الحياة خارج الطفولة منفى مضحك.. كيف صنع إكزوبيري أسطورته الأدبية؟

كانت الطفولة بالنسبة إليه مفتاح الحياة كلّها.. ماذا تعرفون عن صاحب "الأمير الصغير"؟ وكيف صنع أسطورته الأدبية؟

ليس من السهل أن تكتب عن رجلٍ من عالم الكبار وتقول إنه كان طفلاً، أو كان عرّاباً للصغار كلّهم، بعد أن عاش كثيراً عند الأشخاص الكبار ورآهم عن قرب، "فلم يحسّن ذلك كثيراً وجهة نظره"، كما يورد في كتابه الشهير "الأمير الصغير". 

أنطوان دو سانت إكزوبيري، الذي غاب عن هذا العالم في 31 تموز/يوليو من عام 1944، هو جرحٌ في القرن العشرين. وُلد مع بداية القرن، عام 1900، واختفى قبل أن تنتهي الحرب العالمية الثانية بعام. 

هذا الاختفاء، على متن طائرة لوكهيد بي-38 لايتنغ، التي أقلعت في مهمة استطلاعية فوق المتوسط، ظلّ لغزاً محيراً طوال أعوام، إلى أن تمّ العثور على سلسلة يد محفور عليها اسم زوجته، كما عُثِر على أجزاء من الطائرة عام 2003. 

انتهى اللغز، تقريباً، حين نشر هورست ريبرت، الطيار في سلاح الجو الألماني، مذكرات يقول فيها: "يمكنكم التوقف عن البحث. أنا من أطلق النار على سانت إكزوبيري". 

من أين أنا؟.. أنا من طفولتي

كانت الطفولة، بالنسبة إلى إكزوبيري، هي مفتاح الحياة كلّها. ستتردّد الكلمة ويرجع صداها، "الطفولة"، على مدى 44 عاماً عاشها الطيّار: "لستُ متأكداً من أنني عشت منذ الطفولة"، و"يا له من منفى مضحك أن يتم نفيك خارج الطفولة".

ولأنّ الراشدين يحبّون الأرقام، وحين تحدثهم عن صديق جديد، فهم لا يسألونك قط عن الأمور الجوهرية، لا يقولون لك كيف هي رنة صوته؟ أو ما هي ألعابه المفضلة؟ هل يجمع الفراشات؟ بل يسألونك: كم عمره؟ كم عدد إخوته؟ ما وزنه؟ كم دخل أبيه؟ عندها فقط يظنون أنهم عرفوه. 

ولأنّ إكزوبيري رفض أن يُعرَف طوال حياته على هذا النحو، أي النحو الذي يريد الكبار أن يعرفوا به إنساناً ما، فإنّ أفضل طريقة للكتابة عنه هي تلك التي كتبت بها رينيه دي سوسين، صديقته، والتي كتب إليها رسائل كثيرة.

10 أعوام من عمر صاحب "الأمير الصغير"، بين العشرين والثلاثين، من الشباب والصداقات. هي فترة الحساسية المرهفة، فترة الهزل والمجون والنضالات المؤثرة غالباً. بعدها، سيعثر إكزوبيري، الطيار والكاتب اللامع، على وحدته، على طريقه ومجده.

ارتاد إكزوبيري الإعدادية نفسها التي ارتادها شقيق حبيبته رينيه دي سوسين، وكان رفاقه يلاحظون أنه يعيش على القهوة بالحليب كي يوفّر المال لشراء "سدسيّة"، أي آلة قياس ارتفاع الأجرام السماوية من سفينة أو طائرة متحركة. كما كان يكتب الحكايات في أثناء الوقت المخصص للدراسة. 

كانوا يعرفون أنّ إكزوبيري يكتب، لذا تركوه يقرأ لهم دراما شعرية ألّفها، تتطوّر فيها شخصيات أمراء قطّاع طرق في مملكة متخيلة. 

في السيرة التي كتبتها أحلام طاهر عنه، قالت: "كان إكزوبيري طالباً مشتت الذهن، يعاني الاستيقاظ في السادسة صباحاً ودروس النحو، لكنه كان يعود خلال العطل إلى سان موريس، مملكته المشتهاة، والتي يسودها قانون واحد: اللعب، وأحياناً الاختراعات الخطيرة، مثل اختراع دراجة هوائية طائرة، بالإضافة إلى استغراقه في دروس الغناء وكتابة المسرحيات والتعرف إلى أنواع الأعشاب والزهور". 

يقول: "أتذكر ألعاب طفولتي، الحديقة المظلمة والذهبية المسكونة بالآلهة. المملكة التي لا حدود لها التي خلقناها من كيلومتر مربع، لم نستطع أبداً أن نكتشفه أو نسبر أغواره بالكامل".

انحاز إكزوبيري في البداية إلى مدرسة الفنون الجميلة التي التحق بها كمستمع إلى دراسة الهندسة المعمارية. وحين بدأ خدمته العسكرية، أخذ دروساً خاصة في الطيران ليعُرض عليه في العام التالي التحول إلى القوات الجوية الفرنسية، ويتم تعيينه طياراً في الفوج الـ37 المقاتل في الدار البيضاء. 

ستتراءى له البيئة الجديدة كحلم ظل يستحضره طازجاً في كل كتاباته. على رغم الحرارة والجفاف والملل فإنه بدا مذهولاً بمشاهد الصحراء: "أرى من المساء رجالاً عجائز رائعين ونساء صغيرات كالنقط، تبرز هاماتهم باللون الأسود من الغيوم الحمراء وتتحلل ببطء حتى تتوارى خلف الجدران".

التحق بالخدمة العسكرية كطيّار، وأخذ يرتكب الحماقات. تقول رينيه دي سوسين إنه كان يطير بمستوى الأرض، حتى أُطلق عليه "المحكوم بالموت". ثم تنقّل بين عدة أعمال بعد إصابته في الجمجمة بسبب سقوطه، إلى أن عاد إلى المهنة التي يحبّها، كطيّار، عند التحاقه بشركة لاتيكوير عام 1926، وهو العام الذي نشر فيه أول قصة قصيرة.

استمر إكزوبيري في الكتابة، وهو مدير ترانزيت الخطوط الجوية لمطار كيب جوبي في المنطقة الإسبانية جنوبي المغرب، في الصحراء الكبرى، واستمر فيها أيضاً بعد تعيينه عام 1929 مديراً لفرع للشركة العامة للبريد الجوي في الأرجنتين، يتفقد الطرق الجوية الجديدة عبر أميركا الجنوبية، ويشارك في بعثات البحث عن الطيارين المفقودين.

هذه الطرق الجوية مدّته بالمادة الخام لروايته "بريد الجنوب" عام 1928، والتي وُلدت من تأملاته في عزلة طرفاية في الصحراء المغربية، وروايته الثانية "طيران ليلي"، التي قدّمها أندريه جِيد. ومن بعدها "أرض البشر" (لها ترجمات متعددة إلى العربية) و"الطيار الحربي" وغيرها، إلى أن لبّى رغبة "الفتى الصغير ذي الوشاح" الذي طارد خياله طوال سنوات، وكتب "الأمير الصغير" عام 1943، أفضل كتاب أدبي في القرن العشرين، وفقاً للفيلسوف الألماني مارتن هايدغر.

معجزة "الأمير الصغير"

من التيفيناغ (وهي الأبجدية التي استخدمها الأمازيغ في عصور ما قبل الميلاد لكتابة لغتهم والتعبير عن طقوسهم وشعائرهم الدينية) إلى طريقة بريل للمكفوفين، ومن الحسانية إلى البشتو، تُرجم الكتاب إلى أكثر من 300 لغة ولهجة محلية، كثاني أكثر كتاب ترجمةً بعد "الكتاب المقدّس".

في فيلم "معجزة الأمير الصغير" (2018) للمخرجة الهولندية مارخولين بونسترا، تلتقي الأخيرة عدّة مترجمين للكتاب. تلتقي مترجم الكتاب إلى الأمازيغية، الحبيب فؤاد، مكتوباً بأبجدية "تفينياغ" عام 2009.

تلتقي كذلك مترجمي الكتاب إلى لغة شعب الـ"سامي" في فنلندا، وإلى لغة "تيبت"، ولغة "ناهوات" الأزتيكية والتي يتحدثها اليوم 300 شخص فقط في السلفادور، وأخيراً مترجمه إلى لغة "أليور" التي تتحدثها بعض القبائل في أوغندا والكونغو.

صحيح أنّ إكزوبيري رفض وصف رواياته بالفلسفية، أو مقاربتها مع الفلسفة، ومع ذلك فإنه أقرّ بتأثره ببعض فلاسفة فرنسا مثل باسكال وغيرهم. 

قد تكون "الأمير الصغير" أكثر عمل أدبي مفتوح على التأويلات والمقاربات، لأنها ذات طبقات متعددة. 

اكتشف الباحث الأميركي جاكوب غرييل الطبقة السياسية منها في كتابه "العلوم السياسية للأمير الصغير"، وقدّم الرواية على أنها "دليل ممتاز على فن الحكم السياسي"، مقارناً إياها بكتاب "الأمير" لمكيافيللي. فكلاهما، كما يقول، يتضمن دروساً للكبار، ما عدا أن "الأمير الصغير" يبحث عن الآخرين، لا من أجل فرض سلطته عليهم بالخوف، بل من أجل الاستفادة من رفقتهم وحديثهم، إذ يقف في إحدى الفقرات على قمة الجبل ويصرخ: "كونوا أصدقائي. أنا تعيس".

بالنسبة إلى هايدغر، الذي أشرنا إليه قبل قليل، فإنّ "الأمير الصغير" ليس كتاباً موجَّهاً للأطفال، بل هو رسالة شاعر عظيم يخفف عنا كل أشكال الوحدة، وهو الذي يقودنا إلى فهم الأسرار العظيمة لهذا العالم.

أمّا الفيلسوفة الفرنسية لورانس فانان، فتقول في كتابها "الأمير الصغير، لغز الوردة" (دار نشر لارماتان)، إنها رواية فلسفية استثنائية تحت ستار نص شعري مكتوب للأطفال، لكنها تستهدف الراشدين، بينما يقول الكاتب الفرنسي الحاصل على جائزة غونكور، فيليب فورست، إنّ "الأمير الصغير" مواجهة بين طفل وشخص راشد، ودمج لقصّة للأطفال داخل رواية للكبار. 

هذه الازدواجية تمنح الرواية خصوصية، وهي أننا نستطيع قراءتها من منظور الشخص الراشد، لكن أيضاً من منظور الطفل. كأن أعظم إنجاز لإكزوبيري هو هذه الكتابة العبقرية التي تسمح بهذه القراءة المزدوجة والمتكاملة، مضيفاً أنّ الرواية تقع في مفترق الطرق بين جنسين أدبيين هما رواية المغامرة الخيالية والفانتازيا، فالقارئ أمام خيارين. إما أن يقتنع بقصّة الصداقة التي تجمع بين الأمير الصغير والطيار، وإما أن يسلّم بأن لقاء الشخصيتين هو نتيجة هلوسات طيار ضائع ومرهق وسط صحراء قاحلة. وبالنسبة إلى فورست، فإنها كتابة سردية بشأن عالم الطفولة والبراءة والخيال الجامح، مثلما كانت عليه رواية "بيتر بان" لجيمس ماثيو باري، أو "أليس في بلاد العجائب" للويس كارول.

هكذا، كان أنطوان دو سانت إكزوبيري كتب كتاباً واحداً طوال حياته، كما قال أندريه جِيد في رثائه، هو "كتاب الإنسان".