"زاربو" والتراث الريفي اللبناني: انطباعيات مائية

"زاربو" حالة فريدة، تذكّر مهاراته واتجاهاته، بأعمال المستشرقين والرحّالة الذين وثّقوا الكثير من مظاهر الحياة الشرقية يوم لم يكن سكانها يدركون أهميةً لذلك، وبات المستشرقون مرجعيّات وثائقيّة تأريخية للكثير من البحوث.

يستضيف "مرسح"- مركز جديد للفنون والمعرفة في مدينة الميناء بطرابلس اللبنانية - معرضاً فنياً للفنان الفرنسي أوليفييه غارو المعروف بــ"زاربو"، بعنوان "عطر السحاب"، بدعم من المركز الثقافي الفرنسي، ومركز المرسى الثقافي. 

أعمال المعرض مجموعة من اللوحات المائية الانطباعية، مستوحاة من تجربة توثيقية وانثروبولوجية في منطقة الشنبوق- إحدى تلال بلدة القبيات الواقعة إلى أقاصي الشمال من لبنان.

مُذَكِّراً بزيارة الشاعر الفرنسي ألفونس دو لامارتين إلى منطقة الأرز اللبنانية منذ أكثر من قرن ونصف، عاش "زاربو" فترة من الوقت في المنطقة، وتردّد على محلّة "الشنبوق"، وهي منطقة مأهولة بريفييين من أبناء القبيات، لا تزال تحافظ على الكثير من تراث وعادات الأرياف اللبنانية التقليدية التي لم يتبق منها إلّا القليل في بعض الجرود الريفية.

وثّق "زاربو" مشاهداته في مجموعة لوحات مستخرجة من كتاب ألّفه من خلال معايشة طويلة يفترض أن تكون استغرقت عاماً كاملاً، لمزرعة تعود لشخصية معروفة في المحلة يدعى هيكل ميخائيل، الذي كافح للبقاء في أرضه في زمن تميّز بالهجرة الواسعة.

نتيجة لهذه المعاينة الطويلة للطبيعة، وحياة السكان، والحياة الريفية الصرف، وضع "زاربو" كتاباً قصصياً عما عايشه، وشاهده. لكنّه شعر بأن الكتاب لا يفي القصص حقها في الانتشار، والوصول إلى الناس، وقال عن معرضه إنه قام بتصميمه في نفس وقت تصميم الكتاب، "فالفكرة العامة التي أدافع عنها هي إخراج قصصي من كتبي".

وأضاف: "الكتب مهمة ولكن لا يستطيع الجميع قراءتها، وربما لا يرغبون في قراءتها، ولذلك من المهم تقديم القصص في مكان آخر، خارج الكتب"، كما قال. لذلك تحوّل المعرض إلى منصّة لنشر القصص، ومعاينة ما جرى أمامه.

سعى "زاربو" إلى إطلاع الجمهور على حالة باتت نادرة من الحياة الريفية اللبنانية، فلخّص المعرض بعض هذه القصص، وحوّلها، وأعادها إلى الحياة بشكل مختلف.

وقال: "استكملت (مشروعي) بموسيقى أصلية لفنانين لبنانيين (ريتا أبو خليل وريتا شهوان وطارق غندور) من توزيع الصديق الفرنسي برونو فيلتون، وتمكنت بعد ذلك من القيام بجولة إرشادية، والإجابة على الأسئلة، والتفاعل مع المشاركين المتحمسين للغاية". 

وتحكي القصة - الكتاب المصورة "عطر السحاب" حكايات مزرعة الشنبوق بطريقة أطول من المعرض في 64 صفحة، وتتضمن أكثر من 180 مائيّة، وتقود القارئ إلى تجوال داخل المنطقة مما يؤدي به إلى اكتشاف جوانب عديدة منها.

وإحدى خصوصيات الكتاب هي أنه يمكن قراءته في الاتجاهين، أو قراءة كل صفحة مزدوجة من اليمين الى اليسار وبالعكس.

والمعرض، كما الكتاب، حالة انطباعية، واقعية متصادقة مع مائيات انطباعيات البدايات الأوروبية، مع اجتهادات شخصية لا بد منها يحافظ فيها الفنان على هويته، واتجاهاته، من دون أن تخلو من عبور على شؤون بيئية أو مشاكل عامة تعاني منها البلاد. 

ويضم المعرض 12 لوحة لوحة مائية - أكواريل، تذكر بأشهر السنة الـــ 12، وبعدد ساعات النهار الــ 12، وتتطرق إلى أماكن ومشاهد وأبنية في مزرعة الشنبوق في عكار، وحول هذه اللوحات الأساسية هناك لوحات صغيرة بشكل مربّع فريد تستمد موضوعاتها من اللوحة الأم التي تحوطها، هي بمثابة شريط كاريكاتوري- "كوميكس ستريب".

وتتمثّل العديد من مظاهر الحياة الريفية ومخلوقاتها بــ "الكوميكس" مثل الزواحف، والطيور، والحيوانات، وعادات مثل حَلْب الماشية، وتقطير العرق بمراحله المختلفة، واللافت فيها أن الفنان استخدم معها كتابات للأصوات تكاد تحوّل اللوحات إلى مشاهد صوتية. أما اللوحات الأساس، الأم، فتُظْهِر كل واحدة بيئة ومناخات الشهر الذي تمثله، فإذا الربيع، مثلاً، زهور وشمس ساطعة، والشتاء ثلوج تكاد تغطي سطوح البيوت، وهكذا بقية اللوحات. 

وشهدت فعاليات المعرض عرض الفيلم الوثائقي "ميّل يا غزيل" بحضور مخرجته إيليان الراهب، وهيكل مخائيل الذي يوثق الفيلم موقعه وأعماله الريفية، مدته 95 دقيقة متتبعاً حياة هيكل اليومية في منطقة الشنبوق.

ومن خلال فصول 4 بموازاة تغيرات الطبيعة التي تقدم مجموعة من الألوان، تُسائل المُخرجة هيكل عن هذا الانتماء للأرض بطريقة متعمِّقة، هي طريقة الراهب التي تأخذ وقتاً طويلاً لإنجاز أفلامها، بأسلوبها المتأرجح ما بين الوثائقي والتحقيق.  كما شهد افتتاح المعرض توقيع كتابه الكوميكس "عطر السحاب". 

ويحكي "زاربو" قصصاً بصرية من لبنان. يهتم بما هو واقعي غير معروف. ويدرك بأن ليس لدى الجميع القدرة على إيجاد الكتب، لذا يعمل على إخراج قصصه البصرية من الكتب إلى المعارض، وعلى شبكات التواصل الاجتماعي، وحتى جدران المدن. 

في العام 2020، أصدر رواية مصورة عن الحَجْر زمن "كورونا"، وعن الانهيار الاقتصادي في لبنان. وفي فترة الحجر الصحي كما عاشها في طرابلس من تشرين الأول/نوفمبر 2023 إلى شباط/فبراير 2024، قام بنشر رواية مصورة على "إنستغرام" بعنوان "الخيار" (Cucumber)  عن الحرب الأهلية الأولى في لبنان 1958، وسيصدر الكتاب ورقياً في تموز/يوليو المقبل.

ويتحضّر "زاربو" أيضاً لوضع كتاب بصيغة "الكوميكس ستريب" لحياة أهل طرابلس.

"زاربو" حالة فريدة، تذكّر مهاراته واتجاهاته، بأعمال المستشرقين والرحّالة الذين وثّقوا الكثير من مظاهر الحياة الشرقية يوم لم يكن سكانها يدركون أهميةً لذلك، وبات المستشرقون مرجعيّات وثائقيّة تأريخية للكثير من البحوث.

ختام المعرض، نهاية الأسبوع، سهرة موسيقية فيها رسم على الشاشة الكبيرة لزاربو، وقراءات شعرية بصوتي أنطوان ضاهر، وآن غارو (عقيلة الفنان)، تواكبهما الموسيقى مع 4 موسيقيين ومغنين لبنانيين هم طارق غندور على العود، ريتا أبو خليل على البيانو، ريتا صليبي شهوان غناء، لويس زيني آلات إيقاعية، والموسيقي الفرنسي برونو فيليتون على الساكسوفون.