"أطفال مسنّون في الغابة": حكايات مارغريت آتوود عن الحب والتقدم في العمر

في "مقابلة مع الموتى"، تقابل آتوود روح الكاتب جورج أورويل التي تُستدعى من خلال وسيط روحاني. وتُقرأ هذه القصة من ناحية كنوع من التكريم، ومن ناحية أخرى كمحاولة تفكيك لنتاج أورويل وشخصيته. 

  • مجموعة
    مجموعة "أطفال مسنّون في الغابة"للكاتبة مارغريت آتوود.

ثمة كتّاب نلجأ إلى قراءتهم لأنهم يتنبؤون بمستقبلنا، وكتّابٌ نحتاج تشخصيهم البارع لحاضرنا، وكتّاب نحبهم لأن بوسعهم تفسير ماضينا. لكن ثمة أيضاً أولئك الخارجون عن السرب: الذين يمنحوننا خطاً زمنياً مغايراً للخط الذي نحن عالقون فيه، كتّابٌ يمنحوننا واقعاً بديلاً عن واقعنا. وإذا كان ثمة من كاتبة قد أثبتت، خلال امتداد مسيرة طويلة وكثيرة التنوع، أنّ بوسعها أن تمثّل الأنواع الأربعة من الكتّاب، فهي الكاتبة الكندية مارغريت آتوود. 

إن آتوود هي بالتأكيد واحدة من أعظم الكتاب الأنغلوفونيين الأحياء اليوم والأكثر نيلاً للاحتفاء. رُشِّحت آتوود لجائزة البوكر ست مرات ونالتها مرتين. كما أن روايتها "حكاية الخادمة" (1985) هي واحدة من الأعمال المؤسِّسة في أدب الخيال العلمي وأحد أهم الأعمال الأدبية في القرن العشرين. 

ومع أن شهرة آتوود كانت غالباً في مجال الروايات (17 رواية)، لكنها أيضاً كاتبة قصة قصيرة استثنائية. وهذه المجموعة القصصية الجديدة تظهر براعتها في الشكل القصير من الكتابة. صدرت مجموعة "أطفال مسنّون في الغابة" في آذار / مارس 2023 عن دار Doubleday (دَبل داي) لتكون أول مجموعة قصصية لآتوود منذ صدور مجموعتها "فِراشٌ حجري" عام 2014. 

تقدّم هذه المجموعة خليطاً مبهراً من القصص التي تستكشف معنى أن تكون إنساناً مع إظهارها مخيلة آتوود الفذة وحس الفكاهة العالي لديها. وهي تتألف من خمسة عشر قصة، سبق أن نُشِر بعضها على نحو متفرق في مواقع صحف مثل نيويوركر، ونيويورك تايمز.

نظرة عامة

معظم الشخصيات في هذه المجموعة القصصية مسنّة، أو تقترب من الشيخوخة، وقصصها تُظهر ما دعاه ت. إس. إيليوت "هدايا مخبأة لآخر العمر". الكتاب مقسّم إلى ثلاثة أجزاء: مجموعة متنوعة من القصص في قسم يحمل عنوان "أمي الشريرة" محشور بين قسمين هما "تيغ ونيل" و"نيل وتيغ". يتألف هذان القسمان، الأول والثالث، معاً من سبعة قصص مترابطة. بالتالي، من المغري النظر إلى هذه القصص السبع باعتبارها تؤلف مجموعة مكتملة، لا سيما أن القصص في المنتصف منفصلة للغاية عنها. 

يدور القسمان الأول والثالث حول حوادث ومواقف من حياة الزوجين "تيغ ونيل"؛ حكاية زواجهما الطويل والمليء بالحب، ما فعلاه وشعرا به، الناس الذين تركوا بصمة في حياتهما، وأثّروا على أفكارهما، بالإضافة إلى المرحلة التالية لموت تيغ وحياة نيل كأرملة وحيدة. 

تنظر قصص هذين الجزئين إلى الماضي، وتنظر إليه بحزن. وهي تبدو، إن أُخِذت معاً، مثل نوفيلا فسيفسائية، أكثر منها مساند أدبية لمجموعة. كما أنها تقدم نظرة عميقة، آخاذة، ونابعة من القلب لتفاصيل الحياة.

أما القسم الأوسط المعنون "أمي الشريرة" فهو بمثابة جوهرة مُتمِّمة في المجموعة ويحتوي على ثماني حكايات فريدة تتنوع إلى حد كبير من حيث النبرة، والثيمات، والشكل. من مقابلات متخيَّلة وقصص يرويها فضائيون إلى حلزونة عالقة في جسد امرأة، تُظهر هذه الحكايات الثماني بصيرة آتوود الخاصة وذكاءها، بالإضافة إلى قدرتها على إضحاكنا، وعينها المؤرِّخة للتفاصيل، ومخيلتها التي لا تضاهى.

شذرات من المجموعة

عوالم المجموعة كثيرة التنوع كما ثيماتها. وليس ثمة من قصص يمكن إهمالها، لكن العديد منها تتطلب إلقاء بعض الضوء عليها. تبدأ القصة الأولى "إسعافات أولية"، بعودة نيل إلى المنزل لتجد آثار دماء ممتدة من باب أمامي مفتوح حتى المطبخ، وتنتهي بأن تصبح تأملاً كئيباً إنما جميلاً حول العيش في عالم صُمِّم لقتلنا. نقابل هنا نيل وتيغ أثناء حضورهما دورة إسعافات أولية، وهما يحاولان الحصول على شهادة تمكنهما من تقديم المساعدة على متن سفينة سياحية، لأن الضيوف على متن السفينة سيكونون "أكبر عمراً من نيل وتيغ. عتيقون بالفعل. ومثل أولئك يُتوَّقع أن يتعثروا ويسقطوا في أي دقيقة"، وفقاً لقول نيل وتيغ. 

في الحقيقة، القصة التي تُروى باستذكار طويل هي عن ضحكهما التآمري الحميم على زلات معلمهما، وعن تأملاتهما حول الخطر الذي نعيش معه، ونتجاهله عندما نكون شباباً. 

تتناول "موت سمَدجي" حكاية موت قطة، وهي تصوير مثالي لنوع الحزن الفريد الذي يلي عادةً فقدان حيوان أليف محبوب. أما قصة "أمي الشريرة" فتتّتبع العلاقة بين أم وابنتها عبر السنوات وتظهر كيف، ولماذا، يصبح الأبناء في آخر الأمر شبيهين بأهاليهم. 

في "مقابلة مع الموتى"، تقابل آتوود روح الكاتب جورج أورويل التي تُستدعى من خلال وسيط روحاني. وتُقرأ هذه القصة من ناحية كنوع من التكريم، ومن ناحية أخرى كمحاولة تفكيك لنتاج أورويل وشخصيته، كما أنها تصبح فكاهية على نحو غير متوقع. 

تروي قصة "غريسلدا عديمة الصبر" حكاية كائن فضائي شبيه بالأخطبوط، مكلّف بتسلية سكان الأرض القابعين في الحجر جرّاء وباء. ولأن هذا الكائن لا يمتلك كل الكلمات التي يحتاجها ليتواصل على نحو جيد، فإنه يمكن اعتبارها حكاية عن الاغتراب وسوء التواصل. 

"أسنان سيئة"

"أسنان سيئة" هي حكاية ظريفة عن صداقة قديمة العهد بين كاتبتين، تشيلا ولين. تكتب تشيلا مذكرات عن مرحلة ستينيات القرن العشرين تزعم فيها أن لين كانت على علاقة برجل ذي أسنان سيئة جداً، وتصرّ على سؤالها عن سبب إقامة تلك العلاقة. لكنْ، تلك العلاقة لم تحدث قط، وتعترف تشيلا في نهاية المطاف أنها اخترعت ذلك لأجل كتابها. "أنتِ ميتة بالنسبة إليّ، ذلك هو ما قد تقوله الأجيال الأصغر سناً"، تفكر لين. لكن هذا لا يحدث هنا. 

هكذا، تحاول هذه القصة أن تنظر بتسلية وحذر، ومن خلال البطلتين، إلى اليقينيات الأخلاقية الطنانة وإلغاءات الآخر التي تقوم بها "الجينات الجديدة". إن تشيلا ولين أكبر عمراً من أن تحملا الضغائن. 

في قصة "موت بصدَفة محار"، تروي هيباتيا فيلسوفة الإسكندرية للجمهور الحديث حكاية مقتلها بواسطة صدَفة محارة، وكيف أنها تحولت إلى أشياء مختلفة تنتمي إلى مجموعات مختلفة من البشر في القرون التالية لموتها. لكنها تروي كلّ ذلك بطاقة كبيرة وحس فكاهة عالٍ: "أحاول أن أنظر إلى الجانب المشرق: لن أضطر لتحمل مذلات التقدم المفرط في العمر". 

قصة "التقمص أو رحلة الروح" 

في المقابل، الراوي في قصة "التقمص أو رحلة الروح" هو حلزون كانت روحه قد "قفزت مباشرة من حلزون إلى إنسان". رغبة الحلزون بالعودة إلى شكله السابق، وصدمته المبرّرة من السلوك والممارسات البشرية، سرعان ما تتحول إلى قراءة نابعة من القلب وكاشفة حول مسألة الحنين والشعور بالغربة عن المكان. 

من جهتها، تتناول قصة "رجلان محروقان" صديقين لِنيل وتيغ يكون كلاهما ميتاً مع بدء السرد: "رجل فرنسي قصير، مدوّر، دمث" و"رجل أيرلندي نحيل صدامي" يقول عن تورنتو، مدينة آتوود، إنها "بركة طين محلية شديدة الاحتشام". 

"أطفال مسنّون في الغابة"

أما قصة "أطفال مسنّون في الغابة"، التي تحمل المجموعة اسمها، فتروي تفاصيل يومية، وذكريات، من حياة أختين مسنتين، نيل وتيزي، تعيشان في كوخ العائلة الذي بناه والدهما منذ حوالى سبعين سنة. ويمكن الإشارة هنا إلى أن تعبير "طفل في الغابة" يُستخدم أحياناً للإشارة إلى الإنسان البريء أو قليل الخبرة في الحياة، وربما يكون لهذا دلالاته. 

كذلك، لا يغيب عن المجموعة حقيقة أن آتوود ككاتبة تدرك تماماً فائدة الخيال العلمي، وتلجأ إليه لإظهار رؤاها التأملية. هكذا، تقترب واحدة من القصص من منطقة روايتها الشهيرة "حكاية الخادمة": في قصة "من دون ضوابط"، ينتشر في بلد استبدادي فيروس يجعل كوفيد-19 يبدو كمزحة، ويُجبَر غير المصابين به على أن يتناسلوا من خلال زيجات مدبرة، في حين يتحتم على البقية أن يتآلفوا مع العيش، ,الحب، وحتى الموت في معظم الأحيان. 

بالعموم، تسهب الكثير من قصص المجموعة في وصف كيفية ازدهار الحب، مع مرور الوقت، وسط التفاعلات البشرية الأكثر نزقاً ومشاكسة، كما تقدم مقاربات مختلفة لفكرة مرور الزمن. في القسم الأخير، تكون نيل قد ترملت، لكن تيغ لا يزال حولها في كل مكان. "ثمة بوابات في الزمكان، تُفتَح وتُغلَق مثل أفواه ضفادع صغيرة. بوابات تختفي الأشياء فيها، تتلاشى ببساطة؛ لكنها قد تظهر مرة أخرى من جديد ومن دون سابق إنذار. الأشياء والبشر، يكونون موجودين هنا، ثم يرحلون، ومن ثم يرجعون إلى هنا ربما. لا يمكننا التنبؤ". وأفواه الضفادع الصغيرة تلك موجودة في كل مكان.

مثالب ومحاسن القصص

على الرغم من أن القسم الأوسط من المجموعة يحتوي على بعض أقوى القصص وأكثرها أصالة، فإنه أيضاً يحتوي على القصص الأكثر تقلقلاً. يبدو هذا القسم أحياناً مثل خليط مُخربط، مع بدايات غير موفقة في بعض القصص. بالتالي، من الصعب تجنب الشعور بأن بعض هذه القصص موضوعة هنا لمجرد ملء ما يكفي من الصفحات لصنع كتاب بطول معقول. وربما يكون لهذا أثره السيء خصوصاً بسبب التباين الذي يظهر لاحقاً عندما تعود آتوود إلى نيل وتيغ في القسم الثالث لتقدم رباعية قصص مؤثرة للغاية عن مرحلة الترمل.

مع هذا، هذه المجموعة، في بنائها الثلاثي هذا، ترمز إلى قطبي حساسية آتوود: الواقعي والخيالي. وهو جمعٌ سبق أن فعّلته آتوود حين مزجت الواقعية مع التخييل التأملي في بعض رواياتها.

في النتيجة، إن "أطفال مسنّون في الغابة" هي مجموعة من القصص الذكية، المؤثرة، الظريفة، والفريدة. وآتوود، التي دائماً ما تتمكن من لمس نبض المجتمع الحديث، تعالج كل شيء، من الحب إلى ما بعد الحياة إلى أهمية اللغة والوباء (تشير كثير من القصص إلى كوفيد-19 إما كحقيقة عن العالم كما في "أسنان سيئة"، أو كموضوع محادثة كما في "مقابلة مع الموتى"). وفي كلّ قصص المجموعة، لا تغيب ظرافة آتوود أو ذكاؤها، كما أنها تقدم الكثير من الشخصيات والجمل التي لا تُنسى. "هذا هو معنى أن تكون إنساناً، هكذا أفترض: أن تشكّك بشروط الوجود"، تقول الحلزونة العالقة في جسد امرأة. وذلك السطر يتردد صداه عبر المجموعة كلها، إذ أنها تظهر هوس آتوود المستمر بالوصول إلى صلب ما يجعلنا بشراً. 

تهدي آتوود هذا الكتاب إلى شريكها غرايم غيبسون الذي توفي عام 2019. ورغم أن حياة تيغ ونيل تتضمن تفاصيل مختلَقة، فإن قصصاً مثل "أرامل"، التي هي ببساطة رسالة من نيل إلى صديق أصغر عمراً تصف فيها حزنها بعد موت تيغ، تبدو ذات منحى شخصي إلى حد كبير وتلتقط شيئاً من حياة آتوود وحزنها على شريكها. 

كذلك، ينتابنا في عدد من القصص شعور يوحي بأنها موجَّهة إلى ذاتٍ أصغر سنّاً؛ إلى شخص مرتبك وغير مستعد لتغييرات الحياة اللاحقة. وبما أن معظم قراء آتوود أصغر عمراً من المؤلفة ذات الثلاث وثمانين عاماً، فأثر الكثير من القصص، حتى إن لم يكن متعمداً، هو أثر حكمة الطليعة. لكنها ليست رسائل من مستقبل متخيَّل، بل من مستقبل نتجه إليه جميعاً، إذا كنا محظوظين بما يكفي لنبقى على قيد الحياة. إنه نوع جديد من المستقبليّة تقدمه لنا آتوود.

أخيراً، لو أردنا أن نحلّ لغز وجود قصص خيالية محشورة بين قصص واقعية، رثائية، مترابطة، لقدّم الجواب نفسه إلينا بسهولة: هذه هي آتوود. إنها نسختنا الجديدة من الإله جانوس متعدد الأوجه؛ بوجه متجه نحو الماضي، وجه للحاضر، وجه للمستقبل، ووجه رابع يجلس داخل سفينة فضائية ويروي لنا القصص. ورغم أنه، في هذه المرحلة، لم يعد لدى آتوود ما تثبته، لكنها تكتب دوماً كما لو أنها تريد أن يلاحظ العالم عملها، وذلك بالطبع ليس بالشيء العسير: في كل مرة تنشر مارغريت آتوود شيئاً، نعرف أن علينا أن نجلس، ونقرأ، ونندهش.

ترجمة وإعداد: سارة حبيب