"الذاكرة والمتخيّل": نظرية التأويل عند غاستون باشلار

وجد بلشلار أن الذاكرة مثّلت بحثاً أصيلاً عند الفلاسفة المهتمّين في تحليل النشاط العقلي الإنساني، ولا سيما الباحثين في نظرية المعرفة والفهم والتأويل.

  • كتاب
    كتاب "الذاكرة والمتخيل" لأحمد عويز.

يعرض الدكتور أحمد عويّز في كتابه "الذاكرة والمتخيّل - نظرية التأويل عند غاستون باشلار"، فكرة الذاكرة في مفهومها الفلسفي، والخيال والمتخيّل.

الفصل الأول تناول فيه البحث في تكوين الخيال الإنساني، وأنطولوجيا الصور الحُلمية عند باشلار ومتتبعاً تصوراته في تأسيس الوعي الجمالي بناءً على قاعدة ظاهراتية حاول إلتزامها، فضلاً عن بيان إقامة أنطولوجيا الذات الحالمة بناءً على ذلك الوعي وتكوين الصور عبر التأكيد على الترابط السببي بين العلّتين المادية والصورية.

اهتم الفصل الثاني ببحث ما يتعلّق بنظرية باشلار التأويلية في تأويل صور الذاكرة (أكوان الإلفة)، بينما اهتم الفصل الثالث في تأويلات الصور والمواقف المتخيّلة.

أما الفصل الرابع فاعتنى بعنصرين أساسيين يمثلان ضدّين بحثهما باشلار وجاءا في أهم كتابين تناولا العناصر الأربعة هما: عنصرا "النار والماء" وكل ما يتصل بتأويلاتهما النفسية والظاهراتية. 

أما الفصل الخامس والأخير فاختصّ الكاتب بدرس نزعات التأويلات النفسية التي سلكها باشلار في بعض موضوعاته ولا سيما محاولات إثبات مركزية المؤنث وإضعاف مركزية المذكر عبر تأنيث الكلمات والأشياء أو تأنيث الشعور الحُلمي.

بعد أن يدخل الكاتب عويّز على مفهوم الذاكرة والتذكّر عند عدد من الفلاسفة ومنهم توماس هوبز (تتجسّد الصورة في المكان الأصل) وجون لوك حول التمييز الحسي والإدراك الحسي كتجسيد صورة جديدة بين شيء سبق إدراكه في الماضي بقدر أكبر من التجسيد، وإيمانويل  كانط حول المعرفة التجريبية التي تقدّمها الحواس للإنسان نتيجة اصطدام الأشياء بمنافذ الحس، وانتقال هذه الإنطباعات إلى الفاهمة التي تقوم بالربط والتحليل لتنتج المعرفة التجريبية البُعدية، والتي شغلت باشلار في تأويلاته (الصور الحسيّة الماضية التي تختزنتها الذاكرة وقبولها العودة الى التذكّر في وقت لاحق).  وجيمس مِل حول محتوى الصورة الحاضرة وعلاقته بالماضي ومدى ارتباط الصورة الحاضرة التي تمّت استعادتها في النسخة الأصل، إلى ديفيد هيوم حين فصل بين الإدراك الذهني في حال شعوره الحسي وبين استحضاره بعد ذلك عبر الذاكرة، مقرّاً عجز فعل الإستعادة عن محاكاة التجربة الأصل محاكاة تامة، وباعتبار أن هامش الذاكرة ضيّق جداً، أما المخيّلة فهي حرّة وغير مقيّدة.

بعد كل هذه النظريات، وجد الكاتب أن الذاكرة مثّلت بحثاً أصيلاً عند الفلاسفة المهتمّين في تحليل النشاط العقلي الإنساني، ولا سيما الباحثين في نظرية المعرفة والفهم والتأويل  مما استدعى غاستون باشلار لأن يستفيد من نظرية أرسطو أيضاً حول الاستذكار والتذكّر وتحليل صور تجارب الإنسانية الماضية، ونشاط الخيال الإنساني في تكوين الصورة، وتحقيق عوالمه المتخيّلة، وهو الجزء الذي قامت عليه نظريته.

يقول الكاتب إن باشلار رأى أنه لا بدّ من التمييز فلسفياً بين نمطين من الخيال؛ خيال يولّدُ العلة- الصورة للصور المنتجة أو الخيال الصوري، وخيال يولّد العلة المادية أو الخيال المادي". ص34

لقد استعان باشلار في دراسته الخيال الإنساني بأرسطو حول" شيئية الشيء" والمادة تحلّ بوصفها إمكان وجود هذا الشيء وإنها -أي المادة- إذا وجدت ولم تكتسب صورتها فلا وجود فعلي لها ما لم تستحيل صورة، مقسّماً العلل الأربعة إلى مادية، وصوريّة ، وفاعلة، وغائية. 

أما مكوّنات تحليل الخيال فيقوم في إثبات الترابط السببيّ بين القوتين الماديّة والصوريّة.

وبما أن الذاكرة مصدر مهم من مصادر المعرفة لقد تمّ ربط الذاكرة بالوعي (الذاكرة الواعية) لأن التذكّر المحض-حسب أرسطو - يمكن ألا يقدم المعرفة الموثوقة، فصار لزاماً هنا أن يكون النشاط المرتبط بالذاكرة نشاطاً واعياً تحصيلاً للمعرفة الموثوقة التي يتحرّونها.

من هنا حاول باشلار في تحليله النفسي الفصل بين النظرة الظاهراتية والنظرات السيكولوجية لأن الصورة المفاجئة واشتعال الوجود في الخيال لا نجد تفسيراً لها بوسائل التحليل النفسي. فلإيضاح مسألة الصور الشعرية فلسفياً علينا أن نلجأ إلى ظاهرية الخيال. من هنا علينا إعادة تحليل الصور بإخلاص من منظور جديد، صور حملتها الذاكرة وأدركت أصالتها وكينونتها، والإفادة من إنتاجيتها النفسية الكبيرة، "إنتاجية التخيّل" كما يراها باشلار.

لكن النقطة الجوهرية بين المنحى السيكولوجي والمنحى الظاهراتي الذي يدعو إليه باشلار تكمن في أن السيكولوجي يجعل من الشاعر إنساناً. بيد أن المشكلة بكلّ ثقلها في الأشعار القديمة: كيف يستطيع إنسان برغم الحياة أن يصبح شاعراً.

هل هناك صورة واحدة تجتاح كل العالم وتنشر السعادة التي نشعر بها لأننا نسكن عالم هذه الصورة نفسه؟ وهل هذا الإشتراك الذي يتحقق في وعي الصورة الشعرية يُدخل الحالم بالصورة إلى كون السعادة التي شعر بها الشاعر لحظة أفرغها شعراً وكلمات، حتى غدت هذه الكلمات بيت الوجود ليس له وحده فقط بل لكل حالم أيقظته كلماتها؟ 

هذه هي الغاية الكبرى التي يُعنى بها باشلار في سلوكه المنحى الظاهراتي. ص 48

ويذهب الكتاب في مباحثه إلى عناوين عدة منها تكوين الذات المتخيّلة في ضوء صور التجربة الحُلمية، وعن كوجيتو الحالم المتخيِّل بين الحلم الليلي وتأملات اليقظة. فحالم الليل عند باشلار لا يستطيع الإعلان عن كوجيتو. فحلم اليقظة غير حلم الليل. الأول يثبت وجوده في الحلم، أي أنا موجود.

أما الثاني فهو حلم من دون ذات معروفة، فلا يمكن أن يثبت ذاته. لهذا ربط باشلار، كما يقول الكاتب عويّز، بين الكوجيتو أي "أنا متأثر إذن أنا موجود"، بلحظة تلقي الصور والإعجاب بها وإثارتها بالخيال، لأن إثبات الوجود يكون بإثبات كوجيتو اللحظة الحالمة في حلم اليقظة.

ثم ينتقل باشلار إلى أنطولوجيا الحالم "الكينونة المتخيّلة والصور الحُلمية"، على أن الكوجيتو "أنا"متولدة من صور مفردة وثبوت الزمن عنده بـ"حدس اللحظة" الواحدة لا يحدس بلحظات. إذن الوعي هنا منفعل وفاعل، لأنه مصنوع بفعل العلاقة الجدلية بين الذات القارئة الحالمة والموضوع أي الصورة الشعرية. لكن ليس للوصول إلى معرفة موضوعية تتحرّى الصلاحية، فالكينونة مدركة لأنها محسوسة، لا محسوسة لأنها مدركة؟

ثم إمكانية اختزال الذات الحالمة والعالم في كون الكلام، فالصور التي يقدّمها الشاعر تسلّم في خلق عوالم تبدأ من ذاته أولاً إلى ذات القارىء، أكوان وجود متخيّلة حملتها اللغة. فاللغة إذاً قادرة على اختزال العالم، وهو ما قاله هايدغر. اللغة بيت الوجود. فحين نحبّ أشياء العالم،  نتعلم مديح العالم، ندخل في كون الكلام.

ثم يبحث الكتاب عن تأويل الذاكرة المكانية المتخيّلة، فوجد باشلار أن البيت هو رمزية النظام المركزي، حيث البداية لكل إنسان إلى العالم الأكبر. ففي تلك البداية يولد الإنسان ويولد معه الوعي، (ذكرى وحلم وخيال). بداية يولّدها الحاضر، وحاضر لا ينقطع عن المستقبل، ومستقبل كل شيء فيه مفتوح يمنح العالم جمالاً، حتى وإن غدا بائساً في أعين ذلك العالم. لأن مقاييس الجمال ليست من العالم، وإنما من إلفة هذا العالم. فمقياس الإلفة عند باشلار يمنحنا وجوداً في هذا العالم، ويمنح العالم وجوداً فينا. إنها علاقة الجمال وما يترابط مع خيال يسبغ قيماً جديدة ما دامت الأشياء من اختزالات وعينا في جدل بين الذات والموضوع لتتحقق المعرفة بهذا الكون، حيث إن أول مهمة للظاهراتي في كل بيت أن يجد القوقعة الأصلية. ص 66 

ويرى باشلار أن شعور الإلفة الأولي القديم مهما كان متباعداً في الزمن يبقى حيّاً فينا لأنه شعور اللحظة الأولى والوعي الأولي. وهو يستعين بنظرية الفيلسوف الألماني دلتاي حول العقل الموضوعي الذي يصل في رؤيته إلى ما سمّاه "إعادة اكتشاف الأنا في الأنت" لأن القارئ يعيد اكتشاف أنا في الآخر.(إننا نحلم متذكّرين، إننا نتذكّر حالمين ).ص 75.

يتطرق بعدها إلى الطفولة الكونية والقبيلة الكينونية في الذاكرة والمتخّيل. يعترف باشلار بما سمّاه الطفولة الكونية في مملكة القيم، أنطولوجيا ما تحت الكينونة، وما فوق العدم وفي هذه الحالات يلين التناقض بين الكينونة واللاكينونة.

ويبحث عن ذلك في الأجزاء كون العليّة والقبول النظام العمودي للبيت، فالعليّة هي ذكرى ما لا تعطيه الذاكرة، (عمودية الكائن الإنساني).  ثم ينتقل إلى كون الأركان الذي هو النظام الأفقي أي التفاصيل التي يصنع منها الحالم في ركنه بحلم اليقظة كوناً جديداً منعزلاً عنه، ثم إلى العشّ ورمزيته كونه الدافي الهادئ الذي يغني فيه العصفور، ويستدعي الأغنيات السحر، العتبة النقيّة للبيت العتيق.

ويخلص باشلار إلى القوقعة ورمزيتها، فالإنطواء على الذات هو إنطواء المأوى وهذا ما يوجد الهناء والتكوّر والإختفاء، لأن الذات تخلق عالمها الذي لا يشاركها فيه أحد. ص94 

يذهب الفصل الرايع من الكتاب إلى تأويل عناصر النار والماء، حيث يبرز دارس الكتاب أحمد عويّز أن باشلار صرّح أكثر من مرة أن الخيال يزيد حدّة الحواس وأن الحقيقة الخيالية أقوى من غيرها. بيد أنه ربط تلك الصور التي تتصل بالخيال بعناصرها المادية، لأن الصور التي ترتبط بأصل مادي هي أشد ثباتاً من غيرها.

من هنا، توجّه إلى رصد العناصر الأساسية الأربعة التي كوّنت الكون (النار، الماء، التراب، الهواء)،  إن الذي ينصت إلى خرير الماء المنهمر لا يمكن أن يفهم ذلك الذي يستمع إلى غناء لهب النار، إنهما لا يتحدثان نفس اللغة. ثم يدخل في تأويل الدلالات الوجودية والاجتماعية والنفسية للنار من ناحية الدلالة الكونية والوجودية إلى الدلالة الاجتماعية والنفسية إلى تأويل فك الدلالات الأسطورية للنار، عبر فكّ الأسطرة عبر عقدتين هما: عقدة بروميثيوس ونزعتها الفكرية وعودة نوفاليس ونزعتها الشبقية، إلى تأويل دلالات الماء وعقدة نرسيس، والماء كونه رمز الموت. وعقدة كارون وقارب نهر الموت-الجحيم الذي اعتبره باشلار مرتبطاً بتعاسة البشرية غير قابل للزوال، (ضريح داغومبير، جحيم دانتي، جدارية مايكل أنجلو) ثم زواج الأضداد (عقدة هوفمان)   وربط العناصر ببعضها البعض.ص 139 

يسوق الكاتب كل هذه الأفكار الباشلارية ليطرح إشكالية الأنا بالذات، والذات بالموضوع، وخلق المسافة الزمنية أو اللحظوية بين التذكّر والمتخيّل، فنسأل أين يمكن أن تكون الأنا لدى الحالم الليلي، ولدى حالم اليقظة..؟ متى نعرف أنها هنا أو هناك وفق الكوجيتو: أنا أتأثّر إذاً أنا موجود.

كل هذا يطرحه الكاتب ليقدّم مقاربة تسليط الضوء على بُعدي "الذاكرة والمتخيّل" المهيمنين في العقل الإنساني ومكوّناته ومكانه وأنطولوجيا أحلامه وأوهامه، عبر أكوان متنوعة من الصور التي تكتسب إما إلى الذاكرة في زمن حافل بذكريات الطفولة وأماكن إلفتها وعوالمها البعيدة، وإما إلى صور عالم حاضر يندفع فيها العقل إلى إنتاج لحظته المتخيلة التي قد لا تستند إلى الذاكرة ولا تقوم على قاعدة مماثلة للصورة الأصل المحفوظة. فتبدأ بالحاضر لتتصل بالمستقبل، وربما التقى الإثنان، فأصبحت الصورة محمولة من ذاكرة ماضية تنتج متخيّلاً حاضراً يرنو نحو مستقبل قادم.

إن ميزة هذا الكتاب أنه جاء متتبعاً معالم نظرية باشلار التأويلية عبر مقاربة مختلفة تربط هذين البعدين المركزيين وتحليل الصور الحُلمية المتخيلة إلى ممكنات أنطولوجية في تأويل باشلاري جديد لعمل الذاكرة والمتخيّل.