ليو تولستوي: عبقري مليء بالصراعات والتناقضات

يستقي الكتاب معلومات من مصدر جديد قلّما تم تناوله هو المراسلات بين زوجة تولستوي صوفيا وأختها تاتيانا، وهي مراسلات تكشف الكثير.

  • كتاب
    كتاب "ليو تولستوي: حيوات عصيبة" للكاتب الروسي أندري زورين.

من المعروف طبعاً أن حياة تولستوي وأعماله موثقة بوفرة في كتب كثيرة بعشرات اللغات تناولت حياته وأعماله؛ سير ذاتية، دراسات، يوميات، ومذكرات كتبها تولستوي، عائلته أو أصدقاءه. وغنّي عن القول إن كتابة سيرة ذاتية عن تولستوي أمر يثير الفزع والرهبة، ولا سيما أن آلاف الكتب سبق ووضعت كل تفصيل من حياته وأعماله تحت المجهر، ولم يعد في أرشيفه أي كنوز مخبأة. ولذلك لا بدّ أن نتساءل: إذا كانت لدينا رفوف كثيرة تميل بثقلِ كتب تولستوي وكتبٍ عنه، هل نحن بحاجة إلى سيرة ذاتية أخرى؟ إذا كانت السيرة الذاتية الجديدة هي تلك التي كتبها أندريه زورين، فالإجابة هي: نعم.

صدر كتاب "ليو تولستوي" من سلسلة "حيوات شائكة" بالإنكليزية أول الأمر عام 2020، عن دار رياكشيون ""Reaktion Books، ثم تُرجِم من قبل المؤلف ذاته إلى الروسية عام2021. ووصل إلى القائمة القصيرة لجائزة بوشكين هاوس لعام 2021 وهي الجائزة التي تٌمنَح للأعمال الروسية غير الروائية. 

أندري زورين مدرّس للغة الروسية في جامعة أكسفورد، وهو مؤلف لكتب عدة تتناول الأدب والثقافة الروسيتين منها "الاختراع الذاتي للنخبة الروسية". 

إحدى ميزات كتاب "ليو تولستوي" هي اقتضابه. ففي حين أن السير الذاتية الأخرى تنافس روايات تولستوي في طولها، سيلقى هذا الكتاب المتوسط الحجم (حوالى 200 صفحة) ترحيب الذين يريدون أن يعرفوا المزيد عن الكاتب الروسي الأسطوري من دون التزامٍ بكتاب يحتاج إلى وقت قراءة طويل. هذا الكتاب أيضاً يفيد من مصدر جديد قلّما تم تناوله هو المراسلات بين زوجة تولستوي صوفيا وأختها تاتيانا، وهي مراسلات، وفق زورين، تكشف الكثير.

يأخذنا هذا المجلد النحيل في جولة جديدة عبر حياة تولستوي وأعماله متناولاً ذلك بسعةٍ من المعرفة. ويتألف من أربعة فصول تمثّل فترات زمنية في حياة تولستوي، أعماله، تركيزاً على مسألة معينة، والأدوار التي لعبها تولستوي: يتيم طموح، عبقري متزوج، مرشدٌ ديني وحيد، شخصية مشهورة لاجئة. لكن زورين يظهر لنا في هذا الكتاب أن تولستوي، على الرغم من تجسداته المختلفة، كان متماسكاً ومنسجماً مع ذاته على نحو لافت، حتى أنه كان أحياناً منسجماً مع حربه الداخلية، حرب المعتقدات والرغبات المتصارعة. لقد تصارع تولستوي مع فكرة تطوير الذات في محاولته لأن يغدو أقرب للإنسان المثالي من وجهة نظره. فقد كان يشعر دوماً أنه لم يرقَ إلى مستوى المعايير التي وضعها لنفسه وكان واثقاً من البداية أنه لن يحققها. مع هذا، كان تولستوي يعرف، وفقاً لزورين، أنه كلما تطور المرء، ازداد تعقيد وتطور أفكاره عن الكمال.

عندما سُئل زورين عن سبب كتابته سيرة تولستوي، قال: "لقد كنت معجباً جداً بتولستوي منذ كنت في الواحدة والعشرين من عمري. لكني لم أتجرأ يوماً على دراسته لأن المادة بدت لي شديدة التعقيد، كما أن مكتبات من الكتب العظيمة قد كُتبَت عنه. واعتقدت لزمن طويل أني سأفعل ذلك لاحقاً. ثم أدركت أني إذا أردت فعل ذلك، فعليّ أن أبدأ. تحديداً في ذلك الوقت، جاء الناشر إليّ بهذا الاقتراح العظيم". 

إن كتاب زورين يحقق أقصى ما هو متوقع من كتب السيرة الذاتية؛ فهو يخلق صورة متماسكة لشخصية تولستوي الكليّة. كما أنه لا يعود إلى الثنائية المعتادة التي تضع تولستوي الفنان قبالة تولستوي المفكر. ووفقاً لهذا السرد، اتجه تولستوي إلى الوعظ المفرط بعد إنهاء روايتيه "الحرب والسلم" و"آنا كارنينا"، خانقاً عبقريته الفنية تدريجياً. وكان هو ذاته مدركاً لهذا الصراع الداخلي و"قام بحلّه" لاحقاً في حياته من خلال شجب معظم الفن والأدب الأوروبيين اللذين تضمنهما أدبه. لكن، وفي حين كان الكثير من الباحثين تواقين لاتبّاع هذا الإطار الثنائي، يكتب زورين هذه السيرة ضد ذلك التوجه. فهو يقدم تولستوي على أنه مجموعُ نشاطاته المتعددة: الأدب، الكتابات غير الأدبية، المراسلات، التعاليم الشفهية، الكتابات الدينية، الأفعال المباشرة، وحتى الشجارات العائلية. 

وفي حين أن طريق تولستوي يبدو مليئاً بالانتقالات غير المتوقعة من حالة قصوى إلى أخرى، يُظهر كتاب زورين أن كل منعطف كان مجرد تجلٍّ للمنطق الداخلي لوجوده. وعلى ضوء هذا، تبدو الأزمة الروحية التي مر بها تولستوي عام 1878، عندما رفض كل قيمه السابقة تقريباً، غير مفاجئة: لقد كان ذلك التحول تتويجاً لحالة بحث دائم عن معنى الحياة والموت، انعكاساً ذاتياً عميقاً، وتشككاً دينياً.

عندما وصل تولستوي الشاب إلى موسكو عام 1851، كان قد وضع لنفسه ثلاثة أهداف: أن يقامر، أن يتزوج، وأن يحصل على عمل؛ وقد تمكن في ذلك الوقت من تحقيق الهدف الأول فحسب. لقد كانت حياة هذا الكاتب مليئة بالتوقفات الاضطرارية والمغادرات المفاجئة: وفاة والديه، تركه الجيش والتعليم، أزمته الروحية العميقة، تركه الكنيسة الأرثوذكسية، وتخليه عن طبقته الاجتماعية، بالإضافة إلى محاولاته العديدة لهجر الأدب؛ تلك التي كانت تنتهي كل مرة بعودته إلى الكتابة. وفي هذه السيرة الذاتية الأصيلة والشاملة يجمع زورين ببراعة هذه الأجزاء الكثيرة لحياة أحد أعظم الروائيين. ويقدم توصيفاً تجديدياً لمشاعر تولستوي الأكثر عمقاً، وعواطفه، ودوافعه، كما تظهر في دفاتر يومياته الشخصية ورسائله، بالإضافة إلى تأويلٍ ألمعي لأعماله الرئيسية، بما فيها أعماله التي تتناول المجتمع الروسي "الحرب والسلم" و"آنا كارنينا"، وكتاباته الفلسفية المهمة.

يتحدث زورين أيضاً عن كتابة تولستوي التي تناولت ذكريات طفولته قائلاً: "انتقل تولستوي إلى العمل على إعادة بناء أفكار، مشاعر، وتصورات صبي في العاشرة، وهي إحدى المحاولات الأولى من نوعها في الأدب العالمي. وبوضع كتابته تلك على الحد الفاصل الرفيع بين السيرة الذاتية والتخييلية، تمكن من تقديم تجربته الشخصية على أنها عامة من دون إفقادها الأصالة. ولاحقاً، ستغدو هذه التقنية علامة لا تخطئها العين في سرديات تولستوي". 

علاوة على ذلك، استخدم تولستوي عائلته وأصدقاءه كنماذج لشخصياته التخييلية. غير أن تلك الشخصيات، وبينما كان يعيد الكتابة ويحرّر، كانت تتخذ حيواتها الخاصة. في نسخة مبكرة من "آنا كارنينا"، على سبيل المثال، كانت آنا، كما يقول زورين: "حيواناً شهوانياً، ليست فاسدة أخلاقياً بقدر ما هي لا أخلاقية بفطرتها. وكانت الشخصيات الأخرى ترى أن شيطاناً يسكنها، قوة شريرة، أو، وفق المصطلحات الشوبنهاورية، إرادة الحياة". لكن، مع إعادته كتابته للرواية، جعل تولستوي الأمور أقل مباشرة. لأنه، وفقاً لزورين، إذا كانت إرادة الحياة أو "قوة الحياة" كما أسماها تولستوي في بداية أحد الفصول، لا تُقاوم، فكيف يمكننا أن نلوم آنا؟ 

من ناحية أخرى، فإن الانشغال بالجنس والموت هي من المواضيع التقليدية التي تتناولها عادة السير الذاتية عن تولستوي، وهذه السيرة لا تخرج عن تلك السردية سوى في بعض الفروق الدقيقة. يُظهر زورين تولستوي كمفترس جنسي كره نفسه بسبب شهوانيته تلك وكان يسعى جاهداً لاجتثاثها. كما تناول زورين زواج تولستوي الذي هو من المواضيع الأثيرة لسير حياة تولستوي. وصفت بعض السير الذاتية دراما زواج تولستوي بالتفصيل، مُظهرةً الرجل الذي ألقى مواعظ عن الحب، كطاغية في منزله، وكارهٍ للنساء. في حين أن بعض السير الأخرى ألقت اللوم على صوفيا، زوجة تولستوي، وسير أخرى أظهرت أن كلا الزوجين كانا قاسيين، انتحاريين ويستحقان الشفقة. أما في هذه السيرة الجديدة، وعلى الرغم من أن زورين لا يُظهر انحيازه إلى أيٍّ من الزوجين، فإن صورة تولستوي كزوج ورب أسرة فاشل هي الانطباع الأقوى الذي يتركه هذا الكتاب. 

أما بالنسبة لثيمة الموت، فإن زورين يغيّر اللهجة المعتادة التي تركزّ على رعب الموت وينتقل إلى الحديث عن إجلال تولستوي وافتتانه به. فعلى الرغم من أنه كان على تماس مع الموت حين مات أقاربه وأطفاله، وهذا ما استنزفه عاطفياً، فقد رأى تولستوي موته كلحظة متجاوزة من التجلّي الأخير وعبّر عن رغبته بالبقاء واعياً أثناء احتضاره، وهي أمنية لم تتحقق.  

واحدة من ميزات هذه السيرة الذاتية أيضاً هي أن زورين، كمؤرخ ثقافي وباحث في الثقافة والأدب الروسيين، جلب معرفته الغنية عن حياة روسيا السياسية وهوياتها، وتوجهاتها الفلسفية، الاجتماعية، والدينية، إلى مهمته هذه. فهو مثلاً يضع فوضوية تولستوي في سياقها: "لقد كان تولستوي معاصراً لـِ، ومن ذاتِ بلد، الشخصيات البارزة في تاريخ الفوضوية الأوروبية مثل ميخائيل باكونين وبيوتر كروبوتكين. وكان الثلاثة مفكرين أرستقراطيين بحثوا عن المُثُل في حياة كومونات الفلاحين الروس". ما كان كثير الأهمية لتولستوي أيضاً، وفق سيرة زورين، كان المتسكعون بأعدادهم التي لا تُحصى، الحجّاج، والشحاذون الذين تركوا جميعاً بيوتهم وقراهم ليبحثوا عن الله.

في كتاب "ليو تولستوي" هذا نتبع تولستوي وهو يخوض في كتابة رواياته وكتاباته الأخرى _تعامل زورين الجاد مع بحوثه ومواده التعليمية مثير للاهتمام_ متوقفاً قليلاً ليحاول فهم الوضع السياسي أو القيم الثقافية الروسية، مُتجهاً بعناد وحتمية نحو نهايته في محطة القطار في أستابوفو. في الواحد والثلاثين من تشرين الأول / أكتوبر من عام 1910، ترك تولستوي منزله وغادر مع مجموعة من الرفاق مبتعداً عن عائلته وكل ما يقيّده، لكنه مرض خلال رحلة القطار ونزل في محطة أستابوفو. كانت ساعات تولستوي الأخيرة أشبه بمسرحية هزلية تراجيدية، وتنطوي على تناقض جديد وأخير في حياته. لقد كان تولستوي ضحية شهرته، وحُرِم الخصوصية حين كان في أمس الحاجة إليها. كتب زورين: "خلال يوم واحد، أصبحت محطة القطار الصغيرة المصدرَ الرئيسي للأخبار العاجلة للعالم كله من اليابان إلى الأرجنتين. مراسلون صحافيون، مصورون فوتوغرافيون، مصورو أفلام، مسؤولون حكوميون، رجال شرطة، معجبون، وفاغرو أفواه فضوليون، بدأوا يتزاحمون إلى محطة أستابوفو. إن رحلة تولستوي الأخيرة جلبته أكثر إلى دائرة الضوء. وبينما كان يحاول أن يتجنب تقدّم الحداثة، ساهم في انتصارها صانعاً واحداً من أوائل الأحداث الإعلامية العالمية". لو عرف تولستوي ذلك، لكان كرهه، بالتأكيد.

عندما سُئل زورين كيف يصف تولستوي أجاب: "لتولستوي إرث فني، لكنه كان أيضاً مهماً جداً فلسفياً. لقد كان جذرياً جداً في فوضويته ورفضه لسيادة القانون أو أي حق للدولة بالحكم. كان لديه آلاف الأتباع. وإسهامه الأكثر أهمية في الثقافة العالمية هو شخصيته ذاتها، بحثهُ عن الكمال الشخصي. إن أعماله لا تعكس حياته وحسب بل تشكّلُ تلك الحياة". لقد كان تولستوي "التجسيد المثالي للثقافة الرومانسية، في موقفه تجاه نفسه وتجاه الحياة".

أخيراً، إذا كنا لا نزال نتساءل عن أهمية كتابة سيرة جديدة لتولستوي، فإن زورين ينبّهنا إلى أهمية العودة إلى تولستوي في أيامنا هذه لأننا نشهد صحوة الكثير من أفكاره التي كانت تبدو لزمن طويل هامشية: النباتية، اللاعنف، حب الطبيعة، الانتقال إلى أسلوب حياة أكثر بساطة، رفض تام لتدخل المؤسسات الرسمية في حياة البشر، وغيرها.

ترجمة وإعداد: سارة حبيب