في ظل الانهيار.. كيف تواجه دور النشر اللبنانية أزماتها؟

"الميادين الثقافية" تقابل مديري دور نشر لبنانية، وتسألهم عن رؤيتهم لمستقبل صناعة النشر في ظل الأزمة. ماذا قالوا؟

قال المفكّر والفيلسوف الفرنسي، مونتسكيو، إن ساعةً من القراءة هي الترياق الناجح ضد إكراهات الحياة وقزازتها. ورأى فيكتور هوغو أنّ النور يتجلّى في الكتاب. فالكتب القيّمة، هي بلا ريب، ضوءٌ معرفيّ بالغ الأهمية وبعيد الأثر، ثقافياً وحضارياً، في كل زمانٍ ومكان. 

في ظل الأزمة الاقتصادية والانهيار في لبنان، طرحنا على عددٍ من دُور النشر البارزة في لبنان سؤالاً مُلحّاً عن أفق الكتاب والناشر، راهناً وفي المدى المتوسّط، وعن كوّة الأمل في الجدار السميك، والحلول الموقتة والأدوات والوسائل، وآليات الرفد والصمود.

**

"دار الفارابي": نصمدُ مع شعبنا ونأمل أفقاً أكثر ضوءاً 

حسن خليل، المدير العام لـ"دار الفارابي"، قال، في تصريحٍ لـــ "الميادين الثقافية"، إنّ "قطاع النشر، في كل أشكاله وميادينه، هو من القطاعات التي يمكن أن تكون الأكثر تضرّراً نتيجة عدة أسبابٍ، منها أنّ الكتاب أو إنتاج الثقافة والفكر اليوم، ربّما لن يشكّل أولويةً لدى كثير من الناس، وخصوصاً عندما تتقدّم الأولويات الاجتماعية والصحّية والغذائية وتأمين حاجات المواطن الأساسية كي يستمرّ".

وأضاف: "لذلك، ثمّة صعوبات جدّية ممتدّة منذ العام 2019. فجزءٌ كبير من الأمور التي تندرج ضمن صناعة الكتاب - ولا سيّما الورق وغيره - صار سعرها بالدولار عالمياً. وفي ظل الانهيار الكبير في سعر صرف الليرة اللبنانية، نرى كيف أثّرَ ذلك في عملية الإنتاج وسعر الكتاب".

خليل قال: "نحن أيضاً، فيما ننتجه في دور النشر في لبنان، جزءٌ من إنتاج المنطقة العربية، سواء عبر علاقات مباشرة ببعض المكتبات ودور النشر التي نتعاون معها، أو من خلال المعارض الموجودة في أغلبية الدول العربية التي نشارك فيها. أمام ذلك، فكّرنا في الحلول الممكنة: في "دار الفارابي" مثلاً، حاولنا إيجاد الحلول المحلّية. قرّرنا، في إدارة الدار، منذ العام 2019 اعتبار السوق اللبنانية سوقاً لا ربحَ فيها. عملياً، نحاول إيصال الكتاب إلى المواطن بسعر التكلفة. وقمنا بمجموعة مبادراتٍ في هذا المجال. حين كان سعر الدولار في السوق 12 ألفاً، بعناه بسعر ألف ليرة. وفي معرض الكتاب الدولي في بيروت حديثاً، كان الدولار لدينا يوازي 15 ألفاً، وهو أدنى سعر صرف في المعرض وفي لبنان بأسره، لأنّ هدفنا، بصفتنا ناشرين، يتمثّل بإيصال الثقافة والأدب والفكر والدراسات الراقية إلى المواطن من أجل رفع مستوى وعيه، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفكرياً. كان هدفنا تأمين هذه المواد بالجودة العُليا".

يرى المدير العام لــ "دار الفارابي" أنه "لا بدّ من الصمود للاستمرار. ومن آليّات الصمود، في ظل غياب أيّ دعم مؤسَّسيٍّ أو حكوميّ أو خاص لدور النشر، علماً بأنّ الدار شركة تضمّ مساهمين من المفكّرين والمثقّفين، ولها وجودها المؤثّر منذ نحو 70 عاماً: قرارنا المثابرة. وكلّما اشتدّت الأزمة ازداد إصرارنا على الصمود في المواجهة، لأنّ المعركة أيضاً هي معركة نشر الوعي والثقافة وحمايتها. هناك انهيارٌ في المجالات كافة: الأخلاقية، والاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية. ونحن نتصدّى، من خلال بقائنا مع المواطن وطالب الفكر والثقافة الحرّة الخالية من أوبئة المذاهب والطوائف والولاءات والأحكام المسبّقة والمفاهيم المُسقَطة، في اتّجاه فضاءٍ أكثر حرّيةً واتساعاً وديمقراطيةً. نصمدُ بصمود شعبنا وقرّائِنا والمساهمين، ومن خلال مبادراتٍ ندعو إلى تنظيمها في اتّجاه الطلّاب والشبان ومساعدتهم، ومن خلال احتضان أيّ مبادرة فردية أو جماعية (...). نأمل تحسُّنَ الأمور في اتّجاه أفقٍ أكثر انفتاحاً وضوءاً من الظلمة التي نعيش فيها. ننتج ثقافةً وطنية واضحة لا لُبسَ فيها".

"دار نلسن": لا بدّ من الـNetworking ومدعوّون إلى تحدّيات وصيغ جديدة

من جهته، قال مدير "دار نلسن للنشر"، سليمان بختي، "إنّ واقع النشر في لبنان اليوم صعبٌ ومتعثّر، لأنّ الظروف الاقتصادية التي تمرّ فيها البلاد ممهورةٌ بمعاناةٍ وانكماشٍ على مستوى الحياة اليومية والحاجات الضرورية للإنسان. وبالتالي، فإن الحاجات المعنوية، المرتبطة بالمعنى والأدب والفكر والثقافة والفن، تتراجع بحُكم الضرورة وليس بحُكم الحرّية. الناس صاروا أمام خياراتٍ صعبة وقاتلة. ثمّة عوامل تؤثّر في الدخل، وهي مرتبطة بالحاجات الغذائية والمحروقات والطاقة (...). قضية الكِتاب لم تعُد تقتصر اليوم على ناشرٍ وقارئ، بل هي قضية مجتمعٍ برمّته، وهي نتاج هذا المجتمع".

وأضاف في حديث مع "الميادين الثقافية"، "إذا كان مجتمعنا غارقاً في أزماته اليومية فسيكون صعباً إنتاج الفكر والثقافة والفنّ، الأمر الذي يشكّل خطراً على لبنان ودَوْره، وعلى دَوْر مدينة مثل بيروت، ولا سيما أنها كانت دائماً عاصمة الثقافة في العالم العربي. لا بدّ من إعادة التفكير في الآليّات المتعلّقة بالنشر. لم نعد نطبع كمّياتٍ كبيرةً، وهذا مقلقٌ في ظلّ ضعف ضفّة القرّاء، الأمر الذي يؤثّر في الناشر والحياة المتعلّقة بكيفية تعبير المجتمع عن ذاته من خلال الرموز والثقافة".

يختي يرى أننا "في وضعٍ أو أرضٍ كأنها رمليّة وتحتاج إلى كل شيء. لذلك، لا بدّ من التفكير في كيفية صَوْغ قدرتنا على الإنتاج. ربما لا بدّ لنا اليوم من الانفتاح أكثر على موضوع يُسمّى Networking، أي التشبيك بين المؤسّسات الثقافية والجامعات الأكاديمية ودُور النشر والإعلام والمثقّفين، من أجل إنشاء ما يماثل تعاونية كُتّابٍ، أو لاجتراح شيءٍ مغاير للسائد، من أجل أن نضمن استمرار مجتمعنا في إنتاج المعرفة".

ويوضح أن "كل الناشرين لا يهتمّون كثيراً بالسوق المحلّية، لأنها لا تغطّي التكاليف حالياً، وذلك لمصلحة المعارض في الخارج التي تدفع بالدولار الفريش. لكن الأمر الجوهريّ يكمن في أننا، في المقام الأوّل، نريد أن نخدم مجتمعنا، ثمّ ننظر إلى الدول المحيطة والعالم حولنا. كلّنا مدعوّون راهناً إلى قراءةٍ جديدة لهذا الواقع، وإلى تحدّياتٍ وصيَغٍ جديدة لنحافظ عبرها على الاستمرار، ولو في الحدّ الأدنى، كي يتمكّن بعد ذلك مجتمعنا، شيئاً فشيئاً، من بناء ذاته حضارياً وأخلاقياً، ولتعود دورة إنتاج العمل والفكر إلى الحركة الطبيعية. هناك وجعٌ نتكبّده يومياً، ونتمنّى مع كلّ كتابٍ جديد أن نتقدّم خطوةً في طريق النور. رأس مال لبنان الكبير والرمزيّ هو رأس مال الفكر والثقافة والفنون". 

"دار النهضة العربية": المنَح ومساهمات المؤسّسات ملجأ لدعم الكُتّاب 

في المقابل، قالت المديرة العامة لـ"دار النهضة العربية"، نسرين كريدية، لـــ "الميادين الثقافية"، إنه "لا يمكن الحديث عن الأزمة الاقتصادية في لبنان بمعزل عن الأزمة العالمية، سواء من ناحية "كورونا" وتأثيراتها، أو من الناحية الاقتصادية".

وأضافت أن "قطاع النشر، كغيره من القطاعات، تعرّض عالمياً لنوعٍ من التراجع، على مستوى ظروف النشر وتفاصيله ومقوّماته، وعلى صعيد الإقبال على شراء الكتب أيضاً. وما نشهده كذلك في الساحة اللبنانية في قطاع النشر، هو تراجُع الإقبال على الكتب بعد أزمة "كورونا" وحراك 17 تشرين 2019، فبعض المكتبات أقفل نتيجة ضعف الإقبال من الزبائن، والأمر نفسه ينطبق على دُور النشر. بعض الدور أقفل أبوابه، والبعض الآخر فضّل الانتقال بمكاتبه إلى دولٍ أخرى أكثر استقراراً، وأسواقها أرحب".

وبشأن أفق الكتاب، قالت كريدية إنّ الكتاب في بيروت ما زال محافظاً على مستوى وحضورٍ جيّدَيْن عربياً. وتمكّنَ من ذلك، وفق رأيها، عبر طرح أساليب وسياساتٍ جديدة في النشر، ومن خلال استيعاب متطلّبات سوق النشر، ومواكبة متغيّرات الصّنعة كافّة، وعبر طرح آفاقٍ في النشر الإلكتروني والمشاركة الدائمة في معارض الكتب العربية والعالمية ومؤتمرات التبادل الثقافي. وتقول كريدية إنه لا يمكن أن نغفل عن هذه التطوّرات التي تلحق بصنعة الكتب، والتي سترافقها في المدى المنظور. 

وبشأن الحلول المقترحة، قالت كريدية إنه يمكن اللجوء إلى عدة سياساتٍ في النشر، مثل تقليل عدد الإصدارات سنوياً، والتفكير في سياسات تعاونٍ بين أكثر من دار نشرٍ عربية، في سبيل إطلاق كتبٍ مشتركة، وإيصالها إلى شريحة أكبر من القرّاء.

وتابعت: "كما أننا نجد في مشاريع المنَح ومساهمات المؤسّسات في دعم الكتّاب ملجأً مهمّاً لضمان استمرار الكتّاب في نتاجهم. كما يمكن اللجوء إلى طبعاتٍ محدودة. في السابق كان الناشر يطبع الآلاف من النسخ ويطرحها في السوق، يمكنه اليوم الاستعاضة من ذلك بطبعاتٍ محدودة لضمان الاستمرارية. وهامش الكتاب الإلكتروني يتعزّز شيئاً فشيئاً في عالمنا العربي، ويمكنُ الرّكون إليه أيضاً، بصفته حلاًّ ناجعاً لتكاليف النشر المادية وصعوباته، خلال فترة الأزمة. كما أن النشر، عبر المنصّات المخصَّصة للشِّعر والنصوص، قد يُعفي الكاتب والناشر، ولو بصورة موقّتة، من عبء إصدار مجموعة شعرية أو قصصية أو رواية، عبر طبعة ورقيّة، من خلال نشرها في حلقاتٍ ودفعاتٍ في مواقع إلكترونية ومنصّاتٍ ثقافية متخصّصة". 

"دار فواصل للنشر": الحلّ في إيجاد سوق عربية للكتاب من دون ضريبة

صاحب "دار فواصل للنشر"، نعيم تلحوق، قال، في تصريحٍ لــ "الميادين الثقافية"، إنّ "الكتاب الورقي يعاني ارتفاع سعره وقلّة مُريديه، الأمر الذي ينعكس على آلية التسويق، من تصدير الكتاب، إلى ارتفاعٍ في تكلفة الإنتاج وإيجاد السوق اللازمة له".

وأضاء على أهمّية الكتاب ووقْعه على الناس في ظل سيطرة وسائل "الميديا" الإخبارية السريعة.

وأردف: "أصبح الكاتبُ الحقيقيُّ قليلاً"، على حدّ تعبيره، "أمّا كُتّاب الهواتف النقّالة فصاروا جزءاً من معادلة البريد الإلكتروني المستعجل. نحن في عصر الأرقام، ولا يوجد دعم للكتاب من مؤسساتٍ مختصّة، لا في الدول العربية ولا في العالم، إلّا إذا كان الكتاب وصاحب الكتاب موجَّهَيْن ومدعومَيْن للكتابة في اتجاه مسألةٍ معيّنة، ويكون صاحب الكتاب هو المدعوم، لا الناشر." 

يضاف إلى ذلك المنظّمات الدولية والوطنية الكبرى غير المعنية بالدعم، إلّا وفقاً لفلسفتها. ويغيب دعم الدولة للكاتب عبر وزارة الثقافة في لبنان منذ أكثر من 3 أعوام، في ظل الانهيار، وليس هناك مَن يدعم التخصُّص بالمجالات كافة. كذلك، فالمواد كلّها مستوردة من الخارج، من شركات الورق التي تعمل بالدولار اللحظيّ الآنيّ، والكاتب يدفع إلى الناشر ثمن التكلفة كاملة، على أن يكون ربح الناشر ضئيلاً بسبب انعدام التسويق وتصريف الإنتاج. 

ويرى تلحوق أن "الحلّ يكمن في إيجاد سوق عربية للكتاب من دون ضريبة عليه، مع وضع الدعم على استيراد الورق للناشر من دون ضريبة. ولا بدّ من تصحيح الوضع الاقتصادي في البلد".

"دار الآداب": محاربة القرصنة والتزوير من أدوات الصمود 

أما رنا إدريس، مديرة "دار الآداب"، فقالت "إن "الآداب" دار لبنانية يسارية ملتزمة قضايا العرب، ولديها هدفٌ قوميّ دائماً، وفلسطين في قلب عملها، ولم تتخلَّ عن هذه الرسالة منذ نشأتها عام 1956، وتستمرّ في المشروع نفسه".

وعن وضع النشر، قالت إدريس "إنه بائسٌ، وهناك كثير من العوامل التي جعلت هذه المهنة في خطرٍ شديد راهناً". 

ولفتت إدريس إلى تضرُّر الناشر اللبناني إلى حدٍّ كبير في ظل الانهيار، اقتصادياً ولوجيستيّاً، ومن ناحية التيار الكهربائي والاستيراد والتصدير وتحصيل المبيعات. كذلك، ثمّة دول ترفض شراء كتب من لبنان واستيرادها، وعدد القرّاء الجدّيين يتضاءل، بينما الكتب السهلة الخالية من العمق تتمتّع بإقبالٍ وحركة عليها".

وتابعت: "وسط الحلكة ثمّة أملٌ وبصيص نور. نلاحظ أنّ هناك جيلاً جديداً من الشبان القرّاء، وهناك حركة جديدة من بلدان الخليج، علماً بأنّ القارئ الخليجي هو المستهلك الأساسي للكتاب اليوم". وفي رأي إدريس، فإنّ هذا ما يجب أن يتنبّه الناشرون له، و"في كثير من الأوقات، يضطرّ الناشر إلى مسايرة أذواق قرّاء معيّنين، ويجب تجنّب حدوث ذلك".

ومن أدوات الصمود، من وجهة نظر إدريس، أن يكون لدى الناشر مشروعه الثقافي الذي يقوده.

أمّا من ناحية الربح المادّي، فلم يعد النشر مربحاً على المستوى التجاريّ إلى هذا الحدّ، و"مع ذلك، يمكننا الاستمرار على نحو يؤمّن العيش الكريم، والربح الفائض ليس الهدف الأساسي. من جهةٍ أخرى، يجب بذل الجهود الحكومية على نطاق الدول لمحاربة القرصنة الإلكترونية والتزوير الورقيّ الموجود في كل البلدان. وعندما يحدث هذا التزوير، يُصدَّر إلى بلدٍ ثانٍ، الأمر الذي يشكّل خطراً على أسواقٍ متعدّدة. فمحاربة التزوير أداة أساسية من أدوات الصمود، الأمر الذي يستلزم عمل الحكومات، مثلما فعلت فرنسا وإنكلترا، من أجل محاربة التزوير والقرصنة".