ازدواجية الانتماء واغتراب الهوية في "الاشتياق إلى الجارة"

هذه الازدواجية في العشق الموزع بين امرأتين انعكاس لذلك التمزق بين وطنين هما فرنسا وتونس. وهذه الازدواجية في الهوية والانتماء هي دراما حياة المهاجر  وقلقه الذي لا يستقر وناره التي لا تنطفئ.

  • الروائي التونسي حبيب السالمي.
    الروائي التونسي حبيب السالمي.

ضمن حكاية عادية تحكمها بساطة الأشياء العميقة تأتي مقاربة الحبيب السالمي في روايته الحادية عشر "الاشتياق إلى الجارة" الصادرة عن دار الآداب في بيروت والتي حازت على جائزة كتارا في دورتها السابعة.

وقد دخلت الرواية في القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لعام 2021 لموضوع الانتماء والهوية في بلد الاغتراب مما يزعزع سكونية استقرار مفهوم الاندماج التام في البلد الذي يؤمن ظروفًا ومناخًا أفضل للفرد المهاجر ويضمن أمنه واستقراره.

تحكي الرواية قصة الأستاذ الجامعي كمال عاشور الذي يدرّس الرياضيات في الجامعة والمتزوج من فرنسية والذي استطاع أن يمتلك شقة فاخرة في عمارة ضمن باريس بعيدًا عن أحياء المهاجرين. فهو كان يعتقد أنه حقق شروط الاندماج الكامل في البيئة الجديدة وأنه عصي على الحنين إلى مكانه الأول، لتأتي علاقته بزهرة الخادمة وعشقه لها، برغم التباين الطبقي والاستعلاء الثقافي الذي يعيشه تجاهها في بادئ الأمر لتأكيد ذلك الشرخ النفسي الموزع بين عالمين الذي يعيشه كل مهاجر. فهو لا يزال يحب زوجته الفرنسية وحياته المنظمة معها برغم تلك الفوقية غير المباشرة التي  التي تمارس عليه من قبلها، ولكن زهرة حب من نوع آخر حميمي وعميق وبعيد المنال بذات الوقت، تبرز معها ذاته العارية بكل نوازعها الدفينة. معها يتكلم بلهجته التونسية الأولى التي عرفها في بداية نشأته برغم تشظي الذات بين نمطي الحياة التونسي والفرنسي، فالبطل برغم إجادته للغة الفرنسية فهو  يتقن العربية ويقرأ بها دائمًا بوصفها لغة الثقافة وما يرشح عنها من اهتمام بالغ بالأعمال الأدبية باستحضاره لرواية "عرس الزين" للطيب صالح وكتاب ابن سيرين. 

واللهجة التونسية  هي دلالة المكان الأول والهوية الأولى التي عرفها وتربطه بها حميمية من نوع خاص لا يمكن لأي انتماء آخر أو قرابة أخرى أن تلغيها أو تحل محلها. 

تتفوق زهرة عليه في طرح أسئلتها الفطرية المحيرة،  أسئلة الموت والحياة والعلاقة مع الإله وأين سيدفن في حالة الموت في انقلاب الأدوار بين النخبة المتعلمة وبين العامة، ترى من يعطي دروس لمن؟! إذ أنه في كثير من المشاهدات يكون للعفوية والصدق والتلقائية تفوق كبير على الكثير من التنظيرات الثقافية التي استهلكت نفسها وزمنها.

ولكن هذه الازدواجية في العشق الموزع بين امرأتين انعكاس لذلك التمزق بين بلدين. أي أن هذا التعلق هو بالضبط علاقته بوطنين هما فرنسا وتونس. وهذه الازدواجية في الهوية والانتماء هي دراما حياة المهاجر  وقلقه الذي لا يستقر وناره التي لا تنطفئ.

صبغة الانتماء الأول هي إشارة ودلالة لوضع المهاجرين، فكل يلقب باسم بلده فزهرة هي التونسية وعاملة التنظيفات هي البرتغالية والسيد غونزاليس يلقب بالاسباني. هذا الوجود ذو حدين فهو يذكر بالانتماء الأولي من ناحية ويشير إلى كونه طارئاَ في هذا المكان مهما طال زمنه، خاصة أن الغالبية منهم يقطنون في الضواحي حيث عاداتهم تتشابه ونمط علاقاتهم وأكلهم وطقوسهم وشعائرهم. 

  • رواية
    رواية "الاشتياق إلى الجارة" للروائي الحبيب السالمي.

"الاشتياق إلى الجارة" عنوان يختزل المضمون والحكاية وفيها مخاتلة للقارئ الذي يظن الوضوح وبعض السذاجة في علاقة العنونة بالنص أو لناحية اختصارها لمضمون العمل في جملة واحدة. ولكن هذا الاشتياق كثّف امتداداً خفياً للعلاقة بالوطن برغم كل مبررات النجاح والاستقرار والراحة في الوطن البديل، هو خيط حريري غامض يشد المرء للمكان الأول مهما أوجعه وعذبه، ومهما بعدت المسافات عنه تبقى الروح شاخصة إليه .  

 النبرة الهامسة بالعمل تؤثث السرد بذلك الهدوء الذي يغلب على أعمال الحبيب السالمي برغم رصيده الحافل فهو يقول: إن كل رواية جديدة هي مغامرة جديدة له محفوفة بالمخاطر وهي اختبار جديد له ولمخيلته ولإبداعه، هو الذي يبتعد عن الإسهاب بالتفاصيل غير الضرورية في اعتماده على الاقتصاد باللغة والاقتصار على المهم منها، الأمر الذي يتطلبه تلقائية وسلاسة السرد بعيدًا عن صخب اللغة المجلجلة، وبعيدًا عن الزخرفة اللغوية كونه يتجه في سرده لداخل النفس موضحًا اضطرابه الداخلي وتقلباته النفسية، مما يجعل التلقي مريحًا ومشوقًا وقريبًا من الروح لأنه يخاطب ذاته العميقة بمكاشفة خاصة مع قارئه التي يلحظ بها تموّجات بوحه الذاتي وتقييمه المتدرج لمن حوله. فالكاتب حقق المعادلة الصعبة قي أن يطرح أفكاره ببساطة وتلقائية لأن التعقيد الاستعراضي قد يرهق النص أكثر مما يخدمه في الوصول إلى الفكرة المرتجاة. 

فالبطل الذي يحيا كفرنسي بكل نظامه وصرامته يأتيه عبق الوطن المليء بالمشاعر الدافئة التي لا يعي تبريرًا أو تفسيرًا لها حيث يؤكد فيها الكاتب على نسقين ثقافيين متباينين  من خلال  مستوى وعي زهرة الآتية من أصول مسلمة برزت في بنيتها المحافظة بعدم الانجرار وراء إغواء المشاعر الجديدة وسطوة التفوق الثقافي بالإضافة لقناعاتها الدينية البسيطة حول الجنة والنار والتي ظهرت في حزنها على جارتها مدام ألبير التي كانت تعمل عندها وتقوم على خدمتها في أنها ماتت كافرة أي غير مسلمة.

وهذا لم يمنع أن يسبقها حسها الإنساني بأن تقوم بواجباتها تجاه المتوفاة في الوقت الذي لم تحظَ مدام ألبير وهي الفرنسية الأصل بقريب يرافقها إلى مثواها الأخير.   

الحبيب السالمي على لسان راويه كمال عاشور وفي معرض سرده لتصاعد أحاسيسه تجاه زهرة، ومن خلال حميمية الحديث باللغة الأم أي لهجته التونسية التي شكلت  الرابط السري بينهما، يثير الأسئلة الحميمة التي تشغل بال كل إنسان في علاقته بالجنس الآخر، هل هناك عمر محدد للحب؟ أو هل هنالك سبب للحب؟

هذا السؤال اللغز الذي لم تتكشف أسبابه بعد:  لماذا تتجه أحاسيسنا تجاه شخص من دون سواه برغم عدم وجود تقاطعات معه أو نقاط مشتركة في فهم الحياة والواقع. فالفارق الثقافي بين الأستاذ الجامعي والخادمة لم يحول دون تطور المشاعر بينهما ولكنها مشاعر وأحاسيس لن يكتب لها الاستمرار، لأن كل منهما قد شيّد أركان حياته وأقام عالمه المنسجم فيه مع كائنات أخرى يحبها أيضًا ويقتنع بها. 

يعيد صاحب "نساء البساتين" قضية المهاجرين وقضايا الاندماج للواجهة، إذ لا يخفى الاستعلاء الاستعماري الذي ينوء بثقله البطل ببعده عن العادات والتقاليد الخاصة به. يشي بها النص بأكثر من ناحية مثل أكله للحلويات العربية خارج المنزل وان كانت تفتقد للقواعد الصحية، بالإضافة إلى تلك الألفة الكبيرة التي يشعر بها عندما يتحدث باللهجة التونسية المحببة إلى قلبه في لعبة إغواء الذاكرة التي تعيد تركيب الماضي من جديد. فعلاقته بزهرة التي زلزلت مفاهيمه الثابتة عن علاقته بماضيه أعادت علاقته بنفسه وتاريخه وترتيب أولوياته في نفس الإيقاع الهادئ للعمل، حيث كل المشاعر والمكابدات تجري في ذاته خدمتها اللغة المتقشفة التي عكست أفكار الحكاية وما وراء الحكاية من أفكار وأحاسيس تمور بالأعماق. وعلاقة الإنسان بجذوره عكستها زهرة بقولها بكل ما في البساطة من معنى في الاختزال والتكثيف: "لابد أن يكون لك بيت في بلدك،  لا يجوز ألا يكون لك بيت في تونس.. كل ما تملكه خارج بلدك، لا يساوي شيئًا أمام ما تملكه في بلدك".