جبارة للميادين نت: الرقص لغة عالمية ومواقع التواصل لا تصنع فنانين

رائدة فنّ الكوريغرافيا اللبنانية جورجيت جبارة تحلّ ضيفة على "الميادين نت".. ماذا قالت عن الرقص وعلاقته بالسنّ والتخلص من الكآبة؟

الرقص هو لغة الجسد التعبيرية عن الحزن والفرح والشغف والمتعة. لذلك هي لغة هادئة أحياناً، وثائرة أحياناً أخرى، كأنّها تترجم أفكارنا ومشاعرنا، هواجسنا وأحلامنا. وبما أنّ الموسيقى لغة عالمية، فقد أتى الرقص على إيقاعها، مهما اختلفت أنواعه عالمياً، كأنّه بتمايل الأجساد تتحرر المشاعر، يتروضّ الحزن، يطير الخجل بعيداً... لتتجاوب كل الحواس، فتطلق النفس العنان للرقص. 

يعود الرقص عند البشر إلى عصور قديمة، إذ تشير النقوش الأثرية المكتشَفة في الهند إلى وجود نص مكتوب عن الرقص. كما تشير رسوماتٌ عند الفراعنة إلى اعتمادهم الرقص الديني، منذ 3000 عام قبل الميلاد. ويحصل أنّ نشاهد أفلاماً سينمائية عديدة تشير إلى وجود الرقص في الحضارات القديمة، كما في الحضارات الأفريقية والإغريقية، ناهيك عن الرقص عند السكان الأصليين في القارة الأميركية. وهذه الرقصات السابقة كلها تنطوي في إطار ممارسة الطقوس.

مع الوقت، تحوّل الرقص إلى وسيلةٍ للترفيه، خصوصاً عند الملوك والأعيان. ومع تطور العصور، تطور هذا الفن بطبيعة الحال، إلى أن أتى القرن الــ ـ16 ليغيّر ليس فقط في الأدب والمعرفة، إنما أيضاً في الرقص، ليشهد هذا الفنّ تطوراً ملحوظاً، ويأخذ منحىً أكثر احترافاً وتعبيراً عن المعنى.

  • جورجيت جباره بريشة الفنانة ناديا سيقلي
    جورجيت جباره بريشة الفنانة ناديا سيقلي

مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، شهد فن الرقص ثورة في الأنواع والأساليب، خاصَّةً في أميركا اللاتينية، فظهرت الـ"الرومبا" والـ"السامبا"، كما ظهرت الـ"تشاشا" في الغرب، وانتقلت فيما بعد إلى الشرق، المعروف أساساً بسحر الرقص الشرقي، فشهد العالم أنواعاً عدّة من الرقص: من الغربي والهندي، إلى الشرقي والتعبيري. مع الإشارة إلى وجود رقصات خاصة في بعض الأديان، كالرقص عند المسيحيين الأفارقة في الكنيسة، أو المولوي عند بعض المتصوفة، حيث يدور الراقص حول نفسه لتتسامى روحه في عبادة الله. 

قد تتنوع غايات الرقص وأهدافه بتنوع الحضارات والمجتمعات. منهم من يأخذ الرقص كغاية للتسلية والترفيه، أو كرياضة لما فيه من فوائد بدنية. ومنهم من يحترفه فيبرع به. أما الكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس، فيقول في روايته الشهيرة "زوربا": "هناك لحظات يكون فيها الرقص أبلغ من الكلمات". وبما أنَّ الشيء بالشيء يذكر، لا بدّ من الإشارة إلى أهمية الفلكلور في التراث الشعبي لكلِّ دولةٍ من دول العالم، ففي لبنان، على سبيل المثال، هناك إلى جانب الرقص الشرقي الدبكة اللبنانية، المختلفة عن الدبكة الشعبية الفلسطينية أو السورية أو التركية. ذلك أنّ الرقص الشعبي لكل بلد يرتبط بعادات وتقاليد شعبه المتوارثة عن الأجيال السابقة، ليشكّل فنّاً حضارياً متمايزاً.

ففي الرقص الشرقي مثلاً لمعت أسماء راقصان شكلن "مدرسة فنيّة" بحدّ ذاتها، مثل ساميا جمال وتحية كاريوكا ونجوى فؤاد وغيرهن.

أمّا في لبنان، فلمعت مؤخراً الفرقة اللبنانيّة "ميّاس"، التي مزجت بين الرقص التعبيري والشرقي، فحصدت الجائزة الأولى في أكبر برنامج أميركي للمواهب. لكن، قبل "ميّاس" بزمن طويل، شكّلت فرقة "كركلا" مدرسة لكثيرات وكثيرين من المبدعين في فنّ الرقص. إضافة إلى "كركلا" و"ميّاس" هناك أسماء لبنانية عديدة فتحت المجال لأجيال جديدة في فن الرقص، ومنها رائدة فنّ الكوريغرافيا الفنانة جورجيت جبارة، التي كانت أول امرأة لبنانية تنال ترخيصاً رسميّاً من الدولة اللبنانيّة لتأسيس مدرسة خاصة لتعليم الرقص.

وجورجيت جباره كما تحبّ مناداتها من دون ألقاب، حاورتها "الميادين الثقافيّة" في حديث غنيّ عن فنّ الرقص، وتأثيرات شبكات التواصل الإجتماعي في شهرة الراقص/الراقصة، وكيفية تلقّي ما يُراد التعبير عنه عبر هذا الفنّ. 

***

  • جورجيت جبارة
    جورجيت جبارة

-  إلى أي مدى يساعد الرقص في الهروب من الكآبة والحزن؟

من المهم جداً على المرء ممارسة أي نوع من أنواع الفنّ، مثل الرسم أو العزف أو غيرها من الفنون. لكن ما يميّز الرقص عن غيره أنَّ الجسد يتحرك، والصحة البدنية تكون في حال أفضل، الأمر الذي ينعكس إيجاباً أيضاً على الوضعين الذهني والنفسي للإنسان، فتنطلق أنفاسنا لتحلق بالروح عالياً، فنشعر تلقائياً بأنّ الحزن طار وحلّ محله الفرح. إذاً، الرقص هو فنّ ورياضة كاملة متكاملة.

- ما سرّ هذا الصفاء المنعكس على وجهكِ؟ هل ما زلتِ تمارسين الرقص في هذا العمر؟

أنا أردد دائماً بأنَّنا لم نتوقّف عن الرقص لأنّنا كبرنا في العمر، بل نشيخ إذا توقفنا عن ممارسة الرقص. أنا اليوم، وعلى الرغم من وضعي الصحي وعمري المتقدم، فقد توقّفت عن التدريب، لكن ما زلت أمارس تمرينات جسدية مرتين في الأسبوع. الحقيقة أنّي أفتخر بتلامذتي المنتشرين في عدّة دول، يفتحون مدارس للرقص ويعلّمون الأجيال الجديدة التقنيات الفنيّة نفسها التي تتلمذوا عليها. 

أمّا سرّ هذا الصفاء الذي أشرتِ إليه فهو لأنني أكتب، وحالياً أتفرّغ لكتابة عملين جديدين، بالإضافة إلى كتابي الأول "Entre deux pas"، الذي صدر في العام 2017 باللغة الفرنسية، أحضّر لكتابين: الأول باللغة الفرنسية عن بعض القصص التي صادفتها في مسيرتي، والكتاب الثاني باللغة الإنكليزية عن فترات معينة من تاريخ حياتي، مثل ولادتي في القدس. كمّ أتحرق شوقاً لزيارة القدس قبل أن أموت. 

- تحملين خبرة فنيّة طويلة، برأيكِ ومن خلال هذه الخبرة، هل يمكننا القول إننا أصبحنا اليوم في زمن يستطيع فيه من يمارس مهنة الرقص العيش من مهنته؟ 

اسمحي لي ضمن هذا السياق، أنّ أهنىء الصبايا اللواتي رفعن اسم لبنان مؤخراً في المباراة الأميركية الشهيرة. أوّد أن أوجه لهنّ رسالة بضرورة قراءة تاريخنا الفنّيّ، خصوصاً تاريخ الرقص في لبنان. إنّ احتراف هذا الفنّ يعود إلى القرن الماضي، فمنذ زمن، ولبنان يتغنّى براقصين محترفين رجالاً ونساء يمتهنون هذا الفنّ، لأنّ الرقص ليس مرتبطاً بالفتاة فقط، بل بالرجل أيضاً. وبالتالي هناك عائلات كثيرة تعتاش من فنّ الرقص، أذكر على سبيل المثال فرقة "كركلا"، التي كانت وما زالت مستمرة في عروضها العربية والعالمية. بالإضافة إلى أسماء عربية ولبنانية كبيرة، أمثال الفنان عمر راجح مؤسس فرقة "مقامات"، والحاصل على وسام رفيع من الجمهورية الفرنسية. ومن السيدات أذكر الراقصات أماني، جنى الحسن، ساندرا الصّبّاغ، وغيرهن الكثيرات. بالإضافة إلى تميّز الفنان جورج شلهوب برقصه الراقي في سبعينيات القرن الماضي.

أمّا على الصعيد الشخصي، فمسيرتي الفنيّة بدأت في الستينيات. اليوم، أتذكر الكمّ الهائل من التحديّات التي واجهتها وأنا صبيّة صغيرة، فقدمتُ أول فرقة رقص محترفة على "مسرح الأشرفية" في العام 1966. ومن لبنان، انطلقتُ إلى دول العالم. وقد تشرفتُ بأول جائزة أخذتها في حياتي هي جائزة الشاعر سعيد عقل. مروراً بنضالي في سبيل الحصول على ترخيص رسميّ لمدرستي الخاصة، وغيرها العديد من التحديّات في زمن صعب.

 إنّ احتراف الرقص هو مهنة فنيّة موجودة منذ زمن، فالرقص علم وثقافة، مع الإشارة إلى أهمية ارتباط هذه المهنة بالتواضع، فالراقص يتصبب منه العرق تعباً ليتمرن ويؤدي رقصته على أكمل وجه، ليأتي هذا العرق ويبلله بالتواضع.

- هل تساعد مواقع التواصل الاجتماعي في وصول وجوه شابة لاحتراف الرقص؟ أمّ تخدع المتلقي فيعجز عن التمييز بين الراقي والمبتذل؟

 أقولها بصراحة، أنا لا أحبّ مواقع التواصل الإجتماعي، لأنها لا تستطيع إيصال الفكرة أو الرقصة أو أي فنّ بشكل واضح وحقيقي ونقيّ. برأيي فإن 90% من الأخبار على "فيسبوك" خادعة، وللأسف أصبح الجميع شعراء ومطربين وراقصين محترفين، من خلال أو بفضل هذه المواقع. الفنّ مسيرة نضالية طويلة لا تقوم على الألقاب، بل على العمل والتواضع.

لذلك أنا أنصح الجيل الجديد الذي يحبّ الرقص بالتعب والعمل على الذات، عبر القراءة والاستماع إلى الموسيقى والمثابرة للوصول إلى الهدف، مع أهمية التحلّي بالتواضع.