بهاء طاهر.. غروب أخير لصاحب الواحة

أديب مصري متميز رحل أمس. كان قد رد "جائزة مبارك" لأنه "أهدر دماء المصريين".. من هو بهاء طاهر؟

  • بهاء طاهر.. غروب أخير لصاحب الواحة

"من يتعذب يتعذب وحده، ومن يمت يمت وحده"، يقول الأديب المصري بهاء طاهر، الذي رحل عن عالمنا أمس الخميس، عن عمر ناهز 87 عاماً، بعد صراع مع المرض. إلا أنه لم يمت وحده، بل رحل معه بعض من روح مصر وقوتها الناعمة، فهو المحب لهوية هذا البلد، المخلص لقضيته، وللدور الحقيقي للمثقف التنويري، لا الذي يلهث وراء الجوائز والتكريمات.

أمه أورثته حب القصص ويوسف إدريس قدمه

ولد بهاء طاهر بمحافظة الجيزة في 13 كانون الثاني/يناير من عام 1935، ونشأ في أسرة كبيرة العدد، متوسطة الحال. كان والده مدرّساً للغة العربية، درس في الأزهر وتخرج في دار العلوم في عشرينيات القرن الماضي، وتجول في أنحاء مصر وحطّ به الرحال في الجيزة، حيث بلغ التقاعد وبقيت الأسرة في هذه المدينة، وظل يحلم أن يبني بيتاً في الكرنك، في صعيد مصر مسقط رأسه.

ووفق مقال للكاتب محمد رفاعي، بعنوان "بهاء طاهر الأديب الذي لا يستعير أصابع أحد للكتابة"، فإن صاحب "واحة الغروب" لم يذهب إلى القرية إلا في إجازات قصيرة، لكن والدته "كانت قريته التي لم تتغير طوال حياتها، لا لهجتها ولا عاداتها الصغيرة، وكانت تفاصيل الحياة في القرية وتاريخ أسرها والعلاقات، موضوعاتها المفضلة في البيت"، ومن ثم بقي يعرف تفاصيل القرية وتطوراتها.

امتلكت والدة طاهر موهبة فطرية في رواية القصص، وكانت تمارس هوايتها عندما كان يزورهم أحد الأقارب من الصعيد، لتتبادل الأخبار والحكايات، وتجدد معلوماتها كل عام، وبينما كان الطفل يسمع تلك القصص باستغراق كامل، وبتفاصيل دقيقة، نما بداخله حب الحكايات، وبقي على هوايته في القراءة والاطلاع، وتنمية موهبته، حتى نشرت أولى قصصه القصيرة في مجلة "الكاتب"، التي قدمها له الأديب يوسف إدريس، وهو الأمر الذي لم ينسه، بل بقي يذكره قائلاً: "قدمها بصورة جميلة جداً تشعرني أنه أعطاني هذه الدفعة للأمام".

"خير لي أن أكون مقلاً"

بهاء طاهر روائي وقاص ومترجم مصري، ينتمي إلى جيل الستينيات، يعدّه البعض مؤسس الأدب المصري الحديث، وقد تمثل منجزه في عدد من المجموعات القصصية والروايات وبعض الترجمات، ويراه البعض أديباً مقلاً في إنتاجه، إلا أن أحداً لا ينكر فضله وشهرته الواسعة، وتأثير أعماله على الأجيال المتعاقبة.

قدم 4 مجموعات قصصية، أولها "الخطوبة" عام 1972، و"بالأمس حلمت بك" 1984- و"أنا الملك جئت" 1989، و"ذهبت إلى الشلال" 1998. أما عن الرواية، فقد كانت الأولى "شرق النخيل" عام 1985، ثم "خالتي صفية والدير" 1991، "الحب في المنفى" 1995، و"نقطة نور" 2001، ورائعته "واحة الغروب" 2006، التي حازت جائزة بوكر في دورتها الأولى.

أما السبب في كون طاهر كاتباً مقلاً، فقد أرجعه الكاتب إلى أنه لا يخطط لروايته أو كتابة القصة مسبقاً، أسوة بأستاذه يحيى حقي، وأيضاً تأثراً بعبارته الخالدة: "خير لي أن أكون مقلاً عن أن أكون مدلساً"، وجاء في حوار له مع جريدة "الأهرام" عام 1998، أنه لو أجبر نفسه على الكتابة لوجد ما كتبه دون المستوى، ومن ثم، تخلص منه فوراً.

تميز أدب بهاء طاهر بسمات عدة، أبرزها الواقعية العصرية، التي يرى بهاء جاهين أنها من سمات المرحلة المبكرة "فلا تخرج قصصها عن قاهرة الستينيات والسبعينيات إلا في ما ندر.. بينما تأتي مرحلة الثمانينيات لتعكس اهتماماً واضحاً بمصر القديمة تراثاً وتاريخاً (قالت ضحى – أنا الملك جئت- محاكمة الكاهن كاي – نن)".   

كان صاحب "خالتي صفية والدير" واعياً بواقعيته، فهو لم ينشغل بالتجريب في قصصه أو رواياته، بل يقول "إذا اعتبر الكاتب التجريب في الأدب قضيته، فيكون قد انتهى إبداعياً"، فالتجريب لديه ليس غاية في ذاته، بل "محاولة لكي يقول الكاتب ما لم يقله غيره، وأن يضيف جديداً لم يكن متاحاً من قبل"، كما قال في الحوار نفسه.

سمة أخرى يرصدها جاهين في أدب طاهر، وهي لغة السرد، إذ يراها تلتزم بتقشف شديد "لا يخرج عن الوصف المحايد للحدث من دون انزلاق إلى نزاعات البلاغة اللفظية والتلوين العاطفي أو تدخل ذات الكاتب المباشرة في الحدث بأي شكل من الأشكال؛ كالتعليق أو الشرح أو التبرير أو إدانة شخصية أو الدفاع عن أخرى.. إلى آخره".

ويضيف: "لكن، تحت سطح هذا الحياد البارد، تتدفق عاطفة حارة مكبوتة، لا يسمع هديرها إلا الذي فطن إلى ما بين السطور، أو إلى دلالات التفاصيل الصغيرة التي يسوقها لك السرد بلا تعليق".

رأى طاهر أن اللغة هي صراع الكاتب الأساسي، معدّاً التفنن في اصطناع لغة غنية بالألفاظ الضخمة ليس هو الإبداع، مضيفاً: "أتمنى أن تصل اللغة والإبداع إلى أكبر قطاع من القراء، من خلال اللغة اليسيرة السهلة، الصعبة جداً في  الوقت نفسه، التي تحرص على التواصل مع القارئ من خلال ملامحها وبساطتها وجمالها الخاص".

وربما اللغة هي ما حملته على أن يقول في كتابه "أبناء رفاعة"، إنه "يجب على المثقف أن ينطلق من تراث الشعب وأن يخاطبه باللغة التي يفهمها"، فهو يرى أن ما حققه المثقفون المصريون من إنجازات، بدءاً من رفاعة الطهطاوي وصولاً إلى طه حسين، سببه أنهم استطاعوا أن يخاطبوا الشعب منطلقين من تراثه وباللغة التي يفهمها، "لكن منذ عشرين أو ثلاثين عاماً والمثقفون يقولون كلاماً غير مفهوم على الإطلاق، ولا يمت بصلة للواقع المعاش، ويستغربون بعد ذلك أن الناس لا تستمع إليهم، وذلك لافتقادهم نقاط الالتقاء بالناس".

نجح بهاء طاهر في كسر الحاجز الذي ضُرب حول المثقف المصري، فبالرغم من تركه مصر، وسفره إلى عدة دول حيث عمل مترجماً، وإقامته في جنيف بين الأعوام 1981 و1995، كان من أكثر الأدباء وصولاً إلى جيل الشباب، بل وساهم تحويل روايته "خالتي صفية والدير" إلى عمل درامي، في معرفتها على نطاق واسع، لا سيما بعدما حقق المسلسل التلفزيوني الذي عرض عام 1994، نجاحاً كبيراً.

حصل طاهر على الكثير من الجوائز والتكريمات والأوسمة، من بينها: جائزة الدولة التقديرية في الآداب سنة 1998. وجائزة جوزيبي اكيربي الإيطالية سنة 2000 عن "خالتي صفية والدير"، وأيضاً جائزة آلزياتور Alziator الإيطالية لعام 2008 عن "الحب في المنفى"، والجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) في دورتها الأولى عن "واحة الغروب". بالرغم من ذلك، كان يرى الأمر  مثل وضع "باقات الزهور على قبور الموتى"، لا سيما في ظل غياب الوجود الفعلي للمثقفين والأدباء.

وقد جاء تأييده لثورة 25 يناير 2011، ورده خلالها لجائزة مبارك التي كان قد حصل عليها قبل سنتين، لأنه "أهدر دماء المصريين الطاهرة"، تأكيداً على دور المثقف وموقفه من الناس وانحيازه إلى صفوفهم.