السينما الأميركية والكوكاكولا

ليست كل الأفلام الأميركية سيئة من الناحية الأيديولوجية. هناك أفلام تعادي النظام الأميركي الرأسمالي على نحو أكثر جرأة مما نفعل نحن، وتتوفر على نقد للسياسات وللممارسات والمفاهيم التي تروّج لها أميركا.

  • السينما الأميركية والكوكاكولا
    وقفة تضامنية مع غزة قبل توزيع جوائز الأوسكار هذا العام 

واحدة من العادات التي صارت متأصلة عند مشاهدي الأفلام التجارية في صالات السينما العامة، هي التمتع بشرب كأس مليء بالكوكاكولا أثناء مشاهدة الفيلم بالتوازي مع التهام حبات الذرة المحمصة (البون كورن)، ما يوحي بوجود متلازمة بين الحالتين.

بدأت هذه العادة في صالات السينما الأميركية أثناء عرض الأفلام التجارية، وانطلقت لتنتشر في صالات السينما في أنحاء العالم.

لا تقتصر العلاقة بين الأفلام التجارية والكوكاكولا على تلك العادة الرائجة. ذلك أن الأساس في هذه العلاقة كون الأفلام الأميركية تتشابه مع مشروب الكوكاكولا الغازي في كونهما منتجين، على ما بينهما من اختلاف، ساهم كل منهما بطريقة أو بأخرى في الترويج للأيديولوجيا الأميركية ثم التمهيد لــ "عولمتها"، عبر مسيرة تاريخية طويلة.

وهما منتجان تزداد أهميتهما بخاصة، في العصر الحالي الأحادي القطبية، حيث السينما الأميركية هي المهيمنة على سوق العروض السينمائية في أرجاء العالم كافة. وكذلك عروض الأفلام في  الفضائيات التلفزيونية العالمية، وحيث الكوكاكولا، توزع، تقريباً، في كل مكان، ومصانع إنتاجها الفرعية تنتشر في بلدان آسيا وأفريقيا ذات العمالة الرخيصة.

لذا، كان من البديهي، في ظل تحمّل أميركا الجزء الأكبر من المسؤولية عن دعم "إسرائيل" في عدوانها على غزة، وتزايد مظاهر الغضب في أوساط الرأي العام العالمي، أن يكون جزء من التعبير عن هذا الغضب المطالبة بمقاطعة البضائع الأميركية، والكوكاكولا كأحد رموزها، وأن تمتد هذه المطالبة لتشمل صناعة السينما الأميركية، الرمز الآخر الأكثر شهرة عالمياً والأشد فعالية في تأثيرها على العقول والنفوس والأخلاق.

هذا الحجم الدولي الشمولي للغضب عكس نفسه في مطالبة عالمية، وفي أوقات متفاوتة، بمقاطعة البضائع الأميركية، وهي مطالبة غير مسبوقة في نوعها ومدى اتساعها وجديتها، والتي تستدعي، بطبيعة الحال، التفكر في إمكانياتها والبحث عن آليات لتنفيذها. لكن الغريب أن السينما الأميركية لم تكن مشمولة بدعوات المقاطعة.

في مقارنة أولية بين الكوكاكولا والسينما، يمكن القول إن الأول مجرد مشروب منعش، موسمي، ترتبط الحاجة به، غالباً، بفترات الطقس الحار، غير أن مفعوله آني ولا يدوم طويلاً، فيما السينما الأميركية، وخاصة في صيغتها الجماهيرية الشعبية، منتج ترفيهي، مفعوله تاريخي تراكمي، يصيب العقل والعاطفة والأخلاق والسلوك، ويدوم طويلاً ويحفر عميقاً في الوعي العام العالمي بجوانبه المختلفة، ومنها السياسية والثقافية.

انطلاقاً من هذا الفهم لدور السينما الأميركية الشعبية الجماهيرية ومهماتها، يحق لنا القول إنه إذا كانت المطالبة بمقاطعة البضائع الأميركية قد نشأت نتيجة مواقف سياسية بالدرجة الأولى، فإن المطالبة بمقاطعة السينما الأميركية، تطرح علينا، من حيث المبدأ، مجموعة من الأسئلة.

السؤال الأول: كيف يمكن أن تتحوّل القناعة أو الوعي السياسي إلى وعي ثقافي وفني ينتج منه رفض لخصائص منتجات السينما التجارية الأميركية المعروفة بــ "السينما الهوليودية"، والتي تؤكد كل التحليلات أنها لا تنتج وتعمم سوى ثقافة العنف والجنس والقيم الفردية؟

أما السؤال الثاني فحول إمكانية تقبّل ما يسمّى بالسينما الأخرى، غير التجارية، أي السينما الفنية الطابع، والإنسانية المضامين، والتي ترقى بعقول المشاهدين وأذواقهم وأحاسيسهم، حتى ولو كان هذا التقبّل مجرد نتيجة لموقف وقناعة سياسية وليس فنية جمالية. وتشمل هذه السينما عدداً لا بأس به من الأفلام الأميركية.

وكذلك السؤال حول فرص تحويل التضامن السياسي إلى تضامن سينمائي مع الأفلام المنتجة خارج الولايات المتحدة، كأن تقوم تظاهرات تطالب بمقاطعة السينما الأميركية، وجعل مطالبها هذه أكثر دقة وإيجابية على المدى الطويل، فتتحوّل إلى مطالبة بعرض الأفلام التي تنتجها دول أخرى، على الأقل بهدف الكيد لأميركا وأفلامها، أو على سبيل المثال لا الحصر، من منطلق التضامن مع دولة آسيوية ما تتحدى أميركا وتتعرض للخطر بسبب ذلك، أو الأفلام التي تنتجها دولة متعارضة مع أميركا مثل الصين. علماً أن هذه الأخيرة قد تفاجىء الجمهور بأنها ليست فقط تنتج أفلاماً عالية القيمة فناً وفكراً (تحوز منذ بضع سنوات أهم  الجوائز وأفضلها من المهرجانات السينمائية الدولية)، بل وتنتج كمّاً كبيراً من الأفلام العميقة المضمون التي تضاهي أفلام هوليوود من ناحية الترفيه والتشويق وتقنيات الإثارة البصرية. من هذه الأفلام على سبيل المثال، فيلم غزا صالات أوروبا وبعض شاشات الفضائيات العالمية قبل أعوام وهو فيلم "حرب الأفيون".

وهناك أيضاً سؤال أكثر ارتباطاً بقضايانا القومية كعرب والمتعلق بضرورة تحقيق التضامن العربي وما يتشعب عنه من مطالبة بتحقيق التكامل الاقتصادي العربي. هذا السؤال الذي نفترض أن على الوعي السياسي الوطني القومي أن يجعل من الممكن محاولة تطبيقه في مجال السينما عبر التعميم والتوزيع والعرض المتبادل للأفلام السينمائية العربية المنتجة في أقطار الدول العربية المختلفة، سواء في صالات العروض الجماهيرية أو من خلال شاشات التلفزيون، بحيث تكون عروض الأفلام العربية أحد البدائل عن غياب الأفلام الأميركية في ما لو نجحت فكرة المقاطعة.

لكنّ الواقع شيء والتمنيات شيء آخر. والحديث عن مقاطعة الأفلام الأميركية نتيجة فورة غضب وانفعال آنيين، ونتيجة العجز عن قراءة معطيات الواقع بشكل سليم والجهل بواقع السينما نفسها، يظل نوعاً من التمنيات غير القابلة للتحقيق. ليس فقط لأن الأفلام الأميركية هي نتاج صناعة متكاملة تهيمن على سوق العرض والتوزيع العالمي وتدعم هذه السوق بآليات دعاية وإعلام شديدة الجاذبية، وليس لأن ثقافة الجماهير السينمائية تقتصر على ما تعلمته منها، بل أيضاً وبشكل أساسي، لأن الأذواق السينمائية الجماهيرية التي تربت وفق المعايير الفنية الهوليوودية لا تتقبّل الأنماط السينمائية المغايرة.

أخيراً، ليست كل الأفلام الأميركية سيئة من الناحية الأيديولوجية. هناك أفلام تعادي النظام الأميركي الرأسمالي على نحو أكثر جرأة مما نفعل نحن، وتتوفر على نقد للسياسات وللممارسات والمفاهيم التي تروّج لها أميركا. أفلام تنتقد الحكام ومن ضمنهم الرئيس، وتفضح المخابرات المركزية الأميركية ودورها في دعم الأنظمة الديكتاتورية في أميركا اللاتينية، وتدين حروب أميركا، كما حصل بالنسبة إلى حربها ضد فيتنام سابقاً والعراق حاضراً.

إنها أفلام تكشف عيوب المجتمع الأميركي، وتهزأ من "الحلم الأميركي" ونموذج البطل الأميركي الفريد. أفلام يقف وراء إنتاجها سينمائيون تقدميون، إنسانيو النزعة، يفرضون أنفسهم، بطريقة أو بأخرى، من خلال آليات الإنتاج التقليدية لشركات هوليوود الكبرى المهيمنة على صناعة السينما الأميركية، أو عبر الإنتاج الخاص الذي بات يعرف بـ "السينما المستقلة" أو سينما" الأندر غراوند"، على صناعة السينما الأميركية مستندين إلى موهبتهم وإلى رؤيتهم الخاصة وتفكيرهم المستقل.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.