الفكرُ في الصّين اليوم

إنّ مشروع الحداثة الكبير الرامي إلى إحلال "الدين" محل "الخرافة" أحدث نشاطاً إبداعياً ملحوظاً طوال القرن العشرين في الصين، وذلك بظهور ديانات جديدة تأوّلت النموذج المسيحي الغربي.

  • غلاف كتاب
    غلاف كتاب "الفكرُ في الصّين اليوم".

الكتاب: الفكرُ في الصّين اليوم

-تحرير وإشراف: آن شنغ. 

-نقله عن الفرنسية: د. محمد حمّود. 

-الناشر: هيئة البحرين للثقافة والآثار. 

-الطبعة الأولى: المنامة، 2019 |

برزت الصين خلال السنوات الأخيرة، ليس كقوّة عظمى على المستويين الاقتصادي والعسكري فحسب، بل كقوّة منافسة على مستوى الثقافة والفكر كذلك، حسبما يرى العديد من المؤرّخين والباحثين الغربيين، الذين شرعوا بالانتقال من مرحلة التهوين أو التشويه لقضايا الفكر في الصين "المغلقة أو المنغلقة" إلى مرحلة الترويج مجدّداً، وبقوّة، للثقافة الغربية، والتي تستند في رأيهم إلى "تفوّق" اقتصادي وعسكري، بحيث لا يمكن لأي ثقافة منافسة أن تواجهها أو تهزمها في أي وقت. 

تقول المشرِفة على كتابات المساهمين (أغلبهم باحثون وأساتذة جامعيون فرنسيون)، آن شنغ، إن أصل هذا الكتاب يرجع إلى حالة مثبتة يوماً بعد يوم، وتتمثّل في مجموعة أفكار مسبقة تعلّقت بالصين ولا تزال سائدة حتى في بداية ألفيّتنا الثالثة؛ بل وعلينا أن نُفصح عن كونها سائدة بالخصوص بين نخبنا الملقّبة بالنخبة "المستنيرة"؛ وهي أفكار يعود أغلبها إلى أوروبا الأنوار (منتصف القرن السابع عشر). 

وخلال القرون الثلاثة الأخيرة التي شهدت تكوّن الحداثة الغربية وسيطرتها، تكوّنت عن الصين وترسّخت صورة صين صاحبة كتابة رمزية، خاضعة لموروث استبدادي، معزولة عن سائر بقاع العالم طوال قرون؛ وهو ما يفسّر جمودها الفلسفي والسياسي والعلمي الذي جاء الغرب في الوقت المناسب لإيقاظها منه!

من هنا جاءت فكرة تقديم نظرة أوليّة ومعلومات دقيقة ونقدية متّسقة للقرّاء والمهتمّين حول الفكر في الصين اليوم في كل جوانبه. والمسألة تتعلق بإثبات أنه ليس هناك فكر صيني أوحد، وبإبراز أن الصين لم تتوقف عن التفكير بعد العصور القديمة ولا بعد دخول الحداثة الغربية إليها. 

وما تقترحه آن شنغ ليس بانوراما موسوعية للفكر الصيني، بل عمليات سبر له واستعادة لقوامه وتأهيله من جديد باعتباره واقعاً حياً متحركاً على الدوام، ومُدرجاً في زمن تاريخي وفي فضاء أنثروبولوجي. 

تنتظم مقالات هذا الكتاب ضمن ثلاثة أجزاء: يهتم أوّلها بالعلاقة التي أقامها المثقّفون الصينيون القدامى والمعاصرون مع موروثهم الخاص من خلال دينامية ذاتية سابقة على كل تدخل خارجي؛ ومع ذلك باتت هذه العلاقة موضع تساؤل إثر خضوعها لتجربة قاسية ناجمة عن هجمة الحداثة، التي تجلّت تحديدًا باختراع أنواع جديدة مأخوذة عن المعارف الغربية في القرن التاسع عشر. 

وتناول الجزء الثاني بعضاً من تلك المعارف، وهو لا يزال يمثّل مشكلة حتى اليوم، ويعني به المؤلّف الفلسفة والدين والطبّ الذي يُنعت بالتقليدي. 

أما الجزء الثالث، فيتصدّى للميثات (الأساطير) الأكثر ثباتاً، والتي تدور حول الكتابة واللغة، إضافة إلى المسألة الحسّاسة الملازمة لها، أي الهويّة الصينية التاريخية، سواء كانت ثقافية أم قومية. 

ديناميات الحداثة 

في القسم الأوّل (ديناميات الحداثة)، وفيه فصول، يقرأ جاك جيرنيه (Jacques Gernet)، وهو مؤلّف لكتاب ظهر حديثاً عن وانغ فيزهي (Wang Fuzhi)، أحد أكبر العقول في الصين وأكثرها خصوبة في القرن السابع عشر. وقد أبان جيرنيه الطابع الحديث البارز لفكر فيزهي، ومن ذلك تصوراته المتعلقة بحياة المجتمعات البشرية على وجه الخصوص؛ وهي التصوّرات التي تشكّل إرهاصاً للنظريات المعاصرة في علم الحياة وعلم الاجتماع. 

من جهته، يبيّن نيقولا زيفيري  (Nicolas Zufferey) كيف تمّت استعادة (ديانة) الكونفوشيوسية المشهود لها بقدرتها على التكيّف خلال ألفيّتين ونصف من التاريخ، وكيف تمّ توظيفها من قِبل الحداثة الصينية، وكيف صارت تُستخدم وسيلة في الخطاب السائد لدى القادة السياسيين الحاليين؛ فنزْعتهم التسلّطية تلقى أصداء غير متوقعة في أدب الفروسية الشعبي. 

اختراع المقولات الحديثة 

يخلص زيفيري إلى أن للكونفوشيوسية ميزة تذكّرنا إلى أي حد يصل عدد المفاهيم التي تبدو لنا بديهية ولكنها في الحقيقة منتجات حضارية؛ وهي بالتالي بمعنى من المعاني مصنوعة. وهنا تكمن قوّة هذا التيار وضعفه في آنٍ واحد؛ أما قوّته فلأن الكونفوشيوسية تنطلق من الموجود وليس من المنشود. وأما ضعف الكونفوشيوسية فناجمٌ عن كونها قد لا تتلاءم تماماً مع الديموقراطية، أو مع أنظمة سياسية حديثة مغايرة تتطلّب شيئاً من التجريد الذي يُترجم نفسه في فكرة القوانين الكليّة والمطبّقة على الجميع. 

ولا يمكن لعملية الانتقال من التقليد إلى الحداثة - بل قل إلى ما بعد الحداثة - أن تتم إلاّ بإيجاد فئات جديدة في الصين تسعى إلى امتلاك ميادين المعرفة الحديثة المبنيّة على قاعدة القوّة الغربية. وتحت هذا العنوان قامت آن شنغ (Anne Cheng)، ضمن القسم الثاني من الكتاب (اختراع المقولات الحديثة: الفلسفة والدين والطب)، بتفحّص اختراع مقولة "الفلسفة" في الصين في بداية القرن العشرين بواسطة اليابان، ثم فحصت "تواريخ الفلسفة الصينية" بما هي جنس[أدبي] تكاثر إثر ظهور أعمال مؤسّسيه: هي شي (Hu Shi) وفنغ يولان (Feng Youlan) بين 1920-1930، وهي أعمال لا تزال حتى اليوم تغذّي العديد من المساجلات في الصين. 

وخلصت شنغ إلى أن مسألة "الفلسفة الصينية" لم تعد، ومنذ ما يزيد على نصف قرن، همّ المثقفين الصينيين وحدهم، وإنما صارت قضية تشغل كذلك الغربيين الذين يعتقدون أنهم يجدون في هذا التقليد الصيني طريقة "مغايرة" للتفلسف. ولنا هنا، في حقيقة الأمر، لقاء جميل في مستوى القمّة بين الرغبة الغربية في الآخَرية والرغبة الصينية في الهوية، حسب تعبير شنغ. 

مفهوم الدين في الصين 

أما فنسان غوسار(Vincent Goossaert)، فاهتمّ بظهور مفهوم الدين بمعناه الغربي الحديث في الصين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وهو البلد الذي لم يُعدم في هذا الصدد أن تنشأ فيه سياسات ذات نزعة توجيهية وقمعية، إنْ قليلاً أو كثيراً، ولكن رأت فيه النور أيضاً ظواهر تتمثّل في صحوة الديانات المحلية، بل وحتى ابتكار ديانات جديدة. 

وفي نهاية المطاف، فإنّ مشروع الحداثة الكبير الرامي إلى إحلال "الدين" محل "الخرافة" أحدث نشاطاً إبداعياً ملحوظاً طوال القرن العشرين الصيني، وذلك بظهور ديانات جديدة تأوّلت النموذج المسيحي الغربي تأوّلات لا سابق لها بناءً على هذا المشروع "الفاشل".

قضايا في الهويّة الصينية

تصدّى القسم الثالث من الكتاب (قضايا في الهويّة: الكتابة واللغة)، لبعض المكوّنات التي يُزعم أنها تشكّل الهويّة الصينية غير القابلة للاختزال، والتي يُنظر إليها من منظار آخَرية راديكالية. 

وقد قامت فيفيان أليتون (Viviane Alleton)،  بوضوحها وصرامتها المعهودين، بتفكيك منهجي للميثات التي تكاثرت بكلّ يُسر(في أوروبا خاصة بدءاً من عصر الأنوار، وحتى في الصين أيضاً)، والمتعلقة بالكتابة الصينية، والتي لا تزال قائمة حتى الآن، وذلك بفضل السّحر الذي تمارسه. 

وقدّمت أليتون تذكيراً مفيداً بالبنى الأساسية لهذه الكتابة، التي وإن كانت مغايرة للنظم الألفبائيّة، فهي مع ذلك ليست "لغزاً"، إذ لا تتطلّب استعدادات فيزيولوجية أو نفسية خاصة لتعلّمها وفكّ رموزها؛ وتبقى التخمينات المزعومة والمتعلقة بأصولها الدينية، بل وحتى السحرية، مواضيع للجدل. 

وهناك عالِم لسانيات آخر هو شي كزياوكان Chu Xiaoquan درس من جهته صفات الكتابة الصينية التي جعلتها عامل تواصل في المكان والزمان إلى حدّ أنها بلورت في ذاتها ضرباً من التمثّل للهويّة الثقافية الصينية، هذا بصرف النظر عن التجريدات المتكوّنة عن استيهامات الآخَرية التي تناولت اللغة الصينية. 

إثر ذلك، بيّن كزياوكان كيف تزعزعت هذه الهوية الثقافية تحت وطأة متطلبات التحديث بدءاً من النصف الثاني للقرن التاسع عشر، وكيف أن تخلّف الصين تُلقى مسؤوليته على خصوصيات الكتابة الصينية. 

مسألة الهوية في الصين

وتحتلّ مسألة الهوية منزلة مركزية في أقوال زهانغ يينديه(Zhang Yinde) ذات التوجه العصري الجليّ، والتي تنكبّ بالدرس على انبثاق "الصّينويّة"(sinite) في بداية تسعينات القرن العشرين. وإذ تستمدّ هذه القومية الثقافية من نوع جديد نسغ حياتها من نظريات ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمار وما بعد الاستشراق، وإذ إنها منكفئة على الطريقة "الأهلية" ومرتاحة لصعود الصين قوّة اقتصادية، فإنها تقدّم نفسها "بديلاً صينياً" داخل عملية العولمة. 

تجاوز الآخَرية

في خاتمة الكتاب (تجاوز الآخَرية: التفكير في العلم برياضيات الصين القديمة)، تقدّم كارين شِملا (Karine Chemla) تحليلاً صارماً لنصّ كتبه مارسيل غرانيه (Marcel Granet) في العام 1920، ولا يزال شديد النفوذ، وكان قدّم فيه للصينيين كيف أن لغتهم المكتوبة تشكّل عائقاً أمام الحداثة العلمية. وتنطلق شِملا من تحليلها لتتصدّى لأشدّ الأفكار المسبقة عناداً وهي أن الصين ما قبل الحديثة لم تنجح في بلوغ مستوى العلم، بل اكتفت بالمعارف العملية والنفعية، فلم تتمكن مطلقاً من الارتقاء إلى مستوى التعميم والتجريد(يفسّر غرانيه غياب التعميم والتجريد في الصين بالبنى اللغوية والكتابية في حدّ ذاتها). 

وإذ تتناول شِملا مثالاً من المدوّنات الرياضية في الصين القديمة، فإنها لا تكتفي بأن تبيّن لنا كيف أن أحكاماً كتلك التي يُطلقها غرانيه متأتية من تصوّر "للعلم" ضيّق الأفق ووضعيّ ومبهم، وإنما تبيّن لنا أيضاً كيف أن دراسة مستفيضة وشاملة وتاريخانية لهذه النصوص تسمح بتأويلات جديدة للممارسات الرياضية بشكل عام؛ وهذا ما يلزم إثباته الآن.