مزرعة الحيوان: نص أدبي كتب لهجاء الثورة الروسية

خطّ جورج أورويل "مزرعة الحيوان" بدقة النقاش الماهر وبذكاء لامع يجعل القارئ في متعة وحالة من النشوة وهو يفك رموز الرواية ويكشف اللثام عن أسرارها، فيعرف كنه الماضي ويتحسّس الحاضر ويتوجّس المستقبل.

  • رواية
    رواية "مزرعة الحيوان" لجورج أورويل

للاستبداد أبجديات ضاربة في عمق التاريخ، لا تعرف تجديداً أو تغييراً، تعيد نفسها بشكل دائري، ومن الغريب أن الجماهير، إلى عصرنا الحاضر، وفي كلّ مرة، تنخدع وتنصاع، بناءً على القواعد والمعادلات نفسها وكأننا أمام نسق رياضي. بل ازداد التحكّم في عصرنا أكثر مع امتلاك السلطة لأدوات المراقبة، بعدما كانت الجماهير مهمّشة في العصور التي خلت، عرف القرنان السابقان تحوّلات جعلت للشعوب صوتاً وآليات للتعبير عن رأيها، إلى أن وصلنا عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى حالة من شيوع الإدلاء بالرأي والسجالات والحوارات عن كل صغيرة وكبيرة في كل مناحي الحياة. 

لكن الظاهر خادع، فلن تترك السلطة هذا التحوّل من دون إحكام قبضتها عن مصدر الرأي، فيتم التلاعب في الآراء المشاعة، وتتحوّل أفكار دون أخرى إلى أفكار ذائعة الصيت بين الناس فتتداولها كأنها أفكارها وتدافع عنها بل وتتقاتل من أجلها. ومرة أخرى بالقواعد والآليات التليدة نفسها. لقد كانت السلطة أكثر استعداداً لمواجهة ما أشار إليه غوستاف لوبون في "سيكولوجية الجماهير":

إننا نجد أن نضال الجماهير هو القوة الوحيدة التي لا يستطيع أن يهدّدها أي شيء. وهو القوة الوحيدة التي تزداد هيبتها وجاذبيتها باستمرار. إن العصر الذي ندخل فيه الآن هو بالفعل عصر الجماهير.

اقرأ ايضاً: أورويل يقترح علينا إعداد كوب شاي لطيف

قليلاً ما يجد المرء نفسه أمام إبداعات كاتب تتنهّد بعد قراءته قائلاً: آهٍ! لو قرأته البشرية جمعاء لكان كفيلاً بإحداث رجّة في الوعي الجمعي. من بين هؤلاء يقف الكاتب والمفكّر والصحافي "جورج أورويل" بسمو الملتزم والناشط، هو شخصية استثنائية سبرت أغوار الإنسان والعالم الذي تطوّر فيه. كتاباته ما زالت تثير النقاش والتساؤل كأنها وليدة اليوم، لأنه خطّها بريشة المبدع المتبصّر وصاغ بذكاء متقد مظاهر الوحشية من استعمار وفاشية وإمبريالية واستعباد الطبقة العاملة، فثار على أبناء طبقته البرجوازية ورفض الاستبداد وفضّل الفقر والكتابة ومصاحبة المسحوقين والمشرّدين من الناس، وكان له كتاب في ذلك "متشرداً في باريس ولندن".

بحلول سنة 1945 ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية، خرجت رواية جورج أورويل "مزرعة الحيوان" إلى الوجود. وكانت بمثابة حكاية رمزية أبطال أحداثها حيوانات حظيرة في إنكلترا. وقد عبّر أورويل بنفسه، في رسالة إلى الكاتب الأميركي دوايت ماكدونالد، بأن رواية "مزرعة الحيوان" هي نص أدبي كتب كهجاء للثورة الروسية، موضحاً:

"بالطبع ، تصوّرت الكتاب في المقام الأول على أنه هجاء للثورة الروسية. ولكن في رأيي كان هناك تطبيق أوسع حيث أردت أن أظهر أن هذا النوع من الثورة (ثورة عنيفة نفّذت كمؤامرة من قبل أشخاص غير مدركين لكونهم متعطشين للسلطة) يمكن أن يؤدي فقط إلى تغيير السادة. العبرة في ذلك هي أن الثورات لا تؤدي إلى تحسين جذري إلا إذا كانت الجماهير يقظة وتعرف كيف تطرد قادتها بمجرد القيام بمهامهم."

اقرأ أيضاً: (الاختراق العظيم).. ليس "الأخ الأكبر" وحده من يراقبنا

لقد حدّد أورويل في هذه الرسالة جوهر الفكرة، وهذا ما سيتضح بجلاء في أحداث القصة، وكيف ستنقلب الثورة على مبادئها، وكيف سيتم تحريف وتزييف الحقائق، ومع الصمت الذي يصاحب ضياع أول مكتسب، تتوالى سقوط المكتسبات والحريات، وما إن تستيقظ الجماهير حتى تجد أن طوق الاستبداد قد ثبّت قيوده حول عنقها بإحكام. فتنتقل من استعباد باسم الحكم الإلهي أو السلطوية إلى استعباد باسم ثورة خانت مبادئها.

العجوز ميجر "أب الثورة":

في أحد الأيام، استدعى الخنزير العجوز ميجر حيوانات مزرعة القصر إلى الحظيرة، ليحكي الحلم الذي راوده في منامه وينقل إليها الحكمة التي اكتسبها على مر السنين. وفقاً له، لا يوجد حيوان في إنكلترا سعيد. وهذا خطأ البشر الذين يأخذون كل ثمار العمل الحيواني. ثم يصف عالماً خالياً من البشر، ويقترح المزايا العديدة التي يمكن أن تتمتع بها الحيوانات بعد ذلك. وأخيراً يخبرهم عن حلمه وعن النشيد الثوري الذي سمعه في حلمه والذي أطلق عليه "حيوانات إنكلترا". توفي العجوز ميجر بعد ثلاثة أيام؛ بعد أن زرع مبادئ الثورة في قلوب حيوانات المزرعة ووحّدهم ضد العدو الأكبر ألا وهو الإنسان.

إذا أردنا العودة إلى رمزية الرواية في علاقتها بالثورة الروسية، فيمكن أن نعتبر العجوز ميجر بمثابة كارل ماركس أو فلاديمير لينين. فهو أب الثورة ورائد مبادئ "الحيوانية" التي ستختصر فيما بعد إلى سبع وصايا.

قيام الثورة وصراع السلطة:

تدهور الأوضاع في المزرعة، وإهمال صاحبها السيد جونز لعمله، وخمول العمال في القيام بمهامهم إلى حد نسيان إطعام الحيوانات، كلّ هذا أدى إلى تسريع قيام الثورة، وقد كان الجوع وقودها. انتفضت الحيوانات ضد أصحاب المزرعة وقامت بثورتها وتمّ طرد الإنسان وتحوّلت "مزرعة القصر" إلى "مزرعة الحيوان"، وتمّ تدوين مبادئ "الحيوانية" في سبع وصايا، سنتطرّق إليها في الفقرة الآتية، كما تمّ رفع علم المزرعة، فرسم عليه بالأبيض قرن وحافر.

تتضح بجلاء نقط التشابه مع الثورة الروسية وتذكّرنا ثورة الحيوانات التي نجحت في الإطاحة بالمزارع جونز وعائلته بثورة 1917 التي أطاحت بالقيصر نيكولاس الثاني وعائلته. كما يذكّرنا علَم المزرعة الذي يصوّر حافراً وقرناً بعلَم الاتحاد السوفياتي الذي يتخلله المنجل والمطرقة.  

اقرأ أيضاً:  صورة أورويل في حقل قمح.. هدية عيد ميلاده الـ120                             

خلال الثورة وبعدها برز خنزيران وهما "سنوبول" و"نابوليون". ومع مرور الأيام وفي خضم النقاشات والاجتماعات، احتد الصراع بينهما، وقد كان ذلك كصراع "تروتسكي" و"ستالين" بعد وفاة "لينين". وهو صراع دائماً ما يظهر بعد الثورة بين رفاقها في كلّ ثورات التاريخ. ودائماً ما تكون الغلبة للأكثر مكراً ودموية. لقد كان "سنوبول" مهتماً أكثر بمشاريع تنظيمية وتشكيل لجان داخل المزرعة، وعمل جاهداً لكي تعي كل حيوانات المزرعة الوصايا السبع. لم يعر "نابوليون" أي اهتمام بهذه الأعمال ولكنه قام بأخذ تسعة جراء، وأخفاها وقال إنه سيتابع شخصياً تربيتها. 

تعزّزت مكانة "سنوبول" بين الحيوانات بعد حصوله على وسام الحيوان البطل من الدرجة الأولى، تكريماً له على ما أظهره من بسالة وشجاعة بعد معركتهم الأولى مع الإنسان والتي تم الاتفاق على تسميتها بمعركة الحظيرة. 

بلغ الصراع بينهما أشدّه، عند اختلافهما حول ضرورة بناء طاحونة الهواء من عدمه. قد عارض "نابوليون" هذا المشروع وضم إليه كلّ الخراف. صراع بين مشروعين، الأول قائم على النهضة والتطور والابتكار والثاني يتربّص للاستحواذ على السلطة. وهذا ما قد قام به نابوليون، باستخدام الجراء التسع التي صارت أكثر قوة وعدوانية وطاردت "سنوبول" إلى خارج المزرعة، ثمّ حصل الانقلاب عن الثورة باسم الحفاظ عليها وحمايتها.

أسس الاستبداد والديكتاتورية:

استأثر "نابوليون" بالسلطة وسلّط كلابه على حيوانات المزرعة وألغى كلّ النقاشات العمومية كإجراءات أولية. احتجت بعض الخنازير وقالت كلمتها، في حين سيطر الخوف على الآخرين، وارتفع ثغاء الخراف تقديساً لقائدها المعظّم. ولا أخفيك أيها القارئ العزيز، أن الخنازير التي احتجّت ستدفع ثمن جرأتها عن قول الحق، لكن حينما يحين الوقت المناسب ستتقلّص الحقوق وستنجرف الثورة بعيداً عن التطلّعات، وستكثر الانتهاكات. وأمام استغراب الجميع سيأمر "نابوليون" ببناء طاحونة الهواء، وهو مشروع "سنوبول" الذي عارضه بشدة. وما كان لكل هذه الإجراءات أن تمرّ من دون خداع ومكر الخنزير "سكويلر" وهو الذي يمكن أن نعتبره وزيراً للإعلام أو وزيراً للبروباغندا. 

بعد سنّ أيّ قرار من "نابوليون" يخرج "سكويلر" ليزيّف الحقائق، وينتهج سياسة التخوين والتخويف. فوضّح للحيوانات أن الزعيم هو أول من طالب ببناء الطاحونة وأنه هو من صنع تصاميمها. كما أنه أقنع الجميع بأن "سنوبول" عدو وعميل للإنسان، كما تم تزييف التاريخ وقيل إن "سنوبول" لم يكن أبداً بطلاً في معركة الحظيرة بل كان يدفع القطيع إلى حتفه بتواطؤ مع البشر. ومن هذه اللحظة سيصبح "سنوبول" هو المتهم الأول والسبب في كلّ المصائب والأرزاء التي تصيب المزرعة. صناعة عدو سيوحّد القطيع تحت قائده المنقذ الذي يطارد الخونة ويحمي الثورة.  

ودائماً ما يتمّ ربط العدو الخارجي بأطراف داخلية لإيجاد الحجة لتصفيتها؛ فتمّ إعدام الخنازير التي احتجت عندما ألغى نابوليون اجتماع يوم الأحد وتلت ذلك إعدامات جماعية أخرى، بلغ الأمر إلى أن:

تقدّمت الدجاجات الثلاث اللاتي قدن العصيان في قضية البيض، وقالت إن "سنوبول" ظهر لها في الحلم، وحرّضها على عصيان أوامر "نابوليون".

فدبّ الخوف في القطيع، وأكد سكويلر أنّ له أسباباً وجيهة للاعتقاد بأن بعض عملاء سنوبول السريّين يختبئون بينهم. وهي ورقة قائمة تبقيها كلّ الأنظمة الاستبدادية لتصفية كل من يعارض أو حتى يناقش قرار الزعيم. ألم تؤكّد حنا أرندت في كتابها "أسس التوتاليتارية":

أنّ الشتيت الجماعي الذي أصاب المجتمع السوفياتي كان قد تم بلوغه من خلال استخدام حملات التطهير المتكررة استخداماً حاذقاً، إذ كانت غالباً ما تسبق تصفية الجماعات بصورة فعلية.

الانقلاب على مبادئ الثورة:

وبدأ الانقلاب رويداً رويداً على كلّ الوصايا السبع:

1ــــ كلّ من يسير على قدمين هو عدو.

2ــــ كلّ من يسير على أربع قوائم وكلّ طائر هو صديق.

بعد انقلاب "نابوليون":

تمّ ربط الاتصال وتوطيد العلاقة مع الإنسان مرة أخرى، خاصة مع جيران المزرعة السيدين بيلنغتون وبينتشفيلد، عبر وساطة المحامي ويمبر. وتباينت هذه العلاقة بحسب الحاجة والمصلحة، إلى أن تم التوافق مع الإنسان وصاحت الخراف بثغاء عظيم: "الخير في القوائم الأربع، والخير الأكثر في القدمين".

3ـــ يمنع على الحيوان ارتداء الملابس.

4ــــ يمنع على الحيوان النوم فوق السرير.

سيتم الإخلال كذلك بهذه الوصايا، وستلبس الخنازير ملابس الإنسان. كما أنها ستستحوذ على بيت المزرعة بحجة أن الخنازير في حاجة لمكان هادئ للعمل. وتمّ تعديل الوصية بخبث من طرف "سكويلر" إلى: يمنع على كل حيوان النوم على سرير بأغطية.

5ــــ يمنع على الحيوان شرب الخمر.

ما إن اكتشف "نابوليون" الخمرة حتى أصدر عقوبة الإعدام على كل من يحتسيها، ولاحظت الحيوانات أن الوصية تنص على: يمنع شرب الخمر حتى الثمالة.

6ــــ يمنع على الحيوان قتل حيوان آخر.

فقد تغيّرت هذه الوصية بعد الإعدامات، وأضيفت في غفلة من الجميع جملة: "من دون سبب مقبول".

7ــــ كلّ الحيوانات متساوية.

صارت هذه الوصية بالية بحكم الواقع الجديد في المزرعة ليتم إعلان: جميع الحيوانات متساوية، لكن بعضها أكثر مساواة من غيرها.

لقد تفاوتت أدوار الحيوانات الأخرى وعرفت كل واحدة منها قدراً خاصاً، فمثلاً "بنيامين" الحمار الحكيم العدمي، الشكّاك في وعود الثورة، والذي أدرك أن الحياة تعب والموت خلاص، ظل وحيداً ولم ينضوِ تحت أي لواء. وكان الحصان "بوكسر" الذي يعمل ولا يتعب أبداً، رافعاً شعار "سأعمل بجهد أكبر"، رمز العامل الكادح الذي يفني عمره في العمل. 

 خطّ جورج أورويل روايته الرمزية بدقة النقاش الماهر وبذكاء لامع يجعل القارئ في متعة وحالة من النشوة وهو يفك رموز الرواية ويكشف اللثام عن أسرارها، فيعرف كنه الماضي ويتحسّس الحاضر ويتوجّس المستقبل.