم نرى رئيساً جديداً في قصر الإليزيه؟