اللغز الأيديولوجي بين أميركا و"إسرائيل

المستوطنات الأولى على أرض فلسطين أقامها مسيحيون صهيونيون في عام 1850 بتمويل من رجال أعمال أميركيين، بحيث نرى أن إقبال المسيحيين الصهيونيين على الاستيطان أشد من إقبال اليهود الصهيونيين، وهم المؤمنون بالعودة الثانية للمسيح. 

  • "اليهودية بين حضانة الشرق الثقافية وحضانة الغرب السياسية" لعفيف فراج

ذلك القول الذي نُسب إلى وليم شكسبير "حيثما يوجد الذهب يوجد يهوه". أمن أجل الذهب الأسود زُرعت "إسرائيل" في أرضنا لتكون الخنجر بين عرب الشام وعرب الجزيرة، وبين عرب الفرات وعرب النيل؟

 قد نجد الإجابة في كتاب الدكتور عفيف فراج "اليهودية بين حضانة الشرق الثقافية وحضانة الغرب السياسية" الصادر عن دار الاَداب في بيروت. العودة ضرورية إلى هذا الكتاب، الذي يحاول تفكيك اللغز اليهودي، إن في العالم أو في التاريخ.

على الرغم من كونه يتألف من 226 صفحة، فإنه يأخذ شكلاً موسوعياً لتنوع النقاط الحساسة التي يتطرق إليها. من "مكونات الشخصية اليهودية" إلى "الجدل اليهودي الإسلامي". مقاربات في منتهى الشفافية، وفي منتهى الصدقية، لندرك من خلالها أي نوع من البربرية يستوطن تلك الخاصرة العربية التي تتأجج فيها الحرائق، وتتأجج فيها الدماء.

وإذا كان فيليب حتي قال إن عرب جنوبي الجزيرة نصحوا العبريين بتحويل إلههم من إله قبلي إلى إله كوني، فإن الميثولوجيا العبرية تتحدث عن ذلك اليهوه الذي كان يقيم بكهف، ويرشق السابلة بالحجارة (الآن بالقنابل النووية)، لنصل إلى باروخ سبينوزا (1632 ـ 1677) الفيلسوف اليهودي الهولندي الذي طارده الحاخامات بالخناجر إلى البرتغال لأنه اتهمهم بمحاولة تصنيع الإله الآخر، من خلال التأويل الأبوكاليبتي للنص. 

هنا يهوه الذي ينقل عنه أشعيا "حيّ أنا إلى الأبد. سللت سيفي البارق، وامسكت بالقضاء يدي. أزداد نقمة على أضدادي، ويأكل سيفي لحماً بدم القتلى والسبايا، ومن رؤوس قوات العدو"، ليسأل سبينوزا: "ماذا فعلتم، أيها الأشرار، بالله؟". بهذا الكلام، وغيره، يستشهد بنيامين نتنياهو والقطبان الآخران في الائتلاف، إيتمار بن غفير، وبسلئيل سموتريتش، والذين قالت المؤرخة الأميركية أفيفا تشومسكي "إنهم يدفعون البشرية إلى المقبرة"!

 ثنائية الدم والمال 

ربما كان البحث عن، أو في، الشخصية اليهودية، في أبعادها الماورائية، الأكثر تعقيداً حتى من الناحية الأنثروبولوجية، من أي شخصية أخرى بين مجتمعات (وأجناس) العالم. 

المؤلف يشير إلى التداخل العضوي، وحتى التداخل اللاهوتي، بين المال والحياة، بعيداً عن سلطة القيم. في "سفر الخروج"، نرى دعوة يهوه موسى إلى الخروج بشعبه من مصر، لكن على اساس ألّا يرحل خاوي اليدين "... بل تطلب كل امرأة من جارتها، ومن نزيلة بيتها، أمتعة فضة، وأمتعة ذهب وثياباً، وتضعونها على بنيكم وبناتكم، فتسلبون المصريين".

 فراج ينقل عن الدكتور عبد الوهاب المسيري (صاحب "الموسوعة اليهودية"): "كان المعبد المكان الأهم في حياة الجماعة اليهودية التي تعيش داخل الغيتو، حيث كان الحاخام الشخصية المركزية، دون أن يضطلع بدور الوسيط بين الإنسان والله، حتى إنه كان يعمل في الشؤون المصرفية. وكان الحاخام ساسون فرتماير تجسيداً لتداخل الديني والدنيوي في الوعي العبري، إذ كان من أهم المصرفيين في المجر والنمسا".

يلاحظ أن "ما اشتهر عن شغف اليهودي بالمال يتصل بغريزة البقاء، إذ تعلّم أن المال ليس وسيلة حياة بل هو الحياة ذاتها". وإذ كان اليهود موجودين في قلب الدورة الاقتصادية، والمالية، الأميركية والأوروبية، فلا بد من أن يكونوا استشعروا أن توجههم إلى فلسطين، كقاعدة للمصالح الغربية، قد يمكّنهم من إدارة الشرق الأوسط.

لنذكر أن مارتن لوثر، في مرحلة انتقاده الليتورجيا اليهودية، استغرب الصورة التي أظهرها الحاخامات ليهوه. الصورة الإشكالية التي بدا فيها نصف إله ونصف شيطان، ويدعو إلى الأخذ بثقافة الاجتثاث والإبادة. وإذا كان دافيد بن غوريون، أول وأشهر رئيس حكومة في "إسرائيل"، تمنى لو يستفيق، ذات يوم، وقد زالت غزة عن الوجود كونها قنبلة ديموغرافية في الخاصرة، فلقد ورد في "سفر صفنيا" "ستكون غزة مهجورة، وأشقلون خراباً، ويطرد سكان أشدود عند الظهيرة، وتُقتلع عقرون من مكانها".

وكان العالم اللاهوتي الألماني هنريتش بولينجر قال "لا أدري ما اذا كانت ستصل إلينا قهقهات، أم بكائيات، التاريخ، أمام تلك القراءات العرجاء للنصوص المقدسة، والى حد وصف يهوه كمتواطئ مع الأحبار لتخريب الأزمنة".

 ثقافة الإبادة

بولينجر توقف عند "سفر الخروج" الذي يقول فيه الرب "... فإن ملاكي يسير أمامك ويجيء بك إلى الأموريين والحثيين، والفرزيين، والكنعانيين والحيويين واليبوسيين فأبيدهم... وأرسل أمامك الزنابير فتطرد الحويين، والكنعانيين، والحثيين، أمامك. لا أطردهم في سنة واحدة لئلا تصير الأرض خربة، فتكثر عليك وحوش البرية. قليلاً قليلاً أطردهم من أمامك إلى أن تثمر وتمتلك الأرض".

هل يهوه، الذي قادهم إلى فلسطين لإبادة أهلها، منذ أن قام البارون دوروتشيلد بتمويل حملة "أحباء صهيون"، منتصف القرن التاسع عشر، لإقامة مستوطنات هناك، برعاية رئيس الوزراء البريطاني آنذاك اللورد بالمرستون؟

"إسرائيل" البريطانية

إذ يوجد يهوه حيثما يوجد الذهب، يقول بعض المراجع إن اليهود، الذين وصل بعضهم إلى العالم الجديد عام 1613، أرسلوا إشارات إلى يهود الضفة الأخرى من الأطلسي، مفادها أن "أرض الميعاد هنا". البداية كانت من الأرض الإنكليزية، حيث نشأت الصهيونية المسيحية في القرن السابع عشر. الطهرانيون (البيوريتانز) تماهوا مع الإسرائيليين القدامى، لتوصف بريطانيا في عهد كرومويل، الذي تسلم السلطة عام 1649، بـ"اسرائيل البريطانية" (أليست الولايات المتحدة الآن "إسرائيل الأميركية"؟)، وبات الله "رب الجنود"، أما الإنكليز فهم "أبناء إسرائيل، بعد أن تعالت الدعوة إلى جعل الشريعة الموسوية ملزمة للأمراء المسيحيين. 

 في يومياته، كتب تيودور هرتزل "في مؤتمر بازل (1897)، وُلدت الدولة اليهودية، لكن الكنيسة البروتستانتية البريطانية أطلقت الصهيونية، كحركة سياسية قبل أكثر من 300 عام من انعقاد هذا المؤتمر". حتى إن بيان نويهض كتبت "أن اليهود كانوا آخر من اكتشف الصهيونية في أوروبا"!

ويقول الدكتور فراج "حين بدأ الطهرانيون الإنكليز هجرتهم إلى أميركا عام 1660، وهو العام الذي شهد انهيار الكومنولث الذي أقاموه، وعودة الملكية إلى بريطانيا، تخيّلوا أنفسهم في موقع العبرانيين. ويذكر (الحاخام البارز والكاتب الأميركي) لويس إسرائيل نيومان أن المستوطنين الإنكليز البروتستانت على الأرض الأميركية، بتداخلهم، لاهوتياً وتاريخياً، مع الإسرائيليين القدامى، كانوا يتحدثون عن أنفسهم بكونهم "إسرائيل المسيحية"، ويصفون بريطانيا التي خلفوها وراءهم بـ "أرض مصر"، كما نعتوا الملك جيمس بـ "الفرعون"، فضلاً عن المحاكاة بين المحيط الأطلسي والبحر الأحمر. أما أميركا فهي "أرض كنعان الجديدة" أو "أرض الميعاد".

السؤال البديهي: لماذا إذاً لم تقم "الدولة اليهودية" في أميركا، بل في أرض عربية؟ هنا يتحدث الدكتور فراج عن مصالح سياسية، واقتصادية، أوروبية، هي التي أدارت البوصلة (التوراتية) في اتجاه فلسطين. ألم يقل لويد جورج، شريك آرثر بلفور في الوعد المشؤوم، إن "الإنكليز ليسوا، فقط، الأكثر براعة في قراءة التاريخ. إنهم، أيضاً، الأكثر براعة في قراءة الجغرافيا...".

إبادة الهنود الحمر

يعود المؤلف إلى فيلسوف التاريخ البريطاني آرنولد توينبي، الذي فسّر حرب الإبادة التي شنها الطهرانيون على السكان الأصليين في العالم الجديد، باعتقادهم "أنهم الإسرائيليون، شعب الله المختار المكلف إبادة الهنود الذين ألقاهم الله بين أيديهم". واتخذ المهاجرون الطهرانيون الرواد من القادة العسكريين العبرانيين، أمثال باركوبا ـ قائد الثورة ضد روما عام 135 م ـ مثالاً لهم".

ويذكر نيومان أنهم كانوا يُسقطون على أعدائهم من السكان الاصليين اسماء الشعوب التي خاضت الحروب مع العبريين، كما أطلقوا أسماء مدن وقرى في فلسطين، يَعُدّونها عبرية، على مستوطناتهم المستحدثة.

كما يشير إلى أن "ولايات أميركية عدة اعتمدت النسق الموسوي في الحكم، مثل كونتيكيت، ونيوجيرسي، ونيو هيفن. وفرض المهاجرون الأوائل تعلّم اللغة العبرية في مدارسهم وجامعاتهم، حتى إن أول شهادة دكتوراه منحتها جامعة هارفارد (عام 1642) كانت بعنوان "العبرية اللغة الأم"، وأول كتاب كان "سفر المزامير"، وأول مجلة كانت "اليهودي".

إلى ذلك، فإن "المستوطنات الأولى على أرض فلسطين أقامها مسيحيون صهيونيون في عام 1850 بتمويل من رجال أعمال أميركيين، بحيث نرى أن إقبال المسيحيين الصهيونيين على الاستيطان أشد من إقبال اليهود الصهيونيين، وهم المؤمنون بالعودة الثانية للمسيح". 

وينقل الدكتور فراج مقتطفات من مقالة للباحثة الأميركية غريس هاكسل، بعنوان "لماذا يدعم المسيحيون الصهيونيون إسرائيل". تقول "في مدينتي، كان المسيحيون يتقبلون كل كلمة يجدونها في الإنجيل، وخصوصاً العبارات القائلة إن اليهود شعب الله المختار، وإن الله يبارك من يباركهم، ويلعن من يلعنهم".

رؤساء أميركيون واليهود

هكذا تم اختراق منطقة اللاوعي في رؤوس الأميركيين. الرئيس الأميركي الثاني (بعد جورج واشنطن) جون آدامز كان أول رئيس أبدى تعاطفه مع فكرة "عودة" اليهود إلى فلسطين، قائلاً "أتمنى أن أرى ثانية أمة اليهودية (منطقة في فلسطين) في يهوذا".

أما الرئيس الثالث، توماس جيفرسون، وهو من أهم الرؤساء، وأحد واضعي الدستور، فاقترح استلهام رمز أميركا من التوراة. بدلاً من النسر "تمثّل أبناء إسرائيل وفوقهم غيمة تقيهم لهيب النهار، وعمود نور يضيء لهم الليل".

ونوّه ناحوم غولدمان، أحد مؤسسي المؤتمر اليهودي ورئيسه، وكذلك الرئيس السابق للمنظمة الصهيونية العالمية، بالرئيس وودرو ويلسون، "الذي لولاه لكان من المستحيل إصدار وعد بلفور".

وفي عام 1944، أصدر الرئيس فرنكلين روزفلت بياناً جاء فيه: "نحن نؤيد فتح أبواب فلسطين للهجرة، والاستعمار الصهيوني من دون قيد أو شرط، ونفضل تلك السياسة التي تؤدي إلى قيام كومنولث يهودي ديمقراطي حر هناك". أما الرئيس هاري ترومان، الذي كان أول من اعترف بـ"إسرائيل"، وأول من كرّس سياسة المساعدات، والقروض لها، فذكر أن "فكرة البعث اليهودي تحرك في أعماقي مشاعر لها مغزاها".

ونقل مناحيم بيغن، في أوراقه، عن ترومان قوله له "لو كنت في فلسطين، في إبّان الحكم البريطاني، لالتحقت بالمنظمات (الارهابية، الهاغانا، وشتيرن، والإيرغون..)"، مع التذكير بأنه، لدى اندلاع حرب عام 1948، أرسل ترومان طائرات حربية لمؤزارة "إسرائيل"، وأغارت على الجيش المصري في صحراء النقب.

ما سوف نفعله بالعرب 

الكتاب يستعيد قول حاييم وايزمان ـ أول رئيس للدولة العبرية ـ "إني على ثقة بأن العالم سيحكم على الدولة اليهودية بما سوف تفعله بالعرب". ماذا فعلوا بالعرب وقد تجاوزوا في وحشيتهم كل برابرة التاريخ، من دون أن يشفع بالعرب ما قاله توينبي، ومفاده أن "المكان الوحيد الذي ازدهر فيه اليهود هو البلدان الإسلامية (ويقصد البلدان العربية)، وبخاصة في الأندلس".

وفي كتابها "تاريخ الله"، لاحظت البريطانية كارمن أرمسترونغ "أن الصليبيين الذين احتلوا القدس عام 1099 انقضّوا على اليهود والمسلمين بضراوة يشوع وذبحوهم بوحشية صدمت الأوروبيين أنفسهم، حتى إن بعض ملوك التتار تحالفوا مع البيزنطيين، ومع البابا نفسه ضد اليهود والمسلمين".

ويذكر الدكتور فراج أنه حين دخل العرب الاسكندرية و"راعتهم فخامتها رفضوا طلب البطريرك المسيحي إبعاد اليهود عن المدينة، ما أدى إلى وضع حد للصراع الألفي بين الإسكندرية وجاليتها اليهودية. والثابت أن اليهود تقلّدوا مناصب عالية في دولة الخلافة، أسوة بالمسيحيين والزردشتيين".

وبشأن الفارق (بل الفوارق) بين حياة اليهود في الدول الإسلامية (العربية) واليهود في أوروبا، يقرّ المؤرخ الصهيوني الشهير سيمون دنباو "بينما كان اليهود في إسبانيا وشمال أفريقيا ينعمون بالسلام،والحرية الدينية خلال القرون الوسطى، كان يهود العالم المسيحي يعيشون على أرض بركانية تهدد بابتلاعهم في أي لحظة".

في مقابل ثقافة التسامح التي انتهجها العرب، دعا المفكر الصهيوني موسيس هس (1812 ــ 1875) اليهود المهاجرين إلى فلسطين إلى "تثقيف القطعان العربية المتوحشة". لكن، ألم يكن هو الذي قال "إن اللاسامية قدَر لا يمكن اجتثاثه. حتى لو تحولنا إلى مسيحيين، وحتى لو اندمجنا، فلن ننجو من عالة العداء. ماذا نفعل بالأنف اليهودي (المحدب) والشعر الأجعد الأسود؟". أين القطعان الوحشية هنا؟

بإطلالة بانورامية، وبرؤية تحليلية مكثفة، ذهب الدكتور عفيف فراج إلى أقاصي الشخصية اليهودية والى أقاصي التاريخ اليهودي، والى الحد الذي جعلنا نتوقف عند ذلك الركام من العُقَد الفرويدية التي تتحكم في البنية الفلسفية لتلك الشخصية، كما في البنية الفلسفية لذلك التاريخ.

ما نراه ترجمة ميدانية لهذا الركام، ليس الآتين من قاع الأيديولوجيات، ومن قاع الأزمنة، فحسب. إنهم أيضاً الآتون من قاع جهنم، وإلّا فكيف لهم أن يصنعوا جهنم تلك في الأرض؟

هكذا كان رأي الفيلسوف الألماني يوهان فيخته: "لا ندري ما إذا كان الحاخامات في العربة التي يجرها يهوذا، أم تلك التي يجرها الشيطان". التوصيف يكفي ليكون التماهي مع يهوذا ومع الشيطان في آن.

 قبل غزة، كان هناك لبنان. لنتذكر ما قاله المؤرخ الإسرائيلي، شلومو ساند، صاحب "اختراع أرض إسرائيل"، غداة حرب عام 2006، "لكأن يهوه هوى".