"القائمة الحمراء": هكذا راقبت الاستخبارات البريطانية المثقفين في القرن العشرين
الكتاب هو تاريخ جذاب لجهاز الأمن البريطاني وكيفية مراقبته السرية للكتاب والمفكرين البريطانيين في القرن العشرين.
يُعرف MI5، أو جهاز الأمن البريطاني، في الخيال الشعبي، بأنه فرع الدولة البريطانية المسؤول عن مطاردة أولئك الذين يشكلون تهديداً للأمن القومي للبلاد - من كتاب الطابور الخامس النازي خلال الحرب العالمية الثانية، إلى الجواسيس السوفيات خلال الحرب الباردة والمتطرفين المحليين اليوم.
هذا ما يوضحه كتاب "القائمة الحمراء: أم آي 5 والمثقفون البريطانيون في القرن العشرين" للروائي والكاتب المسرحي والمؤرخ والأكاديمي والباحث اليساري البريطاني ديفيد كوت.
بمساعدة نشر الوثائق الرسمية في الأرشيف الوطني، يظهر كوت في هذا التاريخ الراديكالي لجهاز الأمن في القرن العشرين، وكيف أنه غالباً ما تم الشك بأولئك الذين لم يشكلوا أي تهديد للأمن القومي. وبدلاً من ذلك، فإن هذا "التاريخ الآخر" لـMI5، الذي تم تجاهله في السرديات الرسمية، لم يكن غالباً مدفوعاً بالتحيزات السياسية لموظفي MI5، وشمل برنامجاً ضخماً للمراقبة ضد أي شخص يجرؤ على التشكيك في الوضع الراهن (الستاتيكو).
يروي كوت، وهو مؤرخ بارز وخبير في تاريخ الحرب الباردة، قصة العملية الضخمة التي قامت بها الدولة لتتبع أنشطة مجموعة من الصحافيين والأكاديميين والعلماء وصانعي الأفلام والكتاب وغيرهم، خلال القرن العشرين، ممن اعتبرهم جهاز الأمن البريطاني تهديداً للمصلحة الوطنية. ومن بين أولئك الذين تم تعقبهم شخصيات بارزة مثل كينغسلي أميس وجورج أورويل ودوريس ليسينغ وجون بيرغر وبنجامين بريتن وإريك هوبسباوم ومايكل فوت وهارييت هارمان وآخرون.
بحسب الكاتب ريتشارد نورتون تايلور، يُظهر الكتاب جديد إلى أي مدى قام جهاز الاستخبارات البريطانية MI5 بجمع معلومات عن آلاف الأفراد الذين لم يشكلوا تهديداً على الإطلاق لأمن بريطانيا، بينما تم تشتيت انتباه هذه الأجهزة عن معالجة التهديدات الحقيقية للجمهور. فقد قام MI5 بجمع معلومات عن المؤلفين والمؤرخين والممثلين والملحنين والأكاديميين والنشطاء طوال الحرب الباردة. وتم تحديد القائمة السوداء للأفراد الذين تمت مراقبتهم بمساعدة مكتب البريد، وإذاعة "بي بي سي" والمجلس البريطاني.
من خلال متابعة جهاز "أم آي 5" للكثير من الأشخاص الذين كان يعتبرهم "تخريبيين"، فقد تباطأ هذا الفرع الاستخباراتي في التعرف على التهديدات الأمنية في أيرلندا الشمالية ومن المتطرفين الإسلاميين. وكان ينبغي أن يكون التحدي الأكبر والأهم الذي يواجه أجهزة الأمن والاستخبارات هو تحديد التهديدات التي يتعرض لها الجمهور من قوى معادية فعلاً، بدءاً من أجهزة الدولة إلى الأفراد العنيفين بدافع من الأيديولوجيات المتطرفة. وكان أكبر إغراء لموظفي هذا الجهاز هو استخدام الموارد الخاصة والقوانين - الامتيازات - الموجودة تحت تصرفهم لجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن الأفراد.
يقول ضباط استخبارات بريطانيون إن الحرب ضد "الإرهاب" تزداد صعوبة، مقارنتها بالعثور على إبرة في كومة قش. لكن المشكلة هي أن الوكالات تبني المزيد والمزيد من أكوام التبن.
من خلال الوثائق، يختار كوت أكثر من 200 ملف، وهي جزء بسيط من مئات الآلاف من الملفات الشخصية جمعها جهاز MI5 خلال الحرب الباردة. إنها الأهداف الأكثر غرابة التي تم الكشف عنها في الأوراق التي تم الكشف عنها في الأرشيف الوطني في كيو، جنوب غرب لندن.
وأظهرت هذه الوثائق أن أولئك الذين تم التنصت على هواتفهم وفتح رسائلهم بواسطة MI5 بمساعدة الفرع الخاص للشرطة قد أعربوا في وقت أو آخر عن دعمهم للشيوعية أو تعاطفهم معها، وفي حالات نادرة انضم بعضهم إلى الحزب الشيوعي لبريطانيا العظمى، أو ممن كان لديه أصدقاء انضموا إلى هذا الحزب، وهم أشخاص لم يشكلوا بتاتاً تهديداً لأمن بريطانيا.
وكان من بينهم المؤلفون آرثر رانسوم، وجي بي بريستلي، وكينغسلي أميس، وأوليفيا مانينغ، ودوريس ليسينغ، وكريستوفر إيشيروود؛ والشعراء دبليو. أودن، وسيسيل داي لويس، وستيفن سبندر؛ والمؤرخون إريك هوبسباون وكريستوفر هيل وإي. بي. طومسون.
كما استهدفت MI5 الممثل مايكل ريدغريف، والمنتج المسرحي جوان ليتلوود، والملحن بنيامين بريتن وشريكه بيتر بيرز، والأكاديمي في كامبريدج موريس دوب، والصحافي كلود كوكبيرن، ولويس بيرنشتاين، مؤسس تلفزيون غرناطة، والعالم المشهور جاكوب برونوفسكي وبروس كنت، العضو البارز في حملة نزع السلاح النووي.
وتشمل القائمة أيضاً ملفاً عن القس هيوليت جونستون، عميد كاتدرائية كانتربري المعروف باسم "العميد الأحمر" لاقتراحه إجراء محادثات مع الاتحاد السوفياتي بشأن نزع السلاح النووي، إذ وضع جونستون ملصقًا كبيرًا على واجهة عمادته يعلن فيه "حظر المسيحيين للأسلحة النووية".
"الهنود والصينيون والزنوج"
وكشفت الأوراق أن جهاز "أم آي 5" كان يسجل بالتفصيل حركات ومحادثات أهدافها. قد لا يكون من المستغرب أن يكون ضباط MI5 قلقين بشأن التأثير المحتمل للمؤرخين هوبسباون وهيل، وما كان عليه الآن آرثر رانسوم، مؤلف كتاب "مغامرات السنونو والأمازون"، كان قد لفت انتباه MI5 لأول مرة كمراسل لصحيفة "مانشستر غارديان" في موسكو وتزوج سكرتيرة المنظر الماركسي الروسي ليون تروتسكي، إفجينيا بتروفنا شيليبينا.
أبلغ المسؤولون البريطانيون جهاز "أم آي 5" أن رانسوم كان "رفيقاً ذكياً ومثيراً للاهتمام ولكنه بلشفي خارج عن المألوف". وسرعان ما صحح ذلك القنصل البريطاني وضابط MI6 في موسكو روبرت بروس لوكهارت، معتبرين أن رانسوم كان رصيداً استخبارياً ثميناً خلال فوضى الثورة الروسية.
العديد من ملفات MI5 التي كشف عنها مليئة بالقيل والقال والمسائل التافهة التي ربما كان مراقبو الفرع الخاص في الجهاز وضباط MI5 ومتنصتو الهواتف يستمتعون بسعادة في قراءة هذه التقارير. في عام 1956، أبلغ الفرع الخاص أن دوريس ليسينغ، (الروائية البريطانية الحائزة على جائزة نوبل)، التي وصفها بأنها "ممتلئة الجسم"، انتقلت إلى شقة في شارع وارويك بلندن. وذكرت التقارير أن "شقتها كثيراً ما يزورها أشخاص من جنسيات مختلفة، بما في ذلك الأميركيون والهنود والصينيون والزنوج". وأضاف التقرير: "من الممكن أنه يتم استخدام الشقة لأغراض غير أخلاقية".
يتم الكشف عن ملفات MI5 بشكل عشوائي في الأرشيف الوطني. ولا توجد طريقة لمعرفة الملفات التي تظل مغلقة ومتى سيتم إصدارها.
بحلول منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، كان MI5 قد جمع حوالى 600000 ملف شخصي قيل إن الملف الأول هو للزعيم القومي الأيرلندي إيمون دي فاليرا، والملف الثاني للزعيم الشيوعي الروسي لينين.
600 ألف ملف شخصي
لم تكن جميع الملفات الشخصية التي تحتفظ بها وكالات الأمن والاستخبارات البريطانية مقتصرة على اليساريين الذين اعتُبروا مخربين. بعض الملفات كانت لمتعاطفين مع ألمانيا النازية. وهي تشمل ملفاً عن اللورد روثرمير، المالك الأول لصحيفة "دايلي ميل" الذي أرسل سلسلة من البرقيات الداعمة والتهنئة لقادة ألمانيا النازية، بمن فيهم هتلر، قبل أشهر فقط من اندلاع الحرب العالمية الثانية.
على عكس الولايات المتحدة، لم تكن هناك مكارثية علنية في بريطانيا، ولا توجد محكمة كنغر تحاكم التهديدات الأمنية المزعومة المتعاطفة مع الاتحاد السوفياتي. كانت القائمة السوداء أكثر دقة وسرية، وتم تنفيذها بمساعدة مكتب البريد، وإذاعة بي بي سي والمجلس البريطاني.
وقد تم تشجيع الصحافيين على اتباع الخط من قبل قسم أبحاث المعلومات في وزارة الخارجية. كان هذا القسم وكالة مشبوهة تزوّد الصحافيين بالدعاية، بدرجات متفاوتة من الدقة، موجهة ضد موسكو وآخرين في جميع أنحاء العالم يُحتمل أن يكونوا معادين لبريطانيا، بمن في ذلك القادة القوميون في أفريقيا.
استمر جهاز MI5 خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي - وما بعدها - في استهداف مجموعة واسعة من الأهداف، بما في ذلك الاتحاد الوطني لعمال المناجم والمجلس الوطني للحريات والمجلس الوطني للحريات المدنية. لم يتم الإفراج عن الملفات المتعلقة بعمليات MI5 اللاحقة هذه في الأرشيف الوطني وبالتالي لا يغطيها كتاب كوت.
كشف ضابط MI5 السابق، ديفيد شايلر، عن المزيد من المعلومات حول ملفات الوكالة، بما في ذلك تلك المتعلقة بوزراء حزب العمل السابقين، جاك سترو وبيتر ماندلسون، وعن البيتلز، جون لينون.
وأوضح جهاز MI5 على موقعه على الإنترنت: "لقد زُعم كثيراً، في الماضي، أننا حققنا بشكل منهجي في النقابات العمالية ومجموعات الضغط المختلفة. لم نحقق البتة مع الأشخاص لمجرد أنهم كانوا أعضاء في نقابات عمالية أو منظمات حملات.. لكن الجماعات التخريبية سعت في الماضي إلى التسلل ... إلى مثل هذه المنظمات كوسيلة لممارسة التأثير السياسي".
درس من الماضي
اعترف الرؤساء المتعاقبون لجهاز MI5 أنه من خلال تعقب الجهاز للعديد من الأفراد الذين يُعتبرون "تخريبيين"، كانت الوكالة بطيئة في التعرف على التهديدات الأمنية الخطيرة بما في ذلك تلك من الجماعات شبه العسكرية في أيرلندا الشمالية، وفيما بعد، من المتطرفين الإسلاميين. فقد تم تنفيذ الهجمات الإرهابية الأخيرة في بريطانيا (وفي الغرب ككل) من قبل أفراد تم تحديدهم بالفعل على أنهم تهديدات أمنية محتملة، كما أفادت لجنة الأمن والاستخبارات في البرلمان البريطاني.
بعد هجمات 7/7 في لندن في عام 2005، عندما تم الكشف عن ظهور اثنين من المفجرين على راداره، قال جهاز MI5 إنه مُنع من تعقب جميع المتورطين بسبب نقص الموارد.
يقول الكاتب إن الدرس المستفاد من الماضي هو أن تكديس المعلومات يمكن أن يعمي المسؤولين عن التهديدات الحقيقية للأمن القومي الحقيقي. ومع ذلك، يبدو أنه لم يتم تعلّم الدرس. الآن، يتم تشجيع وكالات الدولة من خلال مشروع بريفينت لمنع الناس "من الانجرار إلى الإرهاب". إذ يستمر إغراء صنع الخوف والذعر من أفراد لا يمثلون أي تهديد على الإطلاق للأمن القومي، كما هو الحال عندما تصنّف الشرطة هؤلاء مثل النائبة الخضراء، كارولين لوكاس، على أنهم "متطرفون داخليون" بسبب أنشطتها وحملاتها السياسية.
ستجعل التطورات في أجهزة الكمبيوتر القوية وتقنيات المراقبة من الأسهل جداً على وكالات الأمن والاستخبارات جمع المزيد والمزيد من المعلومات الشخصية. لكن سجلها، كما يوضح كوت لا يبشّر بالخير.