"قنديل أم هاشم" ليحيى حقي: علم الغرب إذ يصطدم بالبيئة المحلية

يسأل الناقد المصري فؤاد دواره: "ما سر هذه الرواية القصيرة "قنديل أم هاشم"، التي حققت لكاتبها ما لم تحققه عشرات الكتب لغيره؟.

  • "قنديل أم هاشم" ليحيى حقي: علم الغرب إذ يصطدم بالبيئة المحلية

يقول جمال حمدان، صاحب كتاب "شخصية مصر: عبقرية المكان": "إن بلادنا قد تخصصت في إهالة التراب على مفكرينا وهم أحياء، وعلى تمجيدهم وهم موتى". وللأسف كانت المرة الأولى التي سمعت فيها بأحد هؤلاء المبدعين الأعلام، وهو الأديب يحيى حقي، عند رحيله في العام 1992.

يشكّل حقي مع توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ومحمود تيمور ويوسف السباعي.. جزءاً أساسياً من الهوية الأدبية لمصر.

كثيراً ما يشكو الأدباء حصر إنتاجهم برواية واحدة تطغى على أخواتها من الروايات. فيحيى حقي كثيراً ما كان يشكو من أن اسمه مرتبط بقصته " قنديل أم هاشم"، التي كتبها بين عامَي 1939 و1940، على الرغم من أن له قصصاً أخرى. وقد صرّح بذلك في حوار أجري معه سنة 1964، قال فيه: "إن اسمي لا يكاد يُذكر إلا ويذكر معه "قنديل أم هاشم"، كأنّي لم أكتب غيرها". وهذا واقع الحال مع كل الأدباء، فتوفيق الحكيم له روايات ومسرحيات عديدة إلا أن اسمه ارتبط برائعته "عودة الروح"، وكذلك حال نجيب محفوظ الذي له أكثر من 40 رواية وقصة، إلا ان اسمه بقي مرتبطاً بثلاثيته.

ولهذا فإن قصة "قنديل أم هاشم" تبقى واحدةً من العلامات الفنية في تاريخ الرواية المصرية، فقد استطاع حقي أن يلخّص فيها الشخصية المصرية بعمق، ومن دون مبالغات الحداثة أو الجمود المتخفّي، التي يتكئى جزءٌ منها على عقلٍ يميل إلى الخرافة.

تسرد لنا "قنديل أم هاشم" قصة الشاب المصري إسماعيل، الذي نشأ في بيئة شعبية مصرية، في حي السيدة زينب وميدانها وبيئته الدينية، وسط نداءات الباعة والشحاذين، وحيث تُجسّد علاقاته الاجتماعية الاندماج والوحدة مع الجماعة. ينتقل إسماعيل من هذه البيئة إلى إنكلترا لدراسة طب العيون، وهي السنوات التي ستقلب حياته رأساً على عقب، والتي "أخرجته من الوهم والخمول إلى النشاط"، وحيث كان من قبل "يبحث دائماً خارج نفسه عن شيءٍ يتمسّك به ويستند إليه: دينه، وعبادته، وتربيته"، إلى أن يعود بعد أن تلقّي العلم في إنكلترا. ولذلك ثمّة من اعتبر قصة "قنديل ام هاشم" تعبيراً عن صدمة العودة من الغرب، وعن الصراع الذي احتدم في نفسه، ومحاولته إيجاد مَخرج من هذا الصراع، يُعيد إليه توازنه المختلّ.

عاد إسماعيل إلى وطنه محمَّلاً بالحنين إليه، ولكنّه أيضاً محمَّلٌ بعقلٍ تعس ومقارن ومعقد، وهذا العقل هو الذي يجعله يُصدم عندما يواجه كيف تعالج أمه فاطمة النبوية المريضة بواسطة زيت قنديل أم هاشم، وهو الموقف الذي سيتصادم فيه علم الغرب وتقدُّمه بالخرافة والجهل، الأمر الذي سيدفع بإسماعيل إلى أن يحطّم رمز هذه الخرافة ممثَّلاً بالقنديل، كما سيقابل هذا الموقف في البداية بالاعتزال والشعور بأنّه غريبٌ بين أهله، يعاني بينهم الوحشة، حتى أنّه يأخذ يفكر بالعودة إلى أوروبا، "فما فائدة الجهاد في بلدٍ كمصر، ومع شعبٍ كالمصريين، عاشوا في الذل قروناً طويلة فتذوّقوه واستعذبوه؟". على أنَّ هذا التحدّي والترفّع على الواقع لا يُجدي، حتّى حين صمّم على أن يواجههه بتطبيقِ ما تعلّمه في الغرب من أساليبٍ وعلمٍ في علاج مريضته، وهي الأساليب التي نجحت من قبل في علاج مئات الحالات المماثلة، وهي التجربة التي ستفتح عيني إسماعيل على حقائق جديدة.

إنَّ ما فشل فيه لم يكن قصوراً في علمه، وإنّما تجاهلاً لظروف بيئته والمعتقدات التي تحكمها، فالخبرة التي ستقوده للعودة إلى التفتح على هويته الأصيلة وعدم التنكر لها، وهي العودة التي ستجعله يرى أشياء لم يكن ليراها من قبل، وهي معانٍ في الإيمان والامتثال، الأمر الذي سيهديه إلى معنى أوسع وهو أن "لا علم بلا إيمان". فحين فشل علمه وأساليبه في علاج فاطمة، لم يكن ذلك إلا لأنها لم تكن تؤمن به، أما حين عاد إليه اطمئنانه وتقبّله، واستعاد بذلك ثقتها، أثمرت أساليبه العلمية ونجحت، "وعاد من جديد إلى عمله وطبّه، يسنده الإيمان"، فوضع العلاج الذي وجده العلم فى قنينات تشبه تلك التى يوضع بها زيت القنديل، واضطر للإيحاء للمرضى بأنّه يعالجهم بزيت القنديل. 

وحينما اطمأن الناس له، وللعلم الذي أتى به وللعقل الذي يمثله، كان عليه أن يصارحهم بأن علاجه الموضوع فى زجاجة الزيت ما هو إلا نتاج العلم والطب والمعرفة، وهكذا فإن للعلم بيئته التي تحترم العقل في البداية، فمحاولة استخدام العلم في علاجِ مشكلاتِ مجتمعٍ لا يحترم العلم هي محاولة غير علمية، بل وغير عقلانية فى حد ذاتها.

تناقش قصة قنديل أم هاشم  "صراع الغرب مع الشرق" والتي نتج عنها أنه "لا علم بدون إيمان". فما حصل مع إسماعيل بطل الرواية من صدام مع أهل بيئته المصرية، يعيد إلى الذاكرة  كتابَي "نهاية التاريخ" لفرنسيس فوكاياما، و"صدام الحضارات" لصموئيل هنتغتون، اللذين أحدثا جدلاً ما زال مستمراً حتى الساعة.

يسأل الناقد المصري فؤاد دواره: "ما سر هذه الرواية القصيرة "قنديل أم هاشم"، التي حققت لكاتبها ما لم تحققه عشرات الكتب لغيره من كبار المؤلفين؟ فاحتفى بها النقاد والدارسون، وكتبوا عنها كثيراً، واجتهدوا في تحليلها وتعداد مزاياها، حتى ذاعت شهرتها، بدرجة كاد يضيق بها يحيى حقي.  فلم يحدث في تاريخ الأدب العربي كله، وربما في تاريخ الأدب العالمي - في حدود علمي - أن استطاعت قصة في أقل من 70 صفحة، أن تنتقل وحدها بمؤلفها من عالم المجهول إلى قمة الشهرة، ليصبح كاتباً معروفاً، بعد أن كان نكرة لا يعرفه أحد".

وقد عانى حقي، مثله مثل أي كاتب جديد في العثور على ناشر لعمله الأول، قصة "قنديل أم هاشم"، والفضل في نشرها في العدد 18 من سلسلة "اقرأ"، في حزيران/يونيو ‏1944‏، يعود إلى الأستاذ محمود شاكر،‏ الذي قدّمها للمشرفين على هذه السلسلة في دار "المعارف"‏، ثم يعود إلى الدكتور طه حسين، الذي قرأها ورشّحها للنشر. 

وعن سبب نجاح قصة "قنديل أم هاشم"، يجيب كاتبها يحيى حقي: "حين أحاول البحث عن سبب قوة تأثير "قنديل أم هاشم"، لا أجد ما أقوله سوى أنّها خرجت من قلبي مباشرةً كالرصاصة، وربما لهذا السبب استقرّت في قلوب القرّاء بنفس الطريقة".

‏بدوره، كتب سيد قطب عن هذه القصة فور صدورها مقالاً قوياً في مجلة "الرسالة"، نُشِر بعد ذلك في كتابه النقدي الشهير "كتب وشخصيات": كتب يحيي حقي هذه القصة بعد عودته من عمله الدبلوماسي في روما، التي قضى فيها 5 سنوات، وهذا يعني أنَّ عناصر القصة وصراعاتها جرت في ذهن يحيي حقي وهو يعيش الحضارة الغربية بكل مقوماتها، من علم وتقدم، في مقابل ما كان يختزنه عن تجربته وبيئته المصرية، وفي أعماق أحيائها الشعبية بكل ما كانت عليه من أنماط وعلاقات وقيم تتعارض مع كل ما رآه واختبره في الغرب. ولذلك فإنَّ صدورها كان بمثابة دعوة إلى العلم والقراءة، من دون أن ينسينا ذلك الجوانب الروحية والدينية، ‏‏فعندما صدرت القصة‏ كانت الحرب العالمية الثانية توشك على الانتهاء‏.

يكاد الدكتور إسماعيل يفقد حياته في القصة، ظنّاً من العامة أنّه خرج عن الدين لرفضه استخدام زيت القنديل. فقد اصطدم علم الدكتور إسماعيل بخرافات المجتمع. وعلى الرغم من أن القصة ليس فيها أي إشارةٍ إلى أجواء الحرب العالمية،‏ إلا أنّها كانت تحاول الإجابة على سؤال مهم جداً طرحته هذه الحرب على وجدان الناس وتفكيرهم‏، خاصةً بين المتعلّمين والمثقّفين منهم‏.

‏والسؤال هو ببساطة‏:‏ ماذا نفعل مع الحضارة الغربية الجديدة التي تدقّ أبوابنا بعنف؟ هل نلغي أنفسنا لكي نكون نسخة طبق الأصل من هذه الحضارة؟ 

‏أراد يحيى حقي من قصّته أن تكون تجسيداً للعلاقة بين روح الشرق والغرب، وحواراً بين العلم والدين، والحديث والموروث، ولكن هل نستطيع أن نقول إن "روح الشرق" قد خرجت منتصرة من هذا الصراع، حيث عاد البطل إلى الإيمان وقيمه، فيما انهزم الغرب أو تراجع؟

أجمل ما في هذه القصة وفاء المثقف المصري، الذي يمثله إسماعيل، لشعبه، وقيامه بواجبه نحوه، فما فعله إسماعيل بعد ذلك حين افتتح عيادة بسيطة لعلاج مرضى العيون، وجعل أجرة الزيارة زهيدة، هو أنّه "استمسك من علمه بروحه وأساسه، وترك المبالغة في الآلات والوسائل. اعتمد على الله، ثم على علمه ويديه، فبارك الله في علمه ويديه. ما ابتغى الثروة ولا بناء العمارات وشراء الأطيان، وإنما قصد أن ينال مرضاه الفقراء شفاءهم على يديه".

إن النهاية التي انتهت بها القصة توحي بأن علاج فاطمة وشفاءها كان نتيجةَ تكاملٍ وتلاقٍ بين علم الغرب وأدواته من جهة، وإيمان الشرق وموروثاته من جهة ثانية، وهو ما نتصور أن يحيى حقي أراد أن ينتهي إليه من إمكان التلاقي بين الشرق والغرب، حين لا يُنكر أحدهما الآخر أو يرفضه أو يستعلي عليه.

لذلك اهتم الفرنسيون بكتاب "الصدمة"، الذي يتضمّن ترجمةً قام بها المستشرق الفرنسي شارل فيال لروايتَي " قنديل أم هاشم " و"البوسطجي" ، حيث تلخص الأولى صدمة انتقال البطل من الحضارة الغربية إلى الشرقية، وتلخص الثانية صدمة الانتقال من القاهرة إلى الريف.

دائماً ما تؤكّد نهى، ابنة الراحل يحيى حقي، بأنّه كان روائياً كبيراً، كما هو رائداً للقصة القصيرة، وتأسف أنّه تمَّ اختزال ما أبدعه في 3 من أشهر أعماله، هي "قنديل أم هاشم، "أم العواجز"، و"صحّ النوم"، وهى رواية تحتاج إلى قراءة عميقة وواعية، مرات ومرات، لما تحمله من رمزية فريدة. وقد تنوّعت إبداعات حقي بين المقال والرواية والقصة القصيرة والنقد الأدبي والفني.

من المجموعات القصصية لحقي "دماء وطين"، و"عنتر وجولييت". ومن دراساته النقدية "خطوات فى النقد"، "دمعة فابتسامة"، "حقيبة في يد مسافر"، و"أنشودة البساطة". كما أنّه ترجم كتاب "القاهرة" لديزموند ستيوارت، كما ترجم مسرحيات "دكتور كنوك" لجول ودمان، و"الطائر الأزرق" لموريس مترلنك، وترجم روايات "الأب العليل" و"البلطة" لميخائيل سادوفيانو، و"لاعب الشطرنج" لستيفان زفايج، و"طونيو كروغر" لتوماس مان، وغير ذلك الكثير، مثل كتابه "هموم ثقافية". لكن على الرغم من جهوده هذه كلها، بقي يحيى حقي يُعرف بأنّه صاحب قصة "قنديل أم هاشم" فقط.