بيتر بروك.. كيميائي المسرح المباشر

جمع بين المسرح والسينما، وأعاد إنتاج أعمال شكسبير بطريقة مختلفة.. في "اليوم العالمي للمسرح"، من هو بيتر بروك؟

احتفل المهتمون بالشأن المسرحي في العالم يوم 27 آذار/مارس بــ "اليوم العالمي للمسرح"، ولعل اسم بيتر بروك (1925 -2022) الذي بعث برسالة يعود تاريخها إلى عام 1988 احتفاءً بهذه المناسبة، بقي حاضراً في الأعمال التي يزخر بها أب الفنون في الغرب والشرق على السواء، خاصة وأن بروك كان صاحب نظرية مجدّدة هزت الأركان القديمة لتركيبة النص المسرحي، وخلخلت البنية الذهنية لمفهوم النشاط الركحي.

وقال في تلك الرسالة إنّ الثقافات تتمازج وهو ما يمكّن جمهور المتفرجين للأعمال المسرحية من الاتحاد حول حقائق تميز كل ثقافة عن غيرها، وفي الآن ذاته، حول حقائق عالمية. وقد ظل بيتر بروك طوال مسيرته المهنية وفياً لفكره المشبع بضرورة تمازج الثقافات، فكيف نظر إلى المسرح وإلى الأعمال التي اقتبسها من بلدان كثيرة؟

ولع بالمسرح منذ سن صغيرة 

بعد الثورة الروسية، رحلت عائلة بيتر بروك إلى بريطانيا حيث ولد في 21 آذار /مارس عام 1925. في طفولته، أبدى بيتر شغفاً بالمسرح حيث صنع له والده ركحاً بسيطاً في غرفته التي كان يتقاسمها مع  شقيقه، وكان أن صنع بيتر بروك شكسبير مختلفاً.

فقد حوّل هاملت إلى عرض  للفرجة بواسطة العرائس المتحركة. ولم يمنعه شغفه بهذا الفن من أن يحصل على شهادة في الأدب المقارن من جامعة أوكسفورد، ويبدأ كتابة نصوص للتلفزيون، حيث قدّم سنة 1942 "التاريخ المأساوي للدكتور فاوست" للكاتب كرستوفر مارلو. وفي  الوقت ذاته، جذبته السينما وأنجز فيلماً قصيراً مقتبساً من رواية لورانس ستيرن "الرحلة العاطفية عبر فرنسا وإيطاليا".

وبعد بعض العروض التي لفتت الانتباه إليه، دُعي إلى سترادفورد لتبدأ رحلته مع البحث عن مسرح مغاير، سيتحوّل بفضله إلى أبرز الأسماء التي بلورت مفهوم العلاقة بين التمثيل وبين تشذيب الشخصية  المتقمصة على الركح، بما يمكنها أن تعبّر عن المشاهد بأكثر الطرق تلقائية في القرن العشرين مع قسطنطين ستانسلافسكي.

لم يتوقف بروك على امتداد سنواته العملية عن التجريب والبحث لإيمانه بأن المسرح حيّ، ولذلك تختلف عروضه المسرحية حسب طبيعة البيئة والجمهور، وقد ترك مؤلفات وأعمالاً من أهمها "الفضاء الفارغ"  وآخرها نشره نص مسرحيته "مشروع العاصفة" وفقاً لشكسبير عن دار "أكت سود".

وبتتبع مسيرته الفنية، قام هذا المخرج بإعادة قراءة وإخراج عدد من المسرحيات الكلاسيكية، أشهرها تلك التي لشكسبير،  ومسرحيات لمؤلفين آخرين مثل جان بول سارتر وجون أنويله وجان جونيه وبيتر فايس وأندريه روسين، وبعد بعض العروض المسرحية التي لفتت إليه الأنظار، دُعي بروك إلى سترادفورد لتبدأ رحلته مع البحث عن مسرح مغاير سيتحوّل بفضله الى أبرز الأسماء في القرن العشرين، وهو الذي جمع بين المسرح والسينما، وسيعمل بهذه الروح التائقة إلى الفرجة البصرية من خلال "العاصفة" لشكسبير وهاملت، وسلط الضوء على الأعمال الأقل شهرة لهذا المؤلف. كما سعى إلى الابتكار والتجريب في أوبرا سالومي لريتشارد شتراوس وكان ذلك عام 1949، ولم يتهيب من الاشتغال على هذا اللون الفني، وكان يبحث عن الحياة الآنية التي تصل المتفرجين بالعمل المقدم لهم، وهذا ما دفعه إلى التفكير في ما سمّاه   "المسرح الميت" والنأي بأعماله عنه.

بمساحة فارغة يمكن خلق عمل مسرحي  

ارتبطت عبارة المساحة الفارغة بهذا المخرج الذي تحدث عام 1963 في مؤتمر في بريطانيا حول إمكانية استخدام أي مساحة فارغة، وأن يطلق عليها اسم مسرح وشخص ما يعبر هذه المساحة الفارغة بينما آخر يشاهده، ما يجعل الأمر كافياً لبدء العرض المسرحي.

وجعل بروك "الفضاء الفارغ "عنواناً لكتابه الأول الذي أصدره عام1968، ما دفع النقاد إلى القول بأنّ الفضاء الفارغ هو المسرح المجرد من المكملات الركحيّة المركّبة التي كان بروك قد ألغاها في الكثير من إنتاجاته المسرحية، وعدّها معيقة لتركيز المتفرج الذي يبحث عن عالمه الداخلي في كل عمل مسرحي، من دون إغفال اللحظة المشبعة بالعاطفة والمتعة التي توفرها المخيلة والعاطفة معاً.

ونجح بروك في صنع توليفة جمالية فريدة، وهذا ما يمثل الاتصال الإنساني بين الممثل والجمهور، لكن بروك لم يتوقف عند هذا المعطى التواصلي، بل استبدل الأساليب التقليدية في التّوظيف الركحي وهي التي كانت شبه واقعية   بــ"السينوغرافيا الجريئة"، التي تكشف عن تأثيرات بصرية طبيعية حيث استخدم الألعاب البهلوانية والرقص البدائي وكسر الخطابية الكلاسيكية بتنفيذ حوارات أكثر بساطة ولكنها مشبعة بالمعاني، التي تعبّر عن الذات في انكساراتها وأفراحها وتقلباتها.

علاقة بيتر بروك بأفريقيا في أعماله المسرحية 

  • بيتر بروك في بروفة مسرحية
    بيتر بروك في بروفة مسرحية "العاصفة"

في أحد حواراته الصحفية قال بروك إن الممثلين المحترفين لا يرضونه، ولهذا السبب له علاقات جيدة جداً مع الجهات الفاعلة الأفريقية؛ لأنهم عكس التنضيد الغربي العظيم حيث كل شيء بناء فني وما يحدث في الداخل (أي أعماق الممثل) من المستحيل العثور عليه.

كان بروك يبحث عما يمكن تسميته البراءة والانفتاح، أي تقبّل رؤية  المخرج وعمله ما يسهّل اللعبة المسرحية. وقد لعب الممثل من أصل جمايكي أدريان ليستر دور الأمير الدنماركي في مأساة هاملت عام 2000، بينما كان الكتاب والمسرحيون ورواة الحكايات والسينوغرافيون والراقصون الذين يتقنون الرقص البدائي والتراثي والموسيقيون، يترددون على مسرح "بوف دو نور" الذي أسسه عندما عزم على الإقامة في باريس عام 1970، وأسس لاحقاً  المركز الدولي لأبحاث المسرح.

بالإضافة إلى أنه تفطن لثراء أفريقيا الغربية فنياً من خلال رحلاته إلى هناك، انطلاقاً من الجزائر إلى نيجيريا وجنوب أفريقيا. فقد صوّر تلك القارة التي ما فتئ يعيد اكتشافها طوال 40 عاماً وقد كان يقول: "كل ما هو حقيقي في ما يتعلق بأفريقيا غير معروف وهي مجهولة، ومهمة المسرح ليست في أن تقول شيئاً، بل فتح باب الأسئلة وأفريقيا سؤال لنا".

"مؤتمر الطيور" المقتبس من "منطق الطير" للعطار

كان بروك باحثاً مسرحياً إضافة إلى وظائفه الأخرى. لذلك، كان يجوب بلدان العالم مع فرقته المكوّنة من جنسيات متعددة بهدف التعرف على الثقافات الأخرى. فقد اكتشف إيران عام 1971 خلال رحلة استغرقت أشهراً عدة. كما اكتشف العمل المسرحي في أميركا والهند، وزار أميركا اللاتينية وانتبه إلى الثراء الذي تمتلكه القارة الآسيوية.

أما قصة مسرحية "مؤتمر الطيور" التي كتبها جان كلود كاريير وأخرجها بيتر بروك، فقد عرضها أول مرة في 15 أيار/مايو عام1979 واستخدم فيها الأقنعة والريش والأزياء المأخوذة من بعض قطع ملابس الباليه القديمة.

وتحدث بروك عن هذا العمل وتداعياته الجمالية والنفسية على الوعي بضرورة تمثل عالم مختلف وغامض قائلاً: "من خلال هذا المسار المسرحي الخاص جداً، يمكننا الوصول إلى طبقات خفية من التجربة الإنسانية . ما هي الوسائل اللازمة للشروع في هذا الطريق؟ بالإجابة عن هذا السؤال، بدأنا العمل الجماعي عام 1971، وعملنا على الأصوات كوسيلة للتعبير من دون أن نتخيل أنه يجب إلغاء اللغة المعتادة من أجل ذلك. وكانت نقطة انطلاقنا أنفسنا، ولكن لتجنب الالتفاف حول النرجسية الخطيرة، كان من الضروري للغاية الاعتماد على شيء أكبر وأقوى يأتي من الخارج، والذي يتحدّى فهمنا ويجبرنا على رؤية ما وراء هذا الكون الشخصي الذي نتخيله أمامنا في كل لحظة، وهكذا التفتنا مبكراً جداً إلى العطار الذي ينتمي إلى تقليد يسعى فيه المؤلف نفسه إلى خدمة حقيقة أكبر من حقيقة تخيلاته أو أفكاره، ويحاول أن يغمس ثمار خياله في عالم يتجاوز هو/هي".

وأضاف أن: ""مؤتمر الطيور" يمثل لنا هذا المحيط الذي نحتاجه. في الأدغال الأفريقية وفي ضواحي باريس وفي زوايا شوارع بروكلين لعبنا دائماً "مؤتمر الطيور" بأشكال مختلفة تمليها الحاجة إلى التواصل، واكتشفنا دائماً بشعور كبير أن هذا المحتوى كان عالمياً، وأنه عبر جميع الحواجز الثقافية والاجتماعية من دون عوائق".

وتحدث بروك عن عرض هذه المسرحية في أوقات مختلفة من اليوم ليظهر أن العمل المسرحي يتم تغييره وفق الركح وطبيعة الجمهور، وبذلك تكون الحاجة إلى الارتجال وإدخال تعديلات على المشاهد ونوعية الخطاب، ما يترك الباب مفتوحاً لحتمية تطور التجربة في زمن لاحق، ويلغي متحفية الأعمال المسرحية وثباتها الذي عملت المؤسسات الرسمية على تثبيته والترويج له.

وعبّر بروك عن تجربة عرض مسرحية "مؤتمر الطيور" بقوله: "كان كل واحد منهم  – طاقم العمل  – متأثراً بالعطار،  ويبحث عن التعبير عما رآه بعمق ويسعى للتعبير عما هو ملموس وحقيقي في القصيدة". 

العالم والعمل المسرحي ركح مفتوح 

  • بيتر بروك.. كيميائي المسرح المباشر

وضع أحد أعمدة المسرح الحديث علامة مميزة للانضباط في نهج مغاير للرؤية المسرحية السائدة تنظيراً وإبداعاً، ودافع عن لامركزية الفن وكذلك عن المسرح في أبسط أشكاله واقتحم الفضاء اللامرئي عبر مرحلة المسرح المتعدد الثقافات، وأعاد اكتشاف التصوف الأفريقي والعرفان الفارسي والحكمة الهندية من خلال الماهابهاراتا وإخراجه لهذه الملحمة السنسكريتية التي عرضها أول مرة في مهرجان أفينيون عام 1985 وتم تصويرها لاحقاً.

كان بروك يكافح للتوفيق بين خصوصية الهند المحلية وبين نزوعه نحو العالمية للعمل المسرحي، وأثار انتقادات لكنها كانت تدفعه إلى البحث عمّا بعد انبهاره ببريخت وأنطونين أرتود، وفتح السؤال المسرحي الكبير حول من لديه الحق في تمثيل هذا التراث المفتوح على التعابير الفنية مع هذا التنوع الثقافي الذي يزخر به العالم. خاصة وأن بروك قد اقتنص باكراً ما ضج به مسرح القسوة من تركيز على جسد الممثل وتجاوزه إلى الفوارق الدقيقة لكيفية صنع الممثل، وهو المخرج الذي كان يؤمن بأن المسرح فن تدمير الذات وهو مكتوب على الرمال.

إذ كان يقول إن: "المسرح يجمع أشخاصاً مختلفين كل ليلة ويتحدث إليهم من خلال ما يقوم به الممثلون ليصل إلى دواخلهم، لكن ما جدوى المسرح إن كان العالم الداخلي للإنسان غير موجود في تلك الأعمال التي تعرض على بشر من دون فرق بين الخارجي والجواني".

دعا بروك إلى الإيمان بالمسرح المباشر، وهو ما دعا إليه مسرح أرتود الطامح إلى التواصل مع الجمهور باعتباره جزءاً لا يتجزأ من العمل الفني، الذي يرقى إلى الإبداع وهو لذلك في تطور مستمر وفق بروك، وجعله يرى المسرح الخام الذي يقترب من الفرجة في السيرك يفتقر إلى العمق.

بحث بروك في المسرح المقدس وانتقد نجاعته وكان يعود إلى أعمال ويليام شكسبير وكأنما يعيد فتح كوة جديدة في أثر معلمه الأول الذي توجه إلى أعماله في رحلته انطلاقاً من المسرح الشكسبيري الملكي.