آنا أخماتوفا: ثنائيات المكان واللغة والانتماء

طاولت حملة شيطنة كل ما هو روسي الشاعرة الكبيرة آنا أخماتوفا. ما علاقة مكان ولادتها في نفي الهوية الروسية عنها؟ وكيف عبّرت هي عن انتمائها؟

  • تجري محاولات لزجّ أخماتوفا في قالب قومي ضيق بما يتعارض مع اختياراتها
    تجري محاولات لزجّ أخماتوفا في قالب قومي ضيق بما يتعارض مع اختياراتها

في خضمّ الصراع الثقافي القائم على النزعة القومية الأوكرانية، خلال العقدين الأخيرين، حُكِيت قصص كثيرة عن الانتماء الأوكراني لشعراء وكتّاب ومبدعين، من بينهم الشاعرة الروسية الكبيرة آنا أخماتوفا (1889-1966)، التي وصل الأمر ببعض الساسة إلى إطلاق لقب "الأوكرانية العظيمة" عليها. 

من الأسباب التي تُساق أثناء الحديث عن انتمائها الأوكراني، ولادتها بالقرب من مدينة أوديسا، ثم قضاؤها عدداً من الأعوام في العاصمة كييف، من جهةٍ؛ والترهيب الذي تعرّضت له مع عائلتها في ظل حكم الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين، والمآسي التي تشاطرتها مع ملايين المواطنين السوفيات في تلك الحقبة، من جهةٍ أخرى. 

من الواضح أنَّ من يحاول زجَّ الشاعرة في قالب القومية الضيّق لم يقرأ أشعارها، ولم يفكّر ولو قليلاً باختيارها لقب "أخماتوفا" اسماً أدبياً، لما فيه من أبعادٍ أوراسيةٍ رحبةٍ. لكنَّ الأخطر من ذلك يكمن في إلباس الشاعرة لباساً ليس لها، وتحديد علاقتها بالمكان واللغة قسراً، ونيابةً عنها، بما لا يوافق هواها. 

آنا وكييف

  • مدينة كييف خلال بدايات القرن العشرين
    مدينة كييف في بدايات القرن العشرين

ولدت آنا هورينكو سنة 1889 في إحدى نواحي مدينة أوديسا، ثم انتقلت عائلتها إلى تسارسكويه سيلو في العاصمة القيصرية سان بطرسبورغ، حيث قضت طفولتها. لكنَّ كييف لعبت دوراً مهماً في حياتها. 

لم تكن كييف غريبةً على آنا، ولم يكن وجودها في المدينة عَرَضيّاً، فقدت عاشت خالتها فيها، وهذا سبب انتقالها مع أمها إليها. كانت قد زارتها للمرة الأولى حين كانت في الخامسة من عمرها، حين حدث أمرٌ مهمٌّ أشبه بأسطورة؛ إذ كانت تتنزه في الحديقة مع مربيتها حين وجدت بروشاً على شكل قيثارة، نظرت المربية إليها مع البروش، وقالت لها ما تبيّن أنّه نبوءةٌ فيما بعد: "هذا يعني أنّك ستصبحين شاعرة". لكن على الرغم من مرض شقيقها بالدفتيريا، وتعرُّضها لخطر الموت حين وقعت في قفص دبٍّ هناك، إلا أنَّ رأيها بخصوص هذه الزيارة بقي إيجابياً، على عكس زيارتها الثانية للمدينة، التي ترسمها بألوانٍ قاتمةٍ. 

ولدت آنا هورينكو سنة 1889 في إحدى نواحي مدينة أوديسا، ثم انتقلت عائلتها إلى تسارسكويه سيلو في العاصمة القيصرية سان بطرسبورغ، حيث قضت طفولتها. لكنَّ كييف لعبت دوراً مهماً في حياتها.

كانت في السادسة عشرة من عمرها، طالبةً في المدرسة الثانوية، حين اضطرّت للانتقال من سان بطرسبورغ إلى كييف. إذ انهار زواج والديها، فترك الأب العائلة وصرف المال على مغامرته العاطفية الجديدة. كانت آنا مرتبكةً حزينةً في بيت خالتها، عاشت على حافّة الفقر في منزل عائلةٍ ثريةٍ، عليها أن ترضى بالقليل. كانت تأكل بشكلٍ سيئٍ، وتمرض كثيراً فتتغيب عن الفصول الدراسية، ثم توجَّب عليها العمل بدوامٍ جزئي، فغسلت الملابس ومسحت الأرضيات... ومع ذلك أنهت آنا الثانوية بنجاح. 

هناك، في كييف، نَظَمت قصائدها الأولى، التي سيتضمّنها بعد ذلك ديوانها الأول "المساء" (1912). فأصبحت آنا هورينكو المجهولة "آنا أخماتوفا".

لماذا "أخماتوفا"؟ 

  • صورة للشاعرة مع زوجها الشاعر نيقولاي غوميليوف وابنها
    صورة للشاعرة مع زوجها الشاعر نيقولاي غوميليوف وابنها

هناك قصة وراء اختيار آنا لقب أخماتوفا، بدل اسم عائلتها هورينكو. فقد منعها والدها من توقيع قصائدها الأولى باسم عائلتها، وهدَّدها بحرمانها من الميراث. لم تبالِ كثيراً بذلك، فحملت اسم عائلة جدتها التتارية كاسمٍ أدبيٍّ لها. ربما كانت تعتقد أنَّ اسم "أخمات" جاء من أحمد خان، آخر زعماء تتار القبيلة الذهبية.

آنذاك، كان الشاعر الشاب نيقولاي غوميليوف يراسلها، بعدما كان قد التقى بها في تسارسكويه سيلو قبل أن ترحل إلى كييف. طلب يدها للزواج فرفضته ثلاث مرات. حاول نيقولاي الانتحار مرتين، ثم اتجه إلى كييف حيث عرض عليها الزواج من جديد فوافقت، ربما بسبب فقرها ورغبتها في ترك المدينة التي أثقلت عليها.

منع والد آنا ابنته من توقيع قصائدها الأولى باسم عائلتها، وهدَّدها بحرمانها من الميراث، فحملت اسم عائلة جدتها التتارية كاسمٍ أدبيٍّ لها.

تزوج الشاعران في كنيسة القديس نيقولاوس العجائبي. لم يحضر أحدٌ من أقاربهما حفل الزفاف. بعد الزواج، غادرت آنا أخيراً مدينة كييف مع زوجها إلى باريس، كما كان مخطَّطاً.

لم تحب الشاعرة مدينة كييف لما قاسته فيها من شظف العيش، تقول: "عشت حياةً صعبةً جداً في كييف. لم أحب البلد واللغة". لم تحب آنا "الزركشة البرجوازية" هناك. مع تقدُّمها في العمر، اعترفت الشاعرة بأنها لم تكن عادلةً بحق مدينة كييف. 

لم تكتب بالأوكرانية، لكنها ترجمت عنها

  • أهم ما نقلته عن الأوكرانية الدراما الغنائية
    أهم ما نقلته عن الأوكرانية الدراما الغنائية "الأوراق الذابلة" للشاعر إيفان فرانكو

لم تحب أخماتوفا "البلد واللغة"، لكنَّها كانت متمكِّنةً من اللغة الأوكرانية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، والربع الأول من القرن العشرين. تلك اللغة التي كُتبت بها روائع الأدب الأوكراني، بعدما وثَّق عُراها تاراس شيفتشينكو، وشذَّبها من اللهجات المختلفة، ثم بُنِيت على أكتاف إيفان فرانكو وليسيا أوكراينكا وأغاتانغل كريمسكي وآخرين، فصاغوا بها نصوصهم نثراً ونظماً.

لم تكتب أخماتوفا باللغة الأوكرانية، إنما نقلت منها إلى اللغة الروسية جملةً من قصائد إيفان فرانكو، بينها الدراما الغنائية "الأوراق الذابلة"، التي نَظَمها بين عامي 1886 و1896. وقد أتت ترجمتها المنظومة لقصائد فرانكو غايةً في الجمال، تكاد تتطابق مع معاني الأصل بنسبةٍ تفوق 90%، إلا أنَّها صُبغت بروحٍ روسيةٍ، من حيث انتقاء المفردات وتمازج المعاني. 

لم تكتب آنا أخماتوفا باللغة الأوكرانية، إنما نقلت منها إلى اللغة الروسية جملةً من قصائد إيفان فرانكو، بينها الدراما الغنائية "الأوراق الذابلة"، التي نظمها بين عامي 1886 و1896.

وقد قُدِّرَ لي أن أدرس ترجمة هذه الدراما الغنائية، قبل خوضي ترجمة الأصل الأوكراني نظماً إلى اللغة العربية (الأوراق الذابلة – ترجمة منظومة، كييف: دار دوليبي، 2018). يمكن القول إنَّ أخماتوفا الشاعرة، وهي تترجم قصائد فرانكو الشاعر، كانت شريكته في النص، فخرجت الدراما من بين يديها في إطار النمط المأسوي الرقيق النابض بالمشاعر الإنسانية، الذي اتّسمت به أشعارها. هي قصة حبٍّ من طرفٍ واحدٍ، يتدرّج فيها الحبيب من الأمل إلى اضطراب المشاعر، وصولاً إلى اليأس المفضي نحو الانتحار. ويبدو كأن أخماتوفا كانت تُعيد نظمها مضفيةً عليها ظلالاً رمادية مأسوية شخصية، زاحمت في بعض مواضعها مأسوية فرانكو. ربما اختارت من نصوص اللغات الأخرى، ومن بينها الأوكرانية، ما تلاءم مع أفكارها وأسلوبها وموضوعاتها. 

اليوم، بعد 133 عاماً على ولادة الشاعرة، ومع اشتداد حملة شيطنة كل ما هو روسي، على وقع الحرب الدائرة في أوكرانيا، يُستعاد وجه آنا أخماتوفا عبر أصلها الأوكراني المزعوم، من جهةٍ، على الرغم من أنّها عرّفت عن نفسها بأنها "شاعرة روسية"، وعبر الظلم اللاحق بها في الحقبة الستالينية، من جهةٍ أخرى، وكأنَّ الترهيب انتقاها من بين عشرات آلاف الشعراء والكتاب والفنانين والمثقفين والمبدعين، الذين قاسوا الأمرَّين! إلا أنَّ للّه في النزعات القومية شؤون.