الشعر "القاتِل".. أو كيف أودت قصائد بأصحابها!

يزخر التاريخ العربي بأسماء شعراء فقدوا حياتهم بسبب ما كتبوه أو ألقوه من قصائد وأشعار.. لماذا قد يقتل الشعر صاحبه؟

يزخر التاريخ العربي بكثير من حالات التصفيات الدموية والإعدامات التي نُفِّذِت بحق الشعراء العرب طيلة قرون عديدة وصولاً إلى عصرنا الحالي. وذلك بسبب ما كتبوه من قصائد وأشعار تؤكّد رغم هذا المصير المأساوي ومرارته، حيوية وفاعلية الإنسان الشاعر وخطورته في حياة المجتمع العربي، فهو في المعادلة الحياتية لم يكن هامشياً أو سلبياً بل كان عنصراً إيجابياً شديد الفاعلية، كما تؤكّد في ذات الوقت أهميّة الشعر والخوف من سطوة الكلمة.

سنقدّم في ما يلي مجموعة من النماذج الشعرية التي أودت بحياة أصحابها مُستعينين بآراء نقدية لثلاثة شعراء لهم حضورهم في الساحة الأدبية والثقافية العربية. فالشعر الذي قتل صاحبه سواء إعداماً أو قتلاً أو أُبيدَ اغتيالاً، يطرح تساؤلاً ملحِّاً عن أسباب ودوافع هذه الظاهرة التاريخية الاستثنائية، ودراستها وتشخيصها.

***

نماذج من الشعر القاتل

أعشى همذان: إسمه عبد الرحمن بن عبد الله ويُكنَّى أبا المصبح، ولِدَ في الكوفة سنة 30 هجرية. كان أول أمره زبيري الهوى وأُعْجِبَ بمصعب بن عمير لكنه بعد ذلك تقرَّب من السلطات الأموية وقاتَل معهم في العراق وأصفهان، غير أنه وفي سنة 80 للهجرة اشترك في حركة كان هدفها قَلْب نظام الحُكم الأموي حيث التحق بالثورة التي قادها عبد الرحمن بن الأشعث ضدّ الحجَّاج وعمل في جيشه ومدحه في عدّة قصائد.

وسخَّر الأعشى مواهبه في الشعر في خدمة تلك الثورة، وكان شديد التحريض على الحجَّاج، ومن أشهر القصائد التي هجا فيها الحجَّاج، تلك التي جاء فيها:

إن ثقيفاً منهم الكذّابان

كذّابها الماضي وكذّاب ثان

وفي هذا البيت يقوم  بهجاء الحجَّاج ويصفه بالكذّاب، ويقارنه بالمختار الثقفي الذي اتّهمه أعداؤه بادّعاء النبوّة.

وكان إبن الأشعث قد حشد معه في ثورته أكثر أهل الكوفة فلم يبق من وجوه الكوفيين إلا وتمرَّد لقسوة الحجَّاج عليهم، وعندما فشلت الثورة وجيء بالأعشى أسيراً قال له الحجَّاج: "الحمد لله الذي أمكن منك".

وحاول الأعشى استرضاء الأمير بعد أَخْذٍ وردٍّ بينهما مُبيّناً له أنه القائل:

وما لبث الحجَّاج أن سلّ سيفه        

علينا فولّى جمعنا فتبدّدا

فاعتبر الجَمْع أن في هذا مديحاً للحجَّاج وطالبوه أن يُخلي سبيله فقال الحجَّاج: "أتظنّون أنه أراد المدح، لا والله، ولكنه قال هذا أسفاً لغلبتكم إياه وأراد أن يحرِّض أصحابه"، واقترب من الأعشى وقال له:"أظننت يا عدو الله أنك تخدعني بهذا الشعر وتنفلت من يدي حتى تنجو"، مُذكِّراً إياه ببعض شعره ثم أمر الحرس أن تضرب عنقه.

***

  • رسم متخيل للمتنبي
    رسم متخيل للمتنبي

أبو الطيّب المُتنبي: لا حاجة لنا، كما أظنّ للتعريف بالمُتنبي شاعر العرب الشهير، إبن الكوفة أحمد بن الحسين مالئ الدنيا وشاغل الناس. دائم الحضور في الأذهان. فقبل مقتله بسنةٍ واحدةٍ كان قد هجا شخصاً يُسمَّى ضبّة بن عتبة يزيد العتبي هجاء لاذعاً بقصيدة طويلة نسبياً تضمَّنت عبارات موجِعة من الشَتْمِ الفاحش والألفاظ القبيحة يقول في مطلعها:

ما أنصف القوم ضبّة         

وأمّه الطرطبة

 رموا برأس أبيه         

والأم غلبه

وفي البحث عن جذور الخصومة وأصولها لنظم تلك القصيدة الصاعقة، حيث تشير المصادر التاريخية إلى أن المدعو ضبّة كان بدوياً يقود حركة القرامطة في حصن يقع إلى الجنوب الغربي من الكوفة، جاعلاً الصحراء في ظهره في حال الهزيمة وقد كرهه سراة القوم في الكوفة وتمنّوا هزيمته. ولقي المُتنبي وصحبه ضبّة يوماً بالقرب من الحصن ففرّ الأخير بعد مناوشات بالسلاح والشتائم، ويبدو أن ضبّة أحرز تقدّماً بالألفاظ القبيحة، وكان لا بدّ للمّتنبي من أن يدخل تلك المبارزة الكلامية وبذلك أنشد قصيدته الهجائية التي أنكرها في ما بعد.

ثم جاءت نهاية المُتنبي على يد قاطع طريق إسمه فاتك الأسدي وهو قريب ضبّة الذي أقسم على قَتْل المُتنبي، انتقاماً منه لهجائه. وكان المُتنبي بصحبة إبنه أثناء سفرهما إلى العراق حين هَجَمَ عليه الأسدي ومعه مجموعة من أعوانه، وحاول المُتنبي التهرّب منهم وأخبرهم بأنه مجرَّد عابر سبيل، ولكنهم كانوا يعرفونه من بيت الشعر الذي يقول:

الخيل والليل والبيداء تعرفني

والسيف والرمح والقرطاس والقلم

وعندما سمع المُتنبي بيت الشعر خجل من التهرّب وعَدَلَ عن قراره بالفرار، وواصل القتال، حتى قُتِل هو وابنه، فكان بيت الشعر الذي أنشده هو نفسه السبب في موته.

***

  • الشعر القاتِل.. قصائد أوْدَت بحياة أصحابها
    الشعر القاتِل.. قصائد أوْدَت بحياة أصحابها

نجيب سرور (1932 - 1978): يُعدّ سرور ظاهرة أدبية فريدة، طوال حياته خاض العديد من المعارك في الوسط الثقافي والسياسي المصري، حيث تمّ سجنه وتعذيبه، ولكن تظلّ أعماله الشعرية والمسرحية نماذج فريدة، حيث أنه بَرَع في التأليف والإخراج المسرحي.

وبدأت المشاكل في حياة "شاعر العقل" عندما تجاوز الخطوط الحُمر وعارض المجازر بحقّ الفلسطينيين في ما عُرف بأحداث "أيلول الأسود"، فقام بكتابة وإخراج مسرحية بعنوان "الذباب الأزرق"، وسُرعان ما طلبت المخابرات الأردنية من السلطات المصرية وقفها، وانتهى الأمر بعزل سرور وطرده من عمله، ومنعه من النشر، ثم اتهامه بالجنون.

وبعد ذلك دأب على كتابة قصائد ينتقد فيها بشكل لاذع سياسة ونظام السادات تجاه الوطن والشعب، وخاصة قمع الحريات العامة، وحرية التعبير، فلفُّقِ له الكثير من التَهم وتمّ وضعه في مستشفى الأمراض العقلية.

شاعر مقتول وشعر ماكر 

  •  مؤمن سمير
    مؤمن سمير

يقول الشاعر المصري مؤمن سمير: "لا أدري إذن هل ضحك الشعراء الذين قتلتهم أشعارهم على الموت وظلّوا بنفس صوَرهم الأخيرة أحياء ينظرون للفناء نظرة كلها سخرية وثقة، أمْ أن الشِعر في الحقيقة هو الذي استخدم الموت والشعراء والزمن لينتصر لقِيَمه الجمالية في النهاية، ليقول بجلاء فاز الفن على التاريخ.. إن مُكر الشعر هنا ظاهر وسابغ لهذا فقد قرّر أن يخترع أسباباً ووقائع تتسبّب بشكل مباشر في تصديقنا وتسهيل تلقين الفعل القتل لكنها في نفس الآن، وقائع تسمح دائماً بأن تتحوَّل إلى أساطير وحكايات تجمع الناس حول سيرة رجل قال الشعر ودفع ثمناً عظيماً هو روحه في سبيل أن يتسلّل إلى أرواح الأجيال، ويصير أيقونة لتمرّد الإنسان على القَدَر واليقين لصالح الجمال.

هل أطلّت بالفعل أخت ملك الحيرة عمرو إبن هند على المجلس فسرى الشعر على لسان طرفة بن العبد ما تسبَّب في قتله؟ وهل لم يمتلك المُتنبي إلا قتال فاتك بن أبي جهل الأسدي حتى قُتِل بسبب بيته الشعري الشهير؟ وهل تسبّبت قصيدة أبو نخيله في خلع عيسى بن مهدي من الخلافة ومن ثمَّ قتله؟ وهل من المتيّقن أن هجاء بشّار بن برد للخليفة المهدي وغزل وضّاح اليمن في أمّ البنين زوجة الوليد بن عبد الملك هو الدافع لقتلهما؟ الإجابة قد تكون نعم من ناحية ما يرويه الرواة، لا من زاوية مكر الشِعر الذي لاعَب الموت وخسر جولات عدّة، لكن اختبار الزمن أكسبه انتصاراً دائماً وحاسماً ومستمراً وله بريق المجاز وَوَهْج البلاغة".

الانتحار مجازاً

  • عزّ الدين بوركة
    عزّ الدين بوركة

الشاعر والناقد المغربي عزّ الدين بوركة يقول: "يخبرنا هنري ميشونيك، بأن الحداثة صراع، وجوهرها الشعر، وهو علامة انزياحها، أو بالأحرى انزياح الذات – الموضوع -، التي تسكن الشعر ويسكنها؛ ما يجعل الحداثة حداثات بالجَمْع لا بالمفرد. الشعر بهذا المعنى "معركة وجودية"، فيه تخوض الذات الكاتبة صراعاً وجودياً ضدّ نفسها وضدّ وجودها، تحاول الكشف عن "أناها"، والإعلان عن حضورها هنا والآن. الشعر إذن، عدوّ الثبات والاستقرار، منذور إلى "الحركة" و"الانزلاق"، بتعبير ميشونيك.. ويقيم في الأبدية، بتعبير بودلير. لهذا ما يكون - دائماً - حضور الشاعر إلا غياباً، أو على الأقلّ تقدير علامة للغياب.. لأنه ينزلق في مجاهيل الوجود والعالم والذات، يدخل داخل الداخل ليُضيء فانوساً يكشف به عن الأسرار الغامضة والمجهولة. ما يجعله "مُغترباً" عن الواقع والعالم المحيط به.. وإنه لَنوع من الانتحار الرمزي، قبل المادي.

كل كتابة شعرية هي موت انتحاراً، هي شنق الذات في عتمة الغموض الذي بقدر ما نضيئه يغدو أكثر غموضاً. فالشعر هو ذلك الضوء الومّاض الساطع الذي يعمي العين.. "أليست عين المصباح عمياء؟". يجد الشاعر نفسه أمام تناقضات الذات- الذات والذات - العالم والذات - اللغة (النصّ) والذات - الوجود... حاضر غائب، موجود في عتمة ضوئه. يشنق نفسه رمزياً ومجازياً في نصّه.. لهذا فما كل محاولة للانتحار المادي إلا نقل المجاز إلى الملموس: تطبيق للنصّ. لا يعني أبداً إننا نقول بضرورة أو جمالية هذه "القضية الفلسفية الأكثر جديّة"، بتعبير ألبير كامو. لكننا هنا نرسم معالم هذا الانتقال من المجاز إلى "المشنقة". فكم من شاعر وأديب مارس في حقّ نفسه "مجاز الغياب" حقيقة. فليس الموت رحيلاً نهائياً، مادام المبدع مقيماً في نصوصه.. فالنصّ ذكرى دائمة، وشاهد قبر حتى في حياة المؤلِّف. فأن تكتب يعني أنك مُنْتَحرٌ مجازاً".

الشعر حزمة نار

  • هاني نديم
    هاني نديم

أما الشاعر السوري هاني نديم فيقول إن: "الشعر مميت ويقتل صاحبه بالسيف أو بالأحلام"، تلك جملة شهيرة تُنْسَب إلى الشاعر توماس تشاتيرتون الذي مات باكراً متناولاً السمّ بعد سنوات قليلة من المجد الكبير. ماتوا من أجل شعرهم؟ هم كثر سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، لوركا قتلته قصائده حتماً، مثله مثل المُتنبي العظيم، وطرفة بن العبد يشبه جدّاً جون كيتس حتى وأن سبب وفاته في عُمر الـ25 كان السلّ، أوَلم يقل: هذا الدم الذي يخرج من جوفي ما هو إلا قصائد لم أستطع كتابتها؟

لعلّ مسار الشعر يشبه معمدانية النار في المسيحية، التعمّد بالنار، فإما عاش وإما مات، وإن عاش ستحرق ثوبه النار لاحقاً طال الزمان أم قصر. هل بدر شاكر السيّاب كان ليمت في هذا العُمر لولا أنه بالغ الشاعرية؟ لا أعرف حقّاً، هل كان انتحر خليل حاوي احتجاجاً على الاحتلال الإسرائيلي لولا أنه شاعر لم يستطع أن يكتب قصيدته حينها؟ "خليفةٌ يزني بعماته  يلعب بالدبوق والصولجان"، هذا بيت قاله بشّار بن البرد في الخليفة المهدي، فمكر له حتى جاء سبب مقتله فقتله!، وضّاح اليمن تغزَّل بأمّ البنين زوجة الخليفة الوليد بن عبدالملك، فجعله في صندوق ودفنه حياً.

سيلفيا بلاث التي انتحرت، قامت بهذا كي لا تخذل نصوصها في الموت والخلاص من الكآبة. وسيكاكو أيكوشاما كان مولعاً بشعر الـ"جيسي" الذي يُقال فوق رأس المُحْتَضِر في اليابان، فقطع وريده ليكتب جيسي كان يفكّر به.. ومات. الشعر حزمة نار، فإما أحرق، أو أضاء. وكثير، مَن أحرق واحترق وأضاء وقتل.