"كقطة تعبر الطريق".. رواية مخلصة لمجازها

الأحداث السورية هي أيضاً واحدة من المواضيع التي تعرّج الرواية عليها إنما من منظور إنساني محايد.

  • رواية
    رواية "كقطة تعبر الطريق" للكاتب المصري حاتم حافظ.

الحكاية والحكايات

مع أن الحكاية هي أحد أجزاء الرواية الرئيسية، لا يسعنا إلا أن نلاحظ أن الرواية الحديثة قد حجّمت أهمية الحكاية ومساحتها إلى حد كبير. بالتالي، باتت الروايات، في كثير من الأحيان، توسيعاً وتلاعباً سردياً بحكاية بسيطة يمكن قصّها في بضعة سطور.

ينطبق هذا على رواية "كقطة تعبر الطريق" للكاتب المصري حاتم حافظ (الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية عام 2021). فزمن القصة التي تُروى يمتد لبضعة أيام ليس إلا، قبل وبعد ليلة عيد الميلاد. غير أن الرواية تستمر بتوسيع امتداد زمنها من خلال استرجاع الشخصيات المتكرر لأحداث ماضية. الحكاية، كما يبدو ظاهرياً، هي حكاية عالية وميشيل وليلي. عالية أم عازبة هربت من الحرب السورية إلى بيروت، ثم إلى بازل في سويسرا، ثم إلى باريس، ومعها ابنتها ليلي؛ ابنة من زواج غير شرعي. تلتقي عالية بميشيل الفرنسي الأصل، تنشأ بينهما علاقة عاطفية، ويرافقها رحلة الهروب هذه. لكن، من خلال ميشيل وعالية وحكايتهما هذه، تتكشف حيوات شخصيات أخرى تلتقي بها هاتان الشخصيتان وتندمج في سردهما. على سبيل المثال، نتعرّف إلى نيمو (نعمة) التي يلتقيها ميشيل صدفة وينبش حكايتها، أولغا وباها اللذين تتعرف إليهما عالية في دار نشر تنوي العمل فيها، سهيلة التي تقابلها عالية في حفل ويتضح تأثيرها الكبير على مسار حياة معظم الشخصيات، وغيرهم. الحكاية إذاً هي حكاية هروب عالية، لجوؤها، علاقتها بميشيل، عملها في دار نشر، وذهابها في آخر الرواية إلى منزل ميشيل وعائلته في الجنوب الفرنسي. هذا بالطبع بالمعنى المبسّط للحكاية، لكن في العمق، الحكاية(أو الرواية بالعموم) هي حكاية مشاعر كل تلك الشخصيات، تنقلاتها المكانية والنفسية، تأثيرات أحدها في الآخر، وعبورها، أو تعذّر عبورها.

كيف كُتِبت القصة

في الحديث عن السرد والشكل الفني، نرى أن الرواية تنقسم إلى قسمين رئيسيين متمايزين: "امرأة غاضبة..رجل ضجر" و"قطط برية". ويتجاوز هذا التقسيم كونه تقسيماً فصلياً متعلقاً بالأحداث، فهو أيضاً تقسيم في آلية الكتابة. في القسم الأول، يتناوب السرد امرأة غاضبة "عالية"، ورجل ضجر "ميشيل"، يرويان بصيغة المتكلم ما يجري وما جرى ماضياً من أحداث. ويساعدنا هذا التناوب في فهم الحدث ذاته من وجهتي نظر متباينتين. كما أنه يمكننا من فهم شخصيتي عالية وميشيل وأحدهما من خلال الآخر، كما من خلال نفسه(من خلال مونولوجاتهما). 

أما في القسم الثاني، فيتولى الكاتب، أو الراوي العليم، إكمال الحكاية، في محاولة لسد الثغرات التي ليس بوسع راوٍ غير عليم أن يعرفها. مع هذا، يشعر القارئ بأن ألفة النص لا تتغير بالانتقال من صيغة المتكلم إلى صيغة الغائب، لأن الألفة تكون قد سبق وتأسست بقوة في القسم الأول، وأنوات الشخصيات باتت واضحة إلى حد ما، بحيث لا يعدو الانتقال إلى الغائب كونه إجرائياً؛ لا أحد فعلياً يغيب. من ناحية أخرى، ومع أن الحكاية تجري في زمن حاضر، تستمر الشخصيات، أو السرد، بالانعطاف قليلاً نحو الماضي، لتزويدنا بما ينقص من خلفيات اجتماعية ونفسية. ويبدو هذا الانتقال سلساً للغاية وملتحماً بالنص الحاضر بحيث لا يسبّب انقطاعاً في مجرى السرد. على سبيل المثال، تنتقل عالية من توصيف حالتها الحالية "الآن أنا منسية. وحيدة في عتمة قبر"، إلى الحديث عن موت والدها في سوريا، كما تنتقل من حديث مع باها عن الغضب إلى ربط الغضب بما جرى في مدينتها (درعا) عام 2011.

كذلك، يتسرب إلى القارئ الشعور أحياناً بأن الرواية مكتوبة بلغة أجنبية. وعلى الرغم من أن هذا قد يُعتبَر عيباً في روايات أخرى، إلا أنه هنا تقنية أُحسِن استخدامها. فهذا الإحساس بأجنبية النص ناتج عن تبييئه؛ بمعنى أن هذه الرواية التي تجري أحداثها في بلدان أجنبية تتخذ صبغة تلك البلدان وبيئتها، تصبح مغتربة مثل شخصياتها، وتنصهر في المكان والزمان اللذين تحدث فيهما. وهي تقنية تتضح أيضاً في تغيّر لغة الشخصية بتغيّر جنسيتها، فالشخصية الأجنبية تتحدث بالفعل مثل شخص أجنبي، في حين أن الشخصية العربية لها مرجعية تفكير عربية وتتحدث بمنطق العرب، وهو ما يتضح برغم السياق الأجنبي أو "المؤجنب" سردياً. 

الدوران حول المجاز 

تقول الرواية على لسان نيمو: "حين أرى قطة تعبر الشارع أشعر بالأسى. أسى ممزوج بسخرية لئيمة. ما الذي تجده قطة في الجانب الآخر من الطريق ولن تجده في جانبها؟" وبهذا، توضّح الرواية المجاز المُضمَّن في العنوان، تفسّره وتعرّيه، على نحو مباشر، كما لو أنها تقول: أيها القارئ، لا تفكر كثيراً، هذا هو معنى العنوان، ومجاز الرواية الأساسي. ينطوي هذا المجاز على قسمين: القطة والعبور، وهما دائما التكرر في الرواية، ما يجعل من الممكن وسم الرواية بأنها: رواية مخلصة شديد الإخلاص لمجازها. ففي كل مرة يحتاج الكاتب، الراوي، أو الشخصيات، إلى استخدام تشبيه ما، يكون المشبّه به هو القطط. "لعلي تلك القطة التي لم تجد على الجانب الآخر من الطريق ما لم تجده على جانبها" تقول نيمو. "يبدو أني قطة لم تغادر مكانها منذ فترة طويلة"، "ما زلت محدقاً كقطة تترقب"، يقول ميشيل. وتقول الرواية: "لم تعد أولغا عجوزاً وحيدة تبحث عن سلوى بتربية القطط"، عالية "كانت تشعر تجاه ميشيل شعور من اشترى قطة من متجر الحيوانات الأليفة متجاهلاً أن للقطة أمّاً وبعض الأشقاء"، "تبعت عالية قطة كانت تبحث بين بقايا الخضروات عن شيء تأكله". 

ويبدو من هذا أن الرواية غير خائفة من تكرار مجاز القطة أو من الإصرار على حضورها المادي والمجازي، غير خائفة من التسبب بملل القارئ أو استنكاره، بل حازمة في قولها: هذا الحيوان هو مركز روايتي بكل تمظهراته، وحوله سأدور.

أما الشق الثاني من المجاز فهو العبور، وهو أيضاً متكرر ومفسَّر ومركَّز عليه. وكما لو في مسرحية بريختية، تكسر الرواية الجدار بينها وبين القارئ وتهديه تفسير مجازها على نحو متكرر ومباشر وعلى لسان عدة شخصيات. علاوة على ذلك، يحضر العبور بعدة معانٍ، مكانية، زمانية، مهنية، ميتافيزيقية، ونفسية. المعنى الأبرز للعبور في الرواية هو العبور المكاني (من بلد إلى بلد)، لا سيما أن الغربة هي ثيمة أساسية في الرواية. تعبر عالية من سوريا إلى بيروت ومن ثم إلى بازل في سويسرا هرباً من الحرب وبحثاً عن الأمان لها ولإبنتها، وربما بحثاً عن ذاتها التي تظل طوال الرواية مضطربة. تعبر نيمو من أميركا إلى بيرن ومن ثم إلى تونس بحثاً عن مرفأ: "أبحث عن هروب ناجح" و"غياب تام". يعبر باها من مصر إلى باريس بحثاً عن عمل. تعبر أولغا وزوجها إلى باريس هرباً من الإشعاع في روسيا البيضاء. يعبر ميشيل من نيم إلى باريس إلى بيرن إلى باريس ثم مرة أخرى إلى بيت العائلة في نيم في الجنوب الفرنسي. كذلك نقرأ عن شخصية زيلما، وهي شخصية دائمة التنقل والعبور (يلتقيها ميشيل في فندق وفي محطة قطارات).

ثمة أيضاً العبور المهني (من وظيفة أو انتماء إلى آخر) وينطوي هذا عادة على تغيّرات نفسية في الشخصية. على سبيل المثال، يعبر ميشيل من الفوضوية إلى الانتماء إلى حزب اشتراكي وعمل في استديو، ثم يترك كل هذا راغباً في حالة لا انتماء، لا تقييد، ويتجه صوب عالية. ويرفض باها العودة إلى عمله(الأمان الوظيفي)، ويفسَّر كذلك كنوع من العبور: "كانت إشارة المرور مغلقة أمام المارة، لكنه رغب في المجازفة بعبور الطريق، فعبره".

وهنالك أيضاً العبور العاطفي النفسي. على سبيل المثال، تفشل علاقة أولغا وماري لأسباب عبورية: "علاقتهما معقدة للغاية لأنهما عبرتا الطريق وكل منهما ترغب في شيء غير الأخرى". ويعبر ألكسندر، زوج أولغا، ميتافيزيقياً، من الحياة إلى الموت، "مات وهو يعبر الشارع" فعلياً، "تركني وعبر الطريق"، تقول أولغا. 

وثمة كذلك العبور السردي الدائم من الحاضر صوب الماضي من خلال التذكر والفلاش باك (استحضار الماضي). وفوق ذلك كله، تنطوي رحلة جميع الشخصيات تقريباً على عبور نفسي، داخلي، من ونحو أبعاد أخرى من ذواتها، لا سيما حين تتخذ موقف القطط، وتعبر إلى جانب آخر.

مثل سرب نمل

يمكن بمحاولة تصنيفٍ عامة فرز الشخصيات إلى رجال ونساء، مع ملاحظة الحضور الأنثوي الطاغي. يعود هذا ربما لشعورنا الدائم بأن السرد وكثير من الشخصيات مربوطة بعالية، وتتكشف مع اقترابها منها، وإن كانت بعض الشخصيات تتكشف بفعل الحوار مع ميشيل. يأتي هذا الشعور أيضاً من قوة شخصية أولغا، ومن وجود شخصية "سهيلة"؛ وهي شخصية قوية متحكمة بالمصائر، ففي يدها مصير عمل عالية، باها، وأولغا، وما يفعله فرنسيس، مدير دار النشر. مع هذا، فإن معظم الشخصيات مضطربة، حائرة، تبحث عن مرفأ، ويتبدى ضعفها في كثير من المواقف.

كذلك، بمحاولة تصنيف أخرى، نرى أن الشخصيات ليست منتمية إلى جنسيات مختلفة وحسب، بل تتقاسم الانتماء إلى الديانات السماوية الثلاث أيضاً؛ فثمة شخصيات مسلمة، مسيحية، ويهودية. وسواء تعزَّز هذا الانتماء بممارسة شعائر أم لا، تتعمد كثير من الشخصيات تحديد هويتها الدينية، أحياناً من دون داعٍ، لا سيما مع كونها أحياناً لا تتصرف وفق ما تحدده من انتماء مذهبي، عالية مثلاً.
كذلك، تتنوع وظائف الشخصيات وطرق تفكيرها، وهي في تمايزها ترسّخ استقلاليتها السردية وعدم انطباعها بطبع كاتب الرواية أو لغته، كما يحدث في كثير من الروايات. 
مع هذا، ورغم كل هذه الاختلافات، يتسرب إلينا عموماً شعور بانتماء توحيدي يجمع الشخصيات؛ وتوحيدي هنا بمعنى محاولة تجميع كل الشخصيات أو معظمها في انتماء إنساني أو عالمي واحد، أو صهرها معاً في بوتقة واحدة، هي بوتقة الغربة أو الاغتراب أو اللجوء. وكثيراً ما ترد عبارات تدل على توجه الرواية التجميعي، ربما في محاولة لخلق إطار عالمي شامل ومتجاوز للانتماءات الفردية: "ينتهي البشر إلى أن يكونوا متشابهين بدرجة بائسة. لو أمكن لكائنات أرقى أن تراقبنا لخرجت بانطباع وحيد. غالباً الانطباع نفسه الذي نكتسبه جراء متابعتنا لسرب من النمل". "كلنا سوف نموت". "لكل منا موطن أصلي..لكن هذا لا علاقة له بأي شيء". "يجنبنا ذلك الشعور بأن تعاستنا متشابهة"، وغيرها من العبارات.

من بين الشخصيات، تبرز أيضاً شخصية ليلي، ابنة عالية. وكما جميع الأطفال، تكثر ليلي من الأسئلة، لكن أسئلتها كاشفة وعميقة، وهي تجبر محدثيها (ميشيل غالباً) والقارئ، على التوقف قليلاً والتفكير لإيجاد جواب. كما أن بعض أسئلة ليلي يمكن توسيعها لتشمل كل الشخصيات، ولتغدو، بالتالي، أسئلة الرواية ذاتها؛ أسئلة من قبيل "هل نحن حقيقيون؟" أو "من أين أنا؟" وغيرها. يمكن القول إذاً أن ليلي، التي تنقلت في سنوات عمرها الأربع، بين أكثر من بلد، والتقطت عدة لغات، وعدة انتماءات، تمثّل أيضاً المنحى العالمي العولمي للرواية؛ بمعنى الانتماء للعالم أو للإنسانية. وهي كذلك، وكما هو وجود الأطفال عادة في الروايات، تمثّل المستقبل. فمقابل الشخصيات الراشدة التي تستمر بالعودة بالذاكرة إلى ماضيها، حضور ليلي هو حضور في الحاضر، وبالتالي منفتح نحو المستقبل.

قططٌ أخرى

من بين الأفكار الأخرى التي تحضر حضوراً عابراً، إنما مركّزاً في الرواية، ثيمة الغضب. توصف عالية منذ البداية كامرأة غاضبة "امرأة غاضبة..رجل ضجر"، ويستمر هذا التوصيف بالحضور على لسان الشخصيات الأخرى؛ ميشيل، أولغا، امرأة في القطار، وغيرهم. ثم تتسع فكرة الغضب دلالياً لتشمل بلدان وامتدادات نفسية. "كانت الموضة أن نكون غاضبات فكنّا"، تقول المرأة في القطار واصفة جيلها، لكن "أنتِ غاضبة حقيقية"، تقول لعالية. وتقول عالية في سياق آخر: "أن تغضب معناها أنك ما زلت محتفظاً بأمل ما. يمكنك حين تغضب أن تقاتل"، لتنتقل من هذه الجملة إلى تذكر انطلاق بداية الحرب السورية. 

الأحداث السورية هي أيضاً واحدة من المواضيع التي تعرّج الرواية عليها إنما من منظور إنساني محايد. بمعنى آخر، نقرأ عن انطلاق شرارة الحرب من خلال حادثة ترويها عالية، من دون أن تصطف هي، أو الرواية، إلى جانب أي طرف، ومن دون الانزلاق إلى أي تحديدات أيديولوجية أو مانشيتات إخبارية. كل ما تقوله الرواية، عن وعي غالباً، هو أن هذا الإنسان شهد هذه الحرب وهرب طلباً للأمان. بالتالي، رؤية عالية/الرواية هي رؤية إنسان شاهد بيته يتهدم، ولا يعرف أكثر من ذلك؛ لا يعرف لماذا أو من هو المسؤول، وإذا ما قرر لوم أحد، فهو يختار لوم الجميع.

أخيراً، لا تغفل الرواية عن تناول ثيمة الكتابة ذاتها، متسائلة مثلاً من أين تأتي الأفكار إلى الكتّاب، وما هو الأدب الحقيقي. كما أنها لا تكتفي بأن توضح ماهية ذلك الأدب من خلال محاولتها الإندراج فيه، بل تقدم إجابة محددة: "لا التفاؤل التام ولا التشاؤم التام يمكنه أن يصنع كاتباً جيداً. التفاؤل التام أو التشاؤم التام كان يعني القدرة على طرح إجابات واضحة وباتّة ونهائية لكن الأدب الحقيقي هو الأدب الذي في مقدوره طرح أسئلة فقط". 

ومع ختام الرواية، نجد أن هذا ما تفعله "كقطة تعبر الطريق" بالفعل، لأنها إلى حد كبير تترفع عن تقديم أجوبة باتّة، حتى فيما يخص مصائر الشخصيات. وهي، بنهايتها شبه المفتوحة(لحظة سكينة)، ربما تريد أن تقول أن العبور دائم ومستمر، وليست ثمة من جهة أخيرة؛ بل ثمة قطط على هيئة بشر، أو بشر على هيئة قطط، يعبرون من رصيف إلى آخر إلى ما لا نهاية.