أنطونيو فيفالدي.. الطبيعة كلّها في مقطوعة واحدة

بدأ حياته كاهناً، وانتهى مؤلفاً موسيقاً عظيماً ما زالت أعماله مسموعة إلى اليوم.. من هو أنطونيو فيفالدي؟ وماذا تعرفون عن مقطوعته "الفصول الأربعة"؟

يندر أن تجد في العالم من لم يسمع بأنطونيو فيفالدي، بفضل مقطوعته الأشهر "الفصول الأربعة". قد يكون العالم مديناً للألماني باخ، الذي أُعجِب جداً بموسيقى فيفالدي وأظهر الجوانب الإبداعية فيها، ما دفع الباحثين في القرن الـ20 إلى إعادة التنقيب عن مؤلفات الموسيقي الإيطالي، وجمعها وتصنيفها، الأمر الذي أنقذ جزءاً من الجمال المتبقّي في هذا العالم من الضياع.

اشتُهِر فيفالدي بلقب "الكاهن الأصهب"، لأنّه بدأ حياته كاهناً، ولأنّ شعره أحمر، وهذا نادرٌ في إيطاليا. ترك أنطونيو منصبه الديني واتّجه إلى الموسيقى، بالرغم من أنّه ألّف الكثير من المقطوعات الدينية، أشهرها "filiae maestae Jerusalem"، التي يصف فيها حزن نساء القدس على صلب المسيح، و"غلوريا" Gloria in excesis. 

لكن من المعلوم أنّ اسم فيفالدي ارتبط بمقطوعته الأشهر، "الفصول الأربعة"، التي تمثّل نموذجاً دقيقاً عن أعماله، إلى درجة أنّ بعض النقّاد الظرفاء قالوا إنّ: "فيفالدي لم يؤلف قرابة 700 عمل موسيقي، بل ألّف عملاً واحداً هو "الفصول الأربعة"، وأعاد تأليفه 700 مرة خلال حياته". 

كانت حياة فيفالدي قصيرة نسبياً (1678 - 1741)، أي أنّه توفي عن عمر 63 سنة، لكنّها مع ذلك مترعة بالكثير من الإبداعات، التي يمكن الوصول إلى فهم أهم خطوطها العريضة من خلال تحليلنا لمقطوعة "الفصول الأربعة"، والسبب في ذلك هو أنّه ألّفها في ذروة ازدهار معارفه الموسيقية، حين كان في الـ46 من عمره. 

تتميز "الفصول الأربعة" بكونها مقطوعة واضحة المعالم، من خلال تقسيمه إياها إلى 4 كونشيرتات رئيسية، تمثّل كلٌّ منها فصلاً من فصول السنة، ويحوي كلٌّ كونتشيرتو منها 3 حركات. والجدير بالذكر أنّ التحليلات التالية مستوحاة من النصوص الشعرية المرافقة للمقطوعة، والتي يُعتقد أنّ فيفالدي هو الذي كتبها بنفسه. فلنعش هذه الفصول كما صوّرها فيفالدي بموسيقاه وكلماته!

الربيع

تبدأ السنة عند فيفالدي بالربيع، تمهّد له كلمات رقيقة: "يحلّ الربيع سعيداً، تستقبله صغار العصافير بأغانيها، فيما تنساب مياه الجداول بتناغم مع النُّسيمات المنعشة كهمس عذب".

أما في الموسيقى، فالربيع يعلن عن قدومه بلحن شهير جداً، احتفالي وبهيج وساحر وسريع الإيقاع (allegro)، تقوم فيه الآلات الوترية بحوار يشبه حوار الأطيار مختلفة الأصوات. ولكن للكمان في هذا الحوار الدور الرئيس، فهي من تقوم بدور البطولة في كامل المقطوعات الأربع، وهذا طبيعي جداً عندما يكون المؤلف أبرع عازفي الكمان في التاريخ. بعد ذلك تهدر المجموعة بكاملها للتعبير عن هبوب العاصفة الربيعية، التي لا تلبث أن تتخامد لتعود الطيور إلى ديدنها في الإنشاد، وتعود الكمان لتزغرد بمهارة فائقة. 

في الحركة الثانية تُهدّئ الموسيقى سرعتها، لتُظهر لنا المرج المزهر والأغصان المورقة عبر تخليقات لحنية إفرادية للكمان، ترافقها مجموعة من الكمنجات والوتريات التي ترسم معها صورة تعبيرية بليغة، إذ نستطيع أن نتخيّل تماماً كيف تتفتق البراعم على الأغصان، وكيف تشرئب الأزهار وتهزّ رؤوسها، ونرى قطيع الماعز ينام تحت حراسة الكلب الوفي، على خلفية حفيف الأغصان ومشاغبة الجداول اللعوبة.

تعود الحركة الثالثة إلى سرعة الحركة الأولى (allegro)، وهو ما يتكرر في الكونشيرتات الأربعة، وهنا يأتي دور الرقص، فنرى رقصة الرعاة والحوريات تحت دفيئة الربيع.

الصيف

بعد هذا المهرجان الربيعي يأتينا الصيف الحار، والذي يطلّ في الحركة الأولى بسرعة متثاقلة (allegro non molto)، عبر جملة موسيقية على الكمان تمشي بتثاقلِ راعٍ يسير مع قطيعه على دروب تتلوّى على أطرافها الأعشاب المحترقة بالشمس.

نسمع بعدها صوت طائر وقواق تجسّده الكمان، تليها أغنية الحسّون التي يعزفها الكمان المنفرد، مع خلفية أصوات طيور أخرى متمثّلة ببقية الوتريات. تتحرّك بعد ذلك نُسيمات حارة مُنذرة بعاصفة صيفية قوية، نحسّ بها من عصف الآلات كلها، تتخامد ثم تختفي مؤقتاً بعد هبّتين شرستين، لتمهّد للحركة الثانية المؤدّاة ببطءٍ متوسط (adagio) من قِبل آلة الكمان، وتمثّل الخوف من مظاهر ثورة الطبيعة.

يتناوب هذا التعبير الخائف مع إنذارات واضحة من بقية الآلات (العاصفة)، لتبدأ بعد ذلك الحركة الثالثة من كونشيرتو الصيف بسرعة كبيرة جداً (presto)، حيث تهجم العواصف والرياح على المحاصيل.

الخريف 

يبدأ الخريف برقصة ريفية احتفالاً بانتهاء مواسم الحصاد وجني المحاصيل الناجية، ويتشبّع الأثير بروح "باخوص"، فنسمع الكمان تؤدي جملاً راقصة وسكرى، تتمايل على تصفيق وتشجيع بقية الآلات، ثم ينتهي كل هذا الصخب بالنوم (الحركة الثانية)، فتبدأ الكمان بالتعاون مع بقية المجموعة برسم تهويدة للنوم، يعقبها حلم ليلي يستعيد بقايا الرقصة الريفية، تنتهي به الحركة الثانية. تبدأ بعدها الحركة الثالثة ببطء (adagio molto)، وبمزاج مختلط بين العصف والهدوء. تحكي هذه الحركة قصة الصيادين الذين ينطلقون بكلابهم وأسلحتهم وأبواقهم خلف طرائدهم، التي لا مصير لها إلا الموت في النهاية.

الشتاء

يطلّ الشتاء بقشعريرة برد تمثّلها الآلات الوترية بكل براعة واقتدار في الحركة الأولى، إذ تنقل كل ما نحسّ به في فصل شتاء بارد: مطر، اصطكاك الأسنان، الارتعاش، جليد الدروب، والسعي إلى قضاء يوم دافئ في المنزل.

في هذه الصورة الأخيرة، تنحو الكمان منحىً شاعرياً ورومانسياً على خلفية نقرات بقية الكمنجات، التي تقلّد صوت المطر بواسطة العزف بتقنية "باتزيكاتو" (النقر). 

تُمثِّل الحركة التالية من خلال الموسيقى كيف يمشي الناس فوق الجليد بحذر، مخافة أن يتعرّضوا للسقوط، لكنهم يسقطون مع ذلك، ثم ينهضون مجدداً متابعين السير إلى غاياتهم، وهم يسمعون أصوات طقطة الجليد تحت أقدامهم.

السمات العامة لموسيقى فيفالدي

يتّضح ممّا سبق أنّ فيفالدي يعتمد بشكل أساسي على آلة الكمان، بحُكم مقدرته الخارقة على عزفها، مع الميل إلى مشاركة آلات أسرة الكمان الأخرى، مثل الفيلونسيل والكونترباص، والفيولا، والاحتفاظ بنسبة كبيرة من الثبات الإيقاعي الواضح والتوزيعات الهارمونية الجميلة، التي تُعزف بأسلوب متنوع لتُحاكي أصوات الطبيعة والبشر، والتي قد تستبيح القواعد أحياناً، كما فعل في إحدى اللمحات التي تصوّر الخوف في الفصول الأربعة.

هذا كلّه مع حرصه الشديد على وجود أساس صوتي غليظ (bass)، مستمر في الخلفية بواسطة الفيولونسيل والكونترباص، وخلق جمل موسيقية تتكرر كثيراً بطرق متنوعة تجمعها هوية واحدة. يُضاف إلى كل ما سبق استخدام فيفالدي الجريء للآلات الجديدة في عصره، والتلحين للأصوات البشرية، خصوصاً في الأناشيد الدينية والمزامير.

لا شك أنّ هناك صعوبة بالغة في الإحاطة بفن هذا المبدع العظيم، الذي أجمع على عبقريته العالم في الغرب والشرق، فتحية إلى روحه التي أتت إلى عالمنا في الـ4 من آذار/مارس من العام 1678، وغادرته في الـ28 من تموز/يوليو من العام 1741 في فيينا، بعيداً من مدينة البندقية التي عاش فيها معظم حياته.