جسد الفيلسوف: ينبوع الملذات والآلام

اختلفت نظرة الفلاسفة إلى الجسد الإنساني بمرور الزمن، وارتبط ذلك بعدة عوامل منها مستوى التطور العلمي. كيف تطورت هذه النظرة منذ عصر الآباء المؤسسين حتى الوقت الحالي؟

  • اتّجهت العلوم الاجتماعية مؤخراً نحو استكشاف إشكالية الجسد في الحياة الاجتماعية
    اتّجهت العلوم الاجتماعية مؤخراً نحو استكشاف إشكالية الجسد في الحياة الاجتماعية

نافذة على الجسد

"تقول الكنيسة: الجسد خطيئة

يقول العلم: الجسد آلة

تقول الإعلانات: الجسد مشروع تجاري

يقول الجسد: أنا مهرجان"

إدواردو غاليانو (كلمات راجلة، 1993) [1].

***

أخذت الفلسفة عبر تاريخها المديد مواقفَ عدّة من الجسد، فتفكَّره البعض بوصفه عائقاً، كحال أفلاطون بلسان سقراط في محاورة "فيدون" (PHEDON)، المخصَّصة لخلود النفس: فهو سجنُ النفس أو قبرُها. في حين أنَّ أفلوطين، في "التساعيات"، نزع نحو رفع التعارض بينهما، ورأى إلى التعاون بوساطة الروح "صلة الوصل بين النفس والجسد".

وجرى النظر إلى الجسد أيضاً على أنّه علامة إيجابية حرة لا يمكن أن تتجاهله النفس، بل هو "علامة الروح"، وهو بعبارةٍ أخرى يعبِّر عنها. وقد تبنّى أرسطو هذا الموقف، فما يصيب النفس يظهر في الجسد. وقاربه آخرون بوصفه قوَّةً (أو طاقةً كما قال برغسون)، عالَميْن منفصِلَيْن، لكنَّ الوظيفة الأساسية له هي الحياة. 

وقد ذهب الفلاسفة في الجسد مذهبان، إما التأمّل في "النفس وأهوائها"، أو في "الفهم الإنساني"، أو نقد العقل الخاص، وإما الوقوف عند واقعيته، وتناهي الشرط الإنساني، وعَدِّه سجناً (أو قفصاً)، كما اعتبر أفلاطون، أو آلةً أو مادةً، كما قال أرسطو. وقد أحدثت الفلسفة الظاهراتية انقلاباً في مقاربتها الجسد بوصفه نموذجاً قصديّاً، أي كشيءٍ ووعي، إذ إنَّ وجود الجسد المحض، يكشف لنا "حالاً غامضاً من الوجود"، كما يقول الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلو - بونتي[2] (1908 - 1961). لأنّه غرض مادي (أو موضوع)، فهو يندرج في "الصيرورة" (devenir) وفي "الظهور"tre) î(para، ويساعدنا فهمه في فهم طبيعة الإنسان. وإنَّ توكيد كونه "غرضاً" (objet)، لا يقتضي بالضرورة أن يكون شيئاً مثل الأشياء الأخرى، فهو مجالُ فعلٍ أو تأمّلٍ، ولهذا السبب جعل ميرلو - بونتي  من الجسد مركز تدبُّره الفلسفي. وكان الجسد، لحماً ودماً، عنواناً رئيساً للنظر في القرن العشرين الفائت، يُعبِّر عن "حال الوجود الإنساني نفسه"[3]، في وجهيه المتمايزين: ذاتاً وموضوعاً. 

فثمّة احتفاءٌ بالجسد باعتباره مفهوماً حيّاً من جهةٍ، وحاضراً فعلياً في إطار الحداثة الراهنة من جهةٍ أخرى، فهو يحتلُّ مكانةً عاليةً في تلك الحداثة، كما أنّه يمثّل مفتاحاً مهماً في تفسيراتها، وبات الحديث شائعاً عمّا يسمى "الخبرة الجسدية"، لا سيّما في الحياة المعاصرة. واتّجهت العلوم الاجتماعية - والإنسانيات أيضاً - خلال العقود الأخيرة بشكلٍ متزايدٍ نحو استكشاف إشكالية الجسد في الحياة الاجتماعية؛ وذلك من أجل فهم الوجود البشري، وبالتالي مقاربة الجسد كمنتوجٍ اجتماعيٍّ وكمحدِّدٍ للهويّة، وهو ما درسه عالم الاجتماع البريطاني كريس شلنج، في كتابه "الجسد والنظرية الاجتماعية" (The Body and Social Theory)، في جهدٍ معتَبَرٍ ضمن سوسيولوجيا الجسد (علم اجتماع الجسد)، لفهم العلاقة بين "الجسد والهوية الذاتية والموت" في زمن الحداثة العالية، إذ يُعَدُّ الجسد "محوراً مركزياً في فهم الشخص الحداثي للهوية الذاتية"[4].

ذهب الفلاسفة في الجسد مذهبان، إما التأمّل في "النفس وأهوائها"، أو في "الفهم الإنساني"، أو نقد العقل الخاص، وإما الوقوف عند واقعيته، وتناهي الشرط الإنساني، وعَدِّه سجناً (أو قفصاً)، كما اعتبر أفلاطون، أو آلةً أو مادةً، كما قال أرسطو.

 وشدَّدت الباحثة الأكاديمية اللبنانية منى فيّاض على صلة الجسد بالجماعة، ففي المجتمع الحديث يشعر الإنسان بأهميته الاجتماعية، ويدرك أنّه هو نفسه مَن يقرِّر ويصنع مصيره، ويقرِّر شكل المجتمع الذي يعيش فيه. بينما الإنسان في المجتمع التقليدي لا ينوجد إلا في علاقاته مع الآخرين. فالإنسان ليس سوى انعكاسٍ، لا يكتسب حضوره  إلا في ارتباطه بالجماعة التي ينتمي إليها، فجسمه لا يكتسب شرعيته من مجرد وجوده. الجسد ليس حدوداً أو ذرّة، بل هو عنصرٌ غيرُ منفصلٍ عن مجموعةٍ رمزيةٍ[5]. ويُقِر عالم الاجتماع الفرنسي لوبروتون بأنَّ "تصوّرات الجسد، والمعارف التي نبلغها، تخضع إلى حالةٍ اجتماعيةٍ، ورؤيةٍ للعالم، وتعريفٍ مُحدَّدٍ للشخص في داخل هذه الرؤية (...). يبدو الجسد أمراً مُسلَّماً به، لكن لا شيءَ لا يمكن إدراكه أكثر منه"[6].

سعى الشاعر الفرنسي آرثور رامبو (1854 – 1891) لابتناء جسدٍ جديدٍ مدموغٍ بالعمل والكدح في بلاد الحبشة وعدن، باحثاً عن "الجسد الجديد المحبوب"، و"اللحم الجديد"، و"مجموع الورود الشابة والقوية"، فصرخ في ديوانه "شمس وجسد": "بالجسد، بالرخام، بالزهرة، بفينوس، أؤمن!"[7]، وعَدَّ أحد الباحثين جسد رامبو بمثابة "الانعتاق الذي حلمنا به"[8]. إذ تكون الكتابة أحياناً بمثابة "امتدادٍ جسديٍّ"، وهو ما عاينه محمد نور الدين أفاية في قراءته لأعمال عبد الكريم الخطيبي، فهي بحسب هذا الأخير "ترجمةٌ للجسد واللاوعي والرغبة"[9]. يكتب الخطيبي في إحدى قصائده: 

"كيف تصارع عدوك الطبقي؟ 

غيّر مقولاتك الفكرية

بدّل ممارستك

ستسمو بجسدك

ارتفع بجسدك

ستتحاور مع اللامفكر فيه"[10].

  • اعتبر بعض الفلاسفة أن الجسد عائق كحال أفلاطون بلسان سقراط في محاورة
    اعتبر بعض الفلاسفة أن الجسد عائق كحال أفلاطون بلسان سقراط في محاورة "فيدون"

ويأخذ الخطيبي على الفكر العربي أنَّه لا يرقى "إلى مستوى الإنصات لإيقاع جسده، باعتباره جسداً ينطق بمعاناةِ اختلافٍ مكبوتٍ منذ زمنٍ طويلٍ"[11].

ويحاول الخطاب السوسيولوجي والأنثروبولوجي أن يعطي الأولية للطرائق التي يصبح من خلالها الجسد موضوعاً للخطاب الرمزي. فالمقاربة السوسيولوجية - الأنثروبولوجية لا تتعاطى مع الجسد باعتبارة كياناً عضوياً فحسب، وإنّما باعتبارة بُنية اجتماعية – ثقافية، وهو ما يُعرف بــ"صورة الجسد".

ويُعرِّف معجم التراث الأميركي، في طبعته الرابعة الصادرة عام 2000، "صورة الجسد" بأنّها "التصوّر الذاتي للفرد عن مظهره العضوي، مرتكِزاً في هذا التصوّر على ملاحظته الذاتية ووجهة نظر الآخرين".

وفي التراث العلمي، تُعَدُّ صورة الجسد مفهوماً متعدِّد الأبعاد، يتضمّن الإدراك الذاتي للفرد واتجاهاته حيال مظهره العضوي، ويشمل أيضاً الأبعاد المعرفية والسلوكية والوجدانية والتصوّرية.

ويُستخدم مصطلح "صورة الجسد" لوصف كلِّ الطرائق التي يُكوِّن بها الفرد مفهوماً عن جسده ويشعر به، سواءً عن وعيٍ أو من دون وعيٍ، ويتضمّن ذلك أحاسيس الفرد وتخيّلاته عن جسده، بالإضافة إلى الأسلوب الذي يتعلّم الشخص من خلاله تنظيم وتكامل خبراته الجسدية، ومن ثم فإنَّ صورة الجسد هي شيءٌ يُكتسب بواسطة الشخص في جماعة أو مجتمع معين، وذلك على الرغم من وجود اختلافاتٍ في هذه الصورة داخل المجتمع الواحد.

إنَّ صورة الجسد ليست إلا الجسد كما يُرى، وكما يبدو في المجتمع، إنها انعكاسٌ له، لكنَّها ليست الجسد ذاته، هي شيءٌ أكبر من الجسد، أي أكبر من تلك البنية الفيزيولوجية المترابطة. إنَّ ثمة ترابطاً بين الجسد وصورته، وصورة الجسد هي أمر جوهري بالنسبة للجسد، بحيث لا يمكن فهم الجسد من دون تلك الصورة التي يبدو عليها في الواقع، ولهذا؛ فإنّنا نصنع لأنفسنا صورةً لكيفية ظهورنا أمام الآخرين. إنَّ صورة الجسد هي بنيةٌ عقليةٌ لمظهرنا في المجتمع.

يتبيّن إذن أنَّ صورة الجسد هي مفهومٌ عقليٌّ يعكس رؤية المجتمع للجسد، أي كيف يبدو الجسد ويظهر لأفراد المجتمع، وهي تعني بمعنى آخر الإنتاج الاجتماعي للجسد، فالجسد يتمُّ إنتاجه اجتماعياً ويتمُّ تشكيله ثقافياً، فالقيم والمعتقدات والممارسات المرتبطة به تتباين تبعاً لتباين البُنى الاجتماعية، والنُّظم الثقافية للمجتمعات الإنسانية [12].

يتبيّن أنَّ صورة الجسد هي مفهومٌ عقليٌّ يعكس رؤية المجتمع للجسد، أي كيف يبدو الجسد ويظهر لأفراد المجتمع، وهي تعني بمعنى آخر الإنتاج الاجتماعي للجسد.

في دراساته عن التميّز وعن المجتمع القَبَلي في الجزائر، لاحظ عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو (1930- 2002)، أنَّ وضع قواعد للأدوار النسائية والرجالية مطبوعٌ على الأجساد، وهو يشدِّد على "الانتقاش الجسدي للفعل": فالرياضة الشعبية (كرة القدم والروكبي والملاكمة)، تثمّن روح التضحية والقوة. ورياضة الطبقة المتوسطة والعليا (الغولف والتنس والمبارزة بالسيف)، تحبّذ المسافات والبُعد وغياب الاحتكاك المباشر. تبحث الطبقات الشعبية في غذائها عن القوة والمنفعة (اللحم والدهون)، في حين تبحث الطبقات المتوسطة عن الدقة المتناهية، وعن غذاءٍ خفيفٍ: الجسد بحاجةٍ إلى الجمالية أكثر من حاجته إلى المتانة [13].

والجسد، كما يقول المفكّر اللبناني علي حرب، ليس مشكلةً بذاته، لأنّه معطى وجودي، أي كائنٌ واقعيٌّ أو أحد الخلائق.

باختصار، إنّه الأصل والمُبتدى. وتكمن الإشكالية في طريقة التعامل معه، أو في الأفكار التي نكوّنها عنه، لذا ربط حرب بين الجسد وما عداه من الأشياء والمفردات، التي يمكن أن تُنسج علاقةٌ بينه وبينها، كالروح والنفس والذات، أو الحجاب والعورة والمتعة والإباحة، وفي نظره "يتردّد الجسد في الخطاب العربي، الفلسفي والديني، بين الكشف والحجب، بين العورة والجنّة، بين الحظر والإباحة، بين الانتقاص من كينونته وبين رعايته والحرص على حقوقه"، والخلاصة أنّه "إذا كان لكلماتٍ مثل ذات أو نفس أو روح معانيها، فهي ما نبنيه من علاقاتٍ بأجسادنا، أي شكل حضور الجسد ونمط تصوّره، أو أسلوب تحريكه وتشغيله، أو طريقة سوسه وتدبّره. قد نتعامل مع الجسد كنتاج طبيعي أو برنامج وراثي، كما في العلم الطبيعي، أو كشبح وعرض، كما في المذهب المثالي، أو كسلعة، كما في الترويج الإعلاني... فهذه كلها أشكالٌ من الحضور، وأنماطٌ من التحقُّق والتدبُّر، تختلف باختلاف العصور والثقافات والبيئات والتقنيات. فلا حضرة من دون الجسد. وأياً  كان شكل التحقّق، فللجسد قوته وجماله وسرّه، كأيِّ شيءٍ آخرَ، فإذا حاولنا نفيه أو احتقاره، أو تعسَّفنا في التعامل معه، فإنّه يرتدُّ علينا وينتقم منّا، كما تنتقم الطبيعة من البشر اليوم. لنتواضع، بحيث نعترف بدنيويتنا ودونيتنا، إذا أردنا أن نحسِّن الإقامة على هذه الأرض"[14].

وللجسد وظائف ودور يؤديه "في صناعة التاريخ الأسطوري والأدبي والأيديولوجي والمعرفي، وذلك نتيجة تعالقه مع الوجود، وانطلاقاً من حيث هو كينونة صغرى، متعالقة مع كينونة كبرى، يُجسِّد ظواهر الوجود ويُعبِّر عن قيّمه في أشكال معرفية وأفهومية متعددة المشهديات الطقسية، والكتابات والصور والقيّم والتقاليد والشرائع والقوانين"[15].

لاحظ بورديو أنَّ وضع قواعد للأدوار النسائية والرجالية مطبوعٌ على الأجساد. فالرياضة الشعبية (كرة القدم والروكبي والملاكمة)، تثمّن روح التضحية والقوة. ورياضة الطبقة المتوسطة والعليا (الغولف والتنس والمبارزة بالسيف)، تحبّذ المسافات والبُعد وغياب الاحتكاك المباشر. تبحث الطبقات الشعبية في غذائها عن القوة والمنفعة (اللحم والدهون)، في حين تبحث الطبقات المتوسطة عن الدقة المتناهية، وعن غذاءٍ خفيفٍ: الجسد بحاجةٍ إلى الجمالية أكثر من حاجته إلى المتانة.

 وفي عصر الاتصال والصورة، عُدَّ الجسد فعلاً إعلانياً يحمل "الكثير من الشيفرات والعلامات الدالّة والفاضحة"، يوحي برسائل من خلال تجلّيه المستمرّ [16]، وحتى من خلال تصوير أعضائه، أي في حالات تجزيئه "يولِّد معطىً انفعالياً وغريزياً وثقافياً عاماً، لا يُدرك إلا من خلال الأجزاء. وبالعودة إلى هذه الأجزاء، ندرك التفاوت الموجود بين كلِّ عضوٍ في القيمة التعبيرية والموقع والحجم"[17].

على هذا النحو، يُنظر إلى الجسد بمثابة نصٍّ للقراءة (مُدونة)، وحتى يمتلك "خاصية السرد" المستمر، وهذا الجسد الراوي (والذي يُروى عنه): "يحمل معالم الرغبة والإعلان بتقاسيمه وتضاريسه المختلفة التي يعلن عنها، وبامتلاكه خصائص وسمات مميّزة، كلون الشعر والعيون أو الرشاقة والمرونة"[18]. وبالإضافة إلى ذلك فهو "دال لغوي لساني"[19]، ولا سيّما الجسد الأنثوي، إذا أمعنا النظر في "الموروث التداولي الذي نصت عليه كتب الفقه الجنسي بخاصة" [20].

في عصر الاتصال والصورة، عُدَّ الجسد فعلاً إعلانياً يحمل "الكثير من الشيفرات والعلامات الدالّة والفاضحة"، يوحي برسائل من خلال تجلّيه المستمرّ، وحتى من خلال تصوير أعضائه.

ويقتضي الحال، قبل الشروع في تقصّي "جسد" الفلاسفة، الوقوف عند التمييز الذي أقامه العرب في لغتهم بين الجسد والبدن. فهذا الأخير هو "ما علا من جسد الإنسان، ولهذا يُقال للدرع القصيرة الذي يلبس الصدر إلى السرة بدن، لأنّها تقع على البدن، وجسم الإنسان كلّه جسد"[21]، وأطراف الرأس داخلةٌ في الجسد، من دون البدن، "لأنَّ البدن ما سوى الأطراف، من المنكب إلى الألية"[22]. وتقود مجمل التعريفات إلى القول إنَّ الجسد "لفظٌ يدلُّ على وجه الخصوص على الإنسان بوصفه حيواناً عاقلاً، كما لا يُقال إلا لجسم الإنسان جسداً، ولا يُقال لغيره من الأجسام"[23]. 

أما في الثقافة الغربية، فللجسد مفهوم واضح، والتمييز يقع بحسب الموضوع، فهو موضوع ثقافي في مجال البحث في العلوم الإنسانية، وموضوع عضوي في مجال البحث في العلوم الصرف، كالطب والأحياء، ويختلف التعريف باختلاف النزعات والفلسفات، فالفيلسوف جون لوك (1632- 1704) يحدده على أنّه "شيء صلب ممتد، أجزاؤه قابلة للانفصال، وقابلة للحركة في مختلف الاتجاهات"، في حين تنظر الفلسفة المثالية إلى الجسد كشيء عقلي، يستمدُّ وجوده من الفضاء الحسّي [24]. 

ووصفه ديكارت (1596 - 1650) بقوله: "أقصد بالجسم كلَّ ما يُمكن أن يُحَدَّ أو يحتويه مكانٌ ويشغل حيّزاً (...)، ويمكن أن يُحَسَّ إما باللمس أو السمع أو الذوق أو الشم، وما يمكن أن يحرَّك على أنحاء شتّى، وليست حركته في الحقيقة بذاته، بل بشيء خارج عنه" [25]. 

ويعود لسبينوزا (1632 - 1677) قصب السبق في جعل الجسد حقلاً للبحث والنظر، بعد أن كان العقل مناط الدراسات، وعنده أنَّ الجسد والفكر متماثلان، فالفكر هو وسيلةٌ تمثِّل الجسد [26]. هذا وترى أغلب الثقافات أنَّ الجسد "هو ما يقبل التحيّز والمكان، وهو كل روحٍ ظَهَرَ في جسمٍ ناريٍّ أو نوريٍّ. ويتجلّى في اجتماع العناصر المادية الأربعة: الهواء، والماء، والتراب، والنار، بالعنصر الروحي: الأثير" [27].

بوتقة تجارب 

  • يتبنّى أونفري مقولة
    يتبنّى أونفري مقولة "الجسد هو المنفذ الوحيد للمعرفة"

تبنّى الفرنسي المشتغل بالفلسفة ميشال أونفري (وُلِد في العام 1959) مذهب اللذة أو "المتعية" (hédonisme)، وهو تيار أخلاقي يدعَّي أنَّ اللذة هي الخير الأعظم، وأنَّ السعادة في الشعور باللذة الحاضرة. وهو في مذهبه المُتَعي يُعيد الاعتبار للجسد الحسّيّ المفتَئت عليه، بإقامة سلامٍ معه من خلال تربية الحواس الخمس (النظر والسمع والشم واللمس والتذوق) [28]، ويرى أنَّ الفلسفة تصدر من جسد الفيلسوف المُنهمِّ بإنقاذ نفسه، وإذ يدعّي الكونية l’universel، إنّما يكتفي بأخذ تدابير ذاتية خاصة به.

فقراءة وفهم فيلسوف ما وفلسفة ما يوجب، في عرف أونفري، تحليلاً نفسياً وجودياً لإقامة الصِّلة بين الحيّاة والكتاب، بين الجسد الذي يُفكِّر وثمرات تفكيره، بين السيّرة الذاتية والكِتابة، بين بناء الذات وتشييد رؤيةٍ للعالم، فكلُّ فلسفةٍ تصدر عن "عقل جسدي" [29]. 

ويتبنّى أونفري مقولة "الجسد هو المنفذ الوحيد للمعرفة"، ويأخذ ديوجين الكلبي مثالاً. وهو ينضوي حكماً وطوعاً تحت راية لوكريتوس (98-55 ق.م)، وأبيقور (341-270 ق.م)، مبدع الأبيقورية، التي بحسبها اللذة هي الغاية، والإحساس مرتَكزُ كلِّ معرفةٍ: "فكلّما نحن أحياء، الموت غير موجود". ولا عجب في تقفّينا مآثر أثينا، ألم يصرخ نيتشه قائلاً: "آه من هؤلاء اليونانيين! كم كانوا يجيدون العيش"، إذ انهمّوا بالجسد ومسرّاته.

قراءة وفهم فيلسوف ما وفلسفة ما يوجب، في عرف أونفري، تحليلاً نفسياً وجودياً لإقامة الصِّلة بين الحيّاة والكتاب، بين الجسد الذي يُفكِّر وثمرات تفكيره، بين السيّرة الذاتية والكِتابة، بين بناء الذات وتشييد رؤيةٍ للعالم.

يدافع أونفري في "فن التمتع" [30] (مستعيراً العنوان من التحرري جوليان أوفروا دو لامتري [31]، عن الجسد، وخصوصاً جسد الفلاسفة المسكون بصراعاتٍ وقِوى، ويُوصف بالبوتقة التي تنصهر فيها تجارب وجودية، تأخذ لاحقاً شكل أنساقٍ منطقية صارمة، فالعقل الذي يقع عادة في المقام الأول، لا يستطيع أن يعمل إلا بمواد يقدمها له الجسد [32].

ومضرب المثل في "الجسد الفلسفي" سقراط، إذ يقول منادموه في "المأدبة" إنّهم لم يروا له نظيراً، فلم يكن للخمر أو النعاس عليه سلطاناً. فعادةً ما يعقب المناظرات الفكرية إهراقٌ لدِنان النبيذ، فتدور الرؤوس ويقع أصحابها أرضاً، في حين يصمد سقراط وحده. ولم يرَه أثينياً يوماً يترنّح من السُّكر، أو تظهر عليه علامات الثمالة. وبدا جسده استثنائياً في تحمّله المناخات القاسية، لا سيَّما البرد. وتمارينه الذهنية التي يمارسها على المسائل الشائكة، وجدت لها نصيراً في الجسد القادر على الوقوف ساعاتٍ طويلةً للتأمّل [33].

وكتب هنري برغسون (1859 - 1941) في "مصدراً الأخلاق والدين" (1932)، أنَّ تعاليم سقراط العقلانية تماماً مرتبطةٌ بشيءٍ يتعدّى العقل البحت. ونظرية برغسون في الحدس، الذي هو وعي مباشر، تناسب تماماً تفسير عبقرية سقراط، حيث الجسد ملاذ الدينامية الرهيفة. فالجسم العضوي يستقبل هذه القوى العمياء، ولا يسمح بأن يتسرّب إلى الوعي إلا ما جرت تهيئته منذ مدة طويلة. ويُشبّه برغسون "الحيوية" في مؤلفه "الفكر والمتحرك" بالحدس الفلسفي، فالفيلسوف يضع ثقته في حدسه الذي يُملي عليه حججه: فجسد سقراط الاستثنائي آلةٌ يتحضّر داخلها ما يُسمّى الأفكار الفريدة. وفي رأي أونفري، كلّما كان الجسد مسكوناً بالتساؤلات والشكوك، كلما كان في حالة توتّرٍ، وكان عليه أن يجد حلاً لهذه النزاعات [34].

صراع الإرادات

الأمر الذي غالباً ما عاينه القديس أوغسطين (354 -430) قبل اهتدائه، هو بمثابة صراع داخلي وقلق واضطراب يأخذ شكل الألم، ويسرد في "الإعترافات" (396 و397) لقاءه بأحد المتسولين المبتهجين حين كان قلبه فريسة للهموم، حيث يقول: "...فتنهّدتُ إذ ذاك، ورحت أحدّث أصدقائي وزملائي عمّا تجنيه علينا جهالاتنا من آلام ومصائب. إنّنا نجاهد ونكدّ ونرزح تحت عبء شهواتنا، ونجرُّ وراءنا حملاً من المآثم يتثاقل كلما تقدّمنا في السن. وهدفنا أن نبلغ تلك الغبطة الأكيدة التي سبقنا إليها هذا الفقير، من دون أن يُتاح لنا ذلك... لقد توصّل، هو بفضل ما نفحه به المارة من قروش قليلة، إلى سعادةٍ وقتيّةٍ ما تمكّنتُ منها رغم سعيي الحثيث على طرقٍ فيها ضَنَكٌ وتعبٌ... لقد كان هو يطفح بهجةً وسروراً، وأنا حزناً وكَمَداً..."[35].

عانى القديس أوغسطين محنةً وجوديةً، أخذت شكل أعراضٍ فيزيقيةٍ، وقد عانى في نهاية العام 385 من آلام الأسنان، وقلّة النوم، وأوجاعٍ في الصدر، فارتاد الحمّامات ليسرّي عن نفسه، ويتلهّى عن توقه إلى الملذات الجسدية، خجلاً من "جسد الموت"[36] الذي يجرّه، وفي داخله معركةٌ ضاريةٌ زرعت القلق في قلبه، ونَجَم عنها "اضطراب باطني شديد" [37].

ومعضلة ابن طاغستا (مكان ولادته، التي يسمّيها "هذا الحدث الغريب")، كانت في نفسه التي ترفض الخضوع لذاتها، إذ يقول: "لقد كان أسهل على جسدي الخضوع لأدنى إشارة تصدر عن النفس، لتحريك هذا العضو أو ذاك، من أن تخضع النفس لذاتها...". وما مصدر هذا الحدث الغريب؟، يقول: "النفس تأمر الجسد فيطيعها فوراً، وتأمر ذاتها فلا تُطاع. إنّها تأمر اليد أن تتحرك فيُنفَّذ أمرها بسرعةٍ كلّيةٍ، بحيث يندمج الأمر والخضوع له، مع أنَّ النفس روحٌ، واليدُ من الجسد. النفس تأمر ذاتها بأن تريد، ولكنّها لا تعمل. يا للعجب!"[38].

عانى القديس أوغسطين محنةً وجوديةً، أخذت شكل أعراضٍ فيزيقيةٍ، وقد عانى في نهاية العام 385 من آلام الأسنان، وقلّة النوم، وأوجاعٍ في الصدر، فارتاد الحمّامات ليسرّي عن نفسه.

وكيف السبيل إلى تسوية صراع الإرادات هذا؟ وكيف تخليص النفس من "غمٍّ وضَنَكٍ يمزِّقانها"؟ البكاء بقلبٍ منسحقٍ أثناء مخاطبة الله، وصوتٌ يتناهى (في حديقة ميلانو): "خذ واقرأ! خذ واقرأ". وفتح أوغسطين على كتاب رسائل القديس بولس، وقرأ في فصل (رومية 13:13): "...لا تهتمّوا بأجسادكم لقضاء شهواتكم". وباهتدائه، استعاد أوغسطين توازنه، وكرّس جسده لخدمة الكنيسة. ما يستخلصه أونفري من مثال أسقف هيبون أنَّ الجسد ماكينةٌ لإنتاج النظام، لكن يسبق ذلك (أحياناً) اضطراباتٌ شديدةٌ، وتقلّباتٌ حقيقيةٌ في الأحوال، وبهذا يمتلك الجسد آليةً رائعةً لإنتاج المعنى [39].

حلم وشطح

  • اختزن الجسم الحي الصراعات، وفي اللحظة المناسبة حسم أمرها
    اختزن الجسم الحي الصراعات، وفي اللحظة المناسبة حسم أمرها

يعزو رامون لول (1235 - 1315) انصرافه لدراسة اللغة العربية إلى حلمٍ راوده في ظلِّ شجرةٍ، وفيه يقرأ مخطوطات بهذا اللسان [40]. ولا ننسى ديكارت وأحلامه الثلاثة في العام 1619. وفي محاولةٍ لتفسيرها من جانب كاتِبي سيرته، بمؤازرةٍ من رائد التحليل النفسي، سيغموند فرويد نفسه، فإنَّ التمثيلات أتت نتيجةَ صراعٍ داخليٍّ، وبعضها يحيل إلى تمثيلات جنسية شغلت مخيال الشاب الوحيد. ولم يتخلّص منها في هذه الليلة المشهودة إلا في صورة أحلامٍ لحلول رياضية شائكة، ومرةً أخرى يهرع الفكر لعلاج الشهوات اللحمية [41].

بدوره، شهد بليز باسكال (1632 - 1662)، الفيلسوف ذو البعد الصوفي، والجسد المطبوع بالمرض والآلام، في ليلةٍ موصوفةٍ لحظةً فلسفيةً ديونيزيةً خاصّة. ففي مساء 23 تشرين الثاني/نوفمبر من العام 1654، بين الساعة العاشرة والنصف والثانية عشرة والنصف، عانى باسكال من حالةِ انخطافٍ (شطح) قصوى. فخطَّ على الورق مشاعره وانفعالاته، وما ألهتمه هذه الدقائق بكثافتها من حقائق بدت جليّةً له: الحقيقة ليست في جانب العقل وإله الفلاسفة، ولكنّها في جانب الإيمان والوحي والأناجيل. وفي هذه الليلة مات باسكال، العالم الرياضي، ليحيا باسكال، صاحب "الأفكار".

لقد اختزن الجسم الحي الصراعات، وفي اللحظة المناسبة حسم أمرها [42]. وحاول الباحث الماركسي لوسيان غولدمان تقديم تفسيرٍ لحالة باسكال، فرأى في حياته حتى الليلة المشهودة تناقضاً بيِّناً بين الأولوية المعطاة في المبدأ للدين، والحقيقة العملية لحياة مكرَّسة للعالم [43] .

عانى بليز باسكال من حالةِ انخطافٍ (شطح) قصوى. فخطَّ على الورق مشاعره وانفعالاته، وما ألهتمه هذه الدقائق بكثافتها من حقائق بدت جليّةً له.

رغب باسكال حتى بمعاقبة الجسد، لأنَّه متمرِّد على النفس ويَعوق أيَّ مخاطبةٍ أصيلةٍ مع الله. بيد أنَّ أونفري يملك تفسيره الخاصّ لحالة الانخطاف التي عاينها الفيلسوف، فبرأيه أنَّ الجسد تلقّى التجربة الصوفية بمثابة "تمتّع"، في غيابِ أيِّ غبطةٍ أخرى قد تحمل طابعاً وثنياً، فهنا يقدِّم الله الذريعة للابتهاجات الملموسة. والاخطاف باسم الله يُنتج نفس الآثار، ويحمل نفس الأعراض، لما يُنجز باسم الجسد. وفي لحظة الهروب من الجسد يجري إحياؤه [44].

مبدأ المتعة

  • وجد لاميتري في اللذة المبدأ السامي عند الرجال والآلهة
    وجد لاميتري في اللذة المبدأ السامي عند الرجال والآلهة

مع الفيلسوف لاميتري [45] (1709 - 1751)، المادي الجذري، صاحب النظرية الفلسفية الأساسية القائلة إنَّ "الإنسان آلة"، وهو عنوان كتابه الشهير المنشور في العام 1748، والذي يقول فيه إنَّ الإنسان "آلةٌ تقوم بنفسها بتركيب نوابضها، وهي صورةٌ حيّةٌ للحركة الدائمة. وتتعهّد الأغذية برعاية ما تقوم الحرارة بإثارته"[46]، حتى ليُظن ، أو يُقال "إنَّ الروح تسكن في المعدة".

في كتابه "فن التمتّع" (نشر في العام 1751)، نجد أنفسنا في حضرة رجلٍ لا يرى إلا الجسد، ولا يهتمُّ بغير متعه ومسرّاته. هاوٍ للنبيذ وزِيرَ نساء، ذوّاقةَ طعامٍ حتى البطنة. وبطبعه كان متمرِّداً على الجماعات وعلى النظام، وفي عُرفه أنّه لا حاجةَ إلى الله، ولا إلى حروب التوسّع والأديان.

وجد لاميتري في اللذة المبدأ السامي عند الرجال والآلهة، حيث يتضاءل أمامها كلُّ شيءٍ، حتى العقل[47]. وعقيدته بسيطة: "الإنسان آلة"، ووحده ديونيزوس هو السيد. وكتابه الرئيس "فن التمتّع" مديحٌ في الحب واللذة، ونشيدٌ للطبيعة والمباهج الحسّيّة والأكل، وهو موجَّهٌ بالتحديد إلى اللائذين بهما. انشغل لامتري بفكرة السعادة والحق فيها، فألّف كتاب "خطابٌ حول السعادة" (1748)، وفي عُرفه أنَّ الإنسان خُلِقَ ليكون سعيداً في كلِّ أحوال حياته.

وجد الفيلسوف لاميتري في اللذة المبدأ السامي عند الرجال والآلهة، حيث يتضاءل أمامها كلُّ شيءٍ، حتى العقل.

ويعزو بعضهم مؤلفاته اللاحقة، وهو في ضيافة فريدريك الثاني، ملك بروسيا ، إلى رغد العيش الذي جعله يعطي أفضل أفكاره. فعَكَست كتاباته حبَّ الحياة والتمتّع بها، أو لنقل سيرته نفسها. وقد أتى موته بسبب عسر هضم مِصداقاً لنهمه، فسخر منه حُسَّاده، ونسبوا موته المبكّر إلى حسِّيته وإلحاده. ولم يكن لامتري وحيداً في مسلكه هذا، فهو ابن القرن الثامن عشر، الذي كان عصر "تحرر" بالمعنى الواسع للكلمة، وعصر صوغ رؤيةٍ جديدةٍ للعالم: عقلاً جديداً، وصِلةً من نوعٍ آخر للإنسان مع الله، وللإنسان مع المادة [48].

لذّة ورغبة 

  • يرى دو ساد أنَّ المتع الأصيلة هي تلك التي تترافق مع الأفكار
    يرى دو ساد أنَّ المتع الأصيلة هي تلك التي تترافق مع الأفكار

عُد المركيز دو ساد (1740- 1814)، نظير لامتري، فيلسوف متعة الجسد بامتياز. فجعل الأهواء مؤسِّسة للنظام الجديد، حيث الرغبة هي القانون الوحيد والقاهر: "فلتَصنع رغباتنا قوانيننا الوحيدة" [49]، والأساس لذات الجسد، كما في "أيام سادوم المئة والعشرون"، المكتوب في العام 1785 في سجن فنسان، إذ يقول إنّنا نتلذّذ لأنَّ لدينا جسداً، ومن خلال تشغيلنا إياه حتى أقصى استخدامٍ له، وليس لأيِّ شيءٍ آخر. وهكذا فإنَّ السعي إلى السعادة من طريق الفسق، هو جسديٌّ حصراً وماديّ.

ويرى دو ساد أنَّ المتع الأصيلة هي تلك التي تترافق مع الأفكار، حتى لو كانت هذه الأخيرة، بل خصوصاً إذا كانت، أفكاراً سيئةً. والقانون الوحيد الذي يُطاع هو إشباع الرغبة. وهذا لا يمنع اتّباعاً دقيقاً لبعض القواعد، التي من دونها تصبح ملذّات المرء عديمة القيمة، ومنها قاعدة: "إذا أردتَ أن تتمتّع، سيطر أولاً على رغبتك".

 ويدعو المركيز إلى قطع الربط التلقائي بين اللذة والرغبة، وتعلّم ممارسة اللذة ضد الرغبة، ويرى بيار ماشيري أنَّ ثمة سياسة للرغبة لها علاقة بالنظام الاجتماعي [50]، ويضع دو ساد قاعدةً قوامها: إذا أردتَ أن تتمتّع أقصى تمتُّعٍ، سيّطر أولاً على رغبتك [51]. 

يرى دو ساد أنَّ المتع الأصيلة هي تلك التي تترافق مع الأفكار، حتى لو كانت هذه الأخيرة، بل خصوصاً إذا كانت، أفكاراً سيئةً.

وذهب البعض إلى أنَّ عمل دو ساد كان يؤذن بظهور "المجتمع الرأسمالي الإنتاجوي الجديد. ويعكس عمله الأدبي الفريد والغريب الأطوار أيضاً آلويّة الإنتاج الصناعي، بتنظيماته وتمثلاته ورموزه ومختلف صور العقلانية التي تسكنه، والتي يمكنها أن تؤدّي إلى تحطيم فضاءات الحرية والإنسانية. إذ يبني هذا المؤلِّف شكلاً من أشكال الاقتصاد السياسي للإنتاج الجسدي" [52]، بحثاً عن المردودية الأفضل.

يقول كورفال أحد أبطال دو ساد في "أيام سادوم المئة والعشرون": إنَّ ما يهمُّ هو المبادىء، فهي تُملي علينا ما نفعل و"على الفلسفة، وهي مستقلة، أن تبقى هي ذاتها دائماً"[53]، ولا يترك دو ساد الرغبة منفلتةً، بل هي مقيَّدةٌ وتخضع لسيطرةٍ منظَّمةٍ، ويقول: "علينا أن نكون عقلاء: عندما ننتظر هكذا ملذاتنا، فإننا نجعلها أكثر متعةً... صبراً، وسترى أنَّ كلَّ شيءٍ سيأتي مع مرور الزمن" [54]. 

يبدو مشروع كاتب "الفلسفة في المخدع "، في نظر الباحث الفرنسي بيار ماشيري، محاولةً للمصالحة بين المتعة والمعرفة، ما يطرح نوعاً من المعادلة بين معرفة الفرد لمتعته وإشباع نفسه بمعرفتها [55].

وقد جعل الفرنسي جورج باتاي (1897 - 1962)، وريث المركيز دو ساد، من الجسد موضوعه الأثير، وذلك حال تعرُّفه إلى نصوصٍ من العصر الوسيط، حملت عنوان "المتصوّف اللاتيني"، فيها دعوةٌ إلى الإعراض عن الجسد وشهواته المميتة، فانسحر بالجسد "واستهواه حتى الثمالة في إنسانيته وشيئيته، في انفلاته وكبته"، فعمل على "إدراك كنهه، متوسِّلاً كلَّ السبل، بما في ذلك الفحشاء والرذيلة، التي عاشها ورواها في كتاباته" [56]، وتابع وضع الذات العاقلة ووجدها في وضعية فلسفية فريدة، ورآها "تمارس فكرها في لصوق حميم مع الجسد، بعيداً من روحانية ديكارت، في استلهام نيتشوي واضح" [57].

اعتراف جسد

في عصر الأنوار المشعّ، أبرز جان جاك روسو (1712- 1778) القران بين اللحم والمعرفة، فنعثر في  كتاب "الإعترافات" على جسدٍ يفكِّر أثناء النُّزهات، مسكوناً بانفعالاتٍ شديدةٍ، ستتوالى على وقعها الكشوفات الذهنية، وتصير كتباً وآراء: "بات جسد روسو لغةً"، كما يقول أونفري [58] .

ميدان الحرب والسلام

  • رأى نيتشه أن الجسد العضوي يفكر
    رأى نيتشه في "إرادة القوة" رسوخ الاعتقاد بأنَّ الجسم العضوي يفكّر

يهاجم الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844- 1900) المثال الزُّهدي، الذي يمثّله الكاهن الزاهد المعادي للحياة نفسها، والحاقد على الغريزة، والمستخدِم للقوة "من أجل إنضاب نبع القوة وأصلها"، أي الجسد، لذا "نجد النظرة المبغضة القبيحة تنقم حتى على تفتّح الجسد ورفاهه، وبشكلٍ خاصٍّ على أشكال التعبير عن هذا التفتّح والرفاه، على الجمال، على الفرح.

في حين أنَّ الأمور الخائبة، والمحبّطة، كالمعاناة والمرض والبشاعة والأذى الذي يلحق بالنفس بصورة إرادية والتشويه، وإذلال الجسد وإماتة الرغبات والتضحية بالذات، هي أمورٌ يجري البحث عنها، كما لو أنَّها مدعاة للنشوة والمتعة"[59].

وإذ ينتصر صاحب "أفول الأصنام" للجسد، فإنّه يخاطب أولئك المستهزئين به، في "هكذا تكلّم زرداشت"، على النحو التالي: "إنني بأسري جسداً لا غير، وما الروح إلا كلمة أُطلِقت لتعيين جزءٍ من هذا الجسد. وما الجسد إلا مجموعة آلات مؤتلفة للعقل، ومظاهر متعددة لمعنى واحد. إن هو إلا ميدان حرب وسلام، فهو القطيع والراعي.

إنَّ آلة جسدك إنّما هي أداة عقلك الذي تدعوه روحاً، أيها الأخ، إن هي إلا أداة صغيرة وألعوبة صغيرة لعقلك العظيم (...)، فإنَّ وراء إحساسك وتفكيرك، يا أخي، يكمن سيد أعظم منهما سلطاناً، لأنّه الحكيم المجهول، وهذا الحكيم إنّما هو الذات بعينها، المستقرّة في جسدك، وهي جسدك بعينه أيضاً (...). إنَّ الجسم المبدع أوجد العقل لخدمته، كساعد يتحرّك بإرادته" [60].

فالجسد عند نيتشه يقبع في أصل التفكير، ويضطلع بعبء إشاعة النظام. ورأى نيتشه في "إرادة القوة" رسوخ الاعتقاد بأنَّ الجسم العضوي يفكّر، وأنّ كلَّ الأشكال العضوية تشارك في التفكير والإحساس والإرادة. وبالتالي، فالدماغ ما هو إلا جهازٌ كبيرٌ للتركيز، يُفني طاقاتٍ كبيرةً، ويُفرز آثاراً عظيمةً، ومن آياته الحلم، كإحدى التجليات الداخلية لهذه الطاقات، والأحلام مبشِّرة عند عددٍ كبيرٍ من الفلاسفة. كما نظر إلى التخلّي عن الرغبات الجسدية، تحت سيّادة القيّم السقراطيّة والمسيحية، نموذجاً لغرائز الانحطاط والضعف، وسبباً من أسباب الزيف، كما رأى أنَّ أخلاقيات المعروف والرحمة هي من وسائل "التأسّي التي تستعملها الكائنات المعطوبة جسدياً" [61]. ويصف بالمرضى والمحتضرين "أولئك الذين كانوا يحتقرون الجسد والأرض" [62]، ويضيف أنَّ ابتداع مفاهيم النفس الخالدة والروح  هي "لتحقير الجسم وجعله مريضاً"[63].

الجسد عند نيتشه يقبع في أصل التفكير، ويضطلع بعبء إشاعة النظام. ورأى نيتشه في "إرادة القوة" رسوخ الاعتقاد بأنَّ الجسم العضوي يفكّر، وأنّ كلَّ الأشكال العضوية تشارك في التفكير والإحساس والإرادة.

عاش نيتشه في ظلال إله الخمر، ديونيزوس، وتعاطف معه في مواجهة المثال التقشفي، وإليه يُنسب القول إنَّ الفلسفة في المقام الأول هي "اعتراف جسد"، ويعزو الإلهام إليه أيضاً. وفلسفته نفسها وُلِدت من رحم الألم والمعاناة، وحتى أنّه يعتبر المفكرين المرضى هم الأكثر شيوعاً في تاريخ الفلسفة، ويتساءل إلامَ يصير الفكر عندما يخضع لضغط المرض، ونحو أيِّ شيءٍ "يقود الجسم المريض"؟ ويجيب عن ذلك في "العلم الجذل" بأنه يقود الذهن "ويدفعه بلا وعي نحو الشمس، نحو الهدوء، نحو العذوبة، نحو الصبر ونحو الأدوية، بمعنى ما نحو التعزية" [64]، ويتساءل صاحب "أفول الأصنام" عمّا إذا لم تكن الفلسفة بالضرورة، وبعد كل حساب، "عبارة عن تأويلٍ للجسد، عن سوءِ فهمٍ للجسد"، ويكتب:

ها أنا مضطجعٌ، مريض الأحشاء

تفترسني الفسافس

وهناك، لا يزال ضوء وضجيج

أسمعهم يرقصون...

كان عليها، في هذه الساعة

أن تنساب إليَّ.

أنتظر كالكلب

ما من إشارة تأتي[65] .

المصادر والمراجع

[1] نقلاً عن مقدمة منى البحر ونجيب الحصادي، مترجميّ كتاب كرس شلنج، الجسد والنظرية الإجتماعية، (الإمارات العربية المتحدة، كلمة للنشر، والقاهرة، دار العين للنشر، 2009)، في 344 صفحة. ص 14.

 [2] M. Merleau –Ponty, Phénoménologie de La Perception, (Paris, Gallimard, 1945), P. 188.
[3] Michela Marzano, LA Philosophie Du Corps, (Paris, ed. PUF, coll. Que sais- je?, 2 edition, 2012.  P. 5.

[4] كرس شلنج، الجسد والنظرية الإجتماعية، ترجمة منى البحر ونجيب الحصادي، (الإمارات العربية المتحدة، كلمة للنشر، والقاهرة، دار العين للنشر، 2009)، في 344 صفحة. ص 19.
[5] منى فياض، فخ الجسد: تجليات، نزوات وأسرار، (بيروت، منشورات رياض الريس، 2000). في 336 صفحة.
[6] دافيد لو بروتون، أنتروبولوجيا الجسد والحداثة، ترجمة محمد عرب صاصيلا،(بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية، 1997)، 252 صفحة. ص 11 و12.
[7] مذكور عند هنري ميلر، رامبو وزمن القتلة، (دمشق – بيروت، دار المدى، 2014)، في 127 صفحة. ص 74.
[8] المصدر نفسه، ص 83.
[9] عبد الكبير الخطيبي، في الكتابة والتجربة، ترجمة محمد برادة، (بيروت، دار العودة، 1980)، ص 16. نقلاً عن د. محمد نور الدين أفاية، في النقد الفلسفي المعاصر، مصادره الغربية وتجلياته العربية، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2014)، في 288 صفحة. ص 211.
[10] مذكور عند أفاية، مصدر سابق، ص 217 – 218.
[11] المصدر السابق، ص 229.
[12] نقلاً بتصرف عن حسني إبراهيم عبد العظيم، مفاهيم سوسيولوجية حديثة، (1) "صورة الجسد"، من شبكة الإنترنت.
[13] "في كواليس الهيمنة، سوسيولوجيا بيار بورديو"، ضمن كتاب، علم الإجتماع: من النظريات الكبرى الى الشؤون اليومية، أعلام وتواريخ وتيارات. ترجمة د. إياس حسن، (دمشق، دار الفرقد،  2010)، في 384 صفحة. ص 212. (من ص 207 الى ص 221).
[14] من محاضرة علي حرب حول "إشكالية الجسد  في الخطاب العربي  - الإسلامي"، في مدينة مستغانم بمناسبة اليوم الوطني للفلسفة في الجزائر، المنعقد في 25 ابريل/ نيسان 2012، وقد نشر أبرز نقاطها في مدونته بتاريخ 4 حزيران/ يونيو 2012.
[15] منير الحافظ، الوعي الجسدي: الإشارات الجمالية في طقوس الخلاص الجسدي، (دمشق، دار النايا ودار محاكاة للدراسات والنشر، 2012)، 204 صفحات. ص 11.
[16] د. علاء مشذوب، الجسد: صورة ... سرد، (بغداد، دار عدنان، الإمارات العربية المتحدة، دار صفحات، 2014)، في 224. ص 25.
[17] سعيد بنكراد،سيميائيات الصورة الإشهارية: الإشهار والتمثلات الثقافية، (الدار البيضاء، دار إفريقيا الشرق، 2006)، في 199 صفحة، ص 16.
[18] الجسد صورة...سرد، مصدر مذكور، ص 33.
[19] سهى نعجة، "منازل الجسد الأنثوي في الثقافة العربية: مقاربة سوسيولغويّة"، مجلة إضافات (لبنان)، العددان 26 – 27 (ربيع – صيف 2014)، ص 256. (من ص 255 الى ص 267)، تصدر عن الجمعية العربية لعلم الإجتماع.
[20]  المصدر نفسه، ص 256.
[21] أبي هلال العسكري، الفروق اللغوية، ص 92. نقلاً عن د. هجران عبد الإله الصالحي، فكرة الجسد: من الموروث الحضاري الى فلسفة نيتشه، (دمشق، دار الفرقد، 2014)، 311 صفحة. ص 26.
[22] أبو البقاء الكفوي، الكليات، ص 344، مذكور في فكرة الجسد، مصدر سابق، ص 26.
[23] المصدر نفسه، ص 26.
[24]  المصدر نفسه، ص 30.
[25] ديكارت، تأملات في الفلسفة الأولى، ترجمة وتقديم عثمان أمين، (القاهرة، دار المعارف، 1951)، ص 76. مذكور في فكرة الجسد، مصدر سابق، ص 63.
[26] فكرة الجسد، مصدر مذكور، ص 67.
[27] د. جمال زعيتر، الجسد: رموز ودلالات، (بيروت، دار العودة، 2014)، في 398 صفحة. ص 19.
[28] Michel Onfray, Abrégé Hédoniste, (Paris, Ed. Librio. Coll. Idées. 2012), 75 P. P. 13.
[29] Ibid, P. 14.
[30] Michel Onfray, L’art De Jouir, pour un matérialisme  hédoniste,(Paris, biblio, essais, 1991), 279 Pages.
[31] La Mettrie, L’art de Jouir, (Paris, ed. Mille Et Une Nuits, 1979), 69 pages.
[32] Michel Onfray, L’art De Jouir, OP.cit.p. 27.
[33] Ibid, P. 28.
[34] Ibid, p. 33.
[35]   إعترافات القديّس أغوسطينوس، نقلها الى العربية الخوري يوحنا الحلو، (بيروت، دار المشرق، ط5، 1996)، 327 صفحة. ص 105.
[36]  المصدر نفسه، ص 154.
[37]  المصدر نفسه، 159.
[38]  المصدر نفسه، ص 160.
[39] Michel Onfray, L’art De Jouir, OP.cit.p36.
[40] Ibid, P. 37
[41] Ibid, P. 38.
[42] Ibid, p. 48.
[43] Ibid, P. 49.
[44] Ibid, P. 52 – 53.
[45] فيلسوف مادي وطبيب فرنسي، يعد أحد رواد التنوير في القرن الثامن عشر، أشهر  اعماله الرئيسة هي: الانسان آلة، مذهب أبيقور. وقد وقع ضحية كل من السلطات الكهنوتية والدنيوية، وتقوم تعاليمه على فيزياء ديكارت والنزعة الحسية عند لوك. دعا الى الحكم المطلق المستنير . وكانت نزعته الالحادية نزعة محدودة، يحبذ ابقاء الدين وقصره على عامة الناس. وقد مات،جوليان أوفري دو لاميتري، ممجد الملذات الحسية، بعد تناوله كميات ضخمة من الباتيهات المحشوة الدسمة، كان السفير الفرنسي تيركونيل قد أرسلها له كنوع من الشكر والامتنان لأنه عالجه من مرض ألم به، فما كان من لاميتري إلا أن التهمها جميعاً، فأصيب بالحمي والهذيان، ومات فوراً.

[46] Julien Offroy de La Mettrie, L’Homme Machine, (Paris, Ed. Folio1999).p. 10.
[47] La Mettrie, L’art de Jouir, (Paris, ed. Mille Et Une Nuits, 1979), 69 pages.p. 7.

[48] Ibid, postface de Janine Berder, P. 57.
[49] الإقتباس من بيار ماشيري، "ساد ونظام الفوضى"، ضمن كتاب  بم يفكر الأدب، ترجمة جوزيف شريم  (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2009)، 376 صفحة. ص 226 . 
[50] المصدر السابق، ص 229.
[51] المصدر السابق، ص 242.
[52] بوخريسة بوبكر،  (كاتب جزائري، يُدرس في جامعة باجي مختار – عنابة)، " ساد: المتعة الإنتاجوية وجسد الآخر. النزعة السادية والروح الرأسمالية من فرويد الى تايلور وبنتام"، كتابات معاصرة (لبنان)، العدد 74، 2009. ص 95. (من ص 95 الى ص 103).
[53] الإقتباس من بيار ماشيري، "ساد ونظام الفوضى"، ضمن كتاب  بم يفكر الأدب، ترجمة جوزيف شريم  (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2009)، 376 صفحة. ص 244 . 
 [54]  الإقتباس من بيار ماشيري، "ساد ونظام الفوضى"، المصدر السابق ، ص 255.
[55] المصدر نفسه، ص 251.
[56] مارلين كنعان، "جورج باتاي: الجنون المتنقل بين الفلسفة والقداسة"، ضمن كتاب يحمل العنوان نفسه، بمشاركة مجموعة من الباحثين العرب: عبد العزيز بن عرفه، محمد علي الكردي وعمر مهيبل. في إطار "دراسات عربية" وقد عده ناشروه على الشبكة العنكبوتية أول كتاب رقمي عربي، لذا: لا تاريخ و لا مكان للنشر. ص 12. والجدير ذكره أن كنعان، أستاذة الفلسفة والحضارات في جامعة البلمند قد أنجزت أطروحتها عن باتاي في الجامعة اليسوعية عام 1989، فدرست "باتاي واللا-لاهوت الصوفي" (Georges Bataille et l'Athéologie mystique).
[57] المصدر نفسه، ص 22. (النص من ص 8 الى ص 24).
[58] Ibid, P. 60 – 61.
[59] فريدريك نيتشه، أصل الأخلاق وفصلها، ترجمة حسن قبيسي، (بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ط 2، 1983)، 157 صفحة. ص 115.
[60] فريدريك نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، أنهى اللبناني  فليكس فارس  ترجمته في الاسكندرية في العام 1938، (بيروت، المكتبة الأهلية، د.ت)، 381 صفحة. الصفحات 55 و 56 و57.
[61] نيتشه، أصل الأخلاق وفصلها، مصدر مذكور، ص 131.
[62] نيتشه، نقيض المسيح، ترجمة علي مصباح، (بيروت – بغداد، دار الجمل، 2011). ص 29. مذكور في، فكرة الجسد، مصدر مذكور، ص 156.
[63] نيتشه، هذا الإنسان، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، (بيروت، دار التنوير، 2009)، ص 183. نقلاً عن، فكرة الجسد، ص 162.
 نيتشه، العلم الجذل، ترجمة سعاد حرب، (بيروت، دار المنتخب العربي، 2001 )،  271 صفحة. ص 8.[64] 
[65]  المصدر نفسه، ص 225.