جون شتاينبك: الكتابة العظيمة أمٌّ نستشيرها

كتب عن المهمشين وفضح كذبة "الحلم الأميركي". في ذكرى رحيله.. من هو جون شتاينبك؟

  • جون شتاينبك (رسم: ماريا نصر الله)
    جون شتاينبك (رسم: ماريا نصر الله)

حين نتعرف إلى كاتب ما، نذهب بعيداً في ما يقترحه من جماليات للكتابة والحياة، فنبحث عمّا تطرحه كتاباته من عمق إنساني وموضوعات نعلم أنه، بطريقة طرحها، يجعلنا نتعرف إليه أكثر.

ليست الكتابة لهواً أو ترفاً بالنسبة إلى الروائي الأميركي جون شتاينبك (1902 - 1968)، فقد كان من صنف الروائيين المنشغلين بالكتابة والحياة والهموم الوطنية والاجتماعية. الكتابة في فكره وحياته كانت وقود الحياة كما يقول في إحدى يومياته: "الكتابة العظيمة هي مادة نتكئ عليها لنواصل حياتنا. هي أم نستشيرها في أمورنا كما كنا نفعل صغاراً. هي حكمة نستخلصها من الحياة إذا تعثرنا. هي قوة نستعين بها على الضعف. هي شجاعة مجسدة تشد من أزرنا في حربنا ضد الجبن والخوف".

شتاينبك المولود في بلدة صغيرة في كاليفورنيا حمل حباً عميقاً للوطن، وخصوصاً موطنه في وادي ساليناس. صب جهوده على الكتابة بعدما رسب في جامعة ستانفورد عام 1925، فبدأ بكتابة الروايات التي ما زال صداها باقياً حتى اليوم، ومنها "اللؤلؤة" و"شرقي عدن" و"فئران ورجال"، ولكن أشهرها كان "عناقيد الغضب".

وضعت أعمال شتاينبك على قدم المساواة مع إرنست همنغواي ووليام فوكنر. وعلى الرغم من أنه لم يكن كاتباً مسرحياً، فإنه كان واسع الاهتمام بالسينما، كما كان فوكنر نفسه، وشارك في كتابة الكثير من السيناريوهات لأفلام سرعان ما أصبحت علامة فارقة في تاريخ السينما الأميركية.

شتاينبك وهمنغواي 

  • ارنست همنغواي
    إرنست همنغواي

ربما تأثر شتاينبك بهمنغواي، لكن علاقتهما كانت غريبة بعض الشيء. لم يلتق الكاتبان شخصياً سوى مرة واحدة عام 1944، على الرغم من وجود الكثير من الأصدقاء المشتركين. لم يعبر الكاتبان عن رأيهما بأعمال بعضهما البعض، لكن شتاينبك قرر أن يكتب رسالة إعجاب بأسلوب همنغواي عام 1939 عن قصة الأخير "الفراشة والدبابة".

قادت هذه الرسالة إلى لقائهما شخصياً في نيويورك بطلب من همنغواي. لم يكن الأخير متأثراً بطريقة الكاتب الشاب آنذاك، ولم يقل شيئاً عن شتاينبك باستثناء تعليق صغير عن عدم إعجابه بنهاية روايته "عناقيد الغضب". 

الكتابة عن المهمشين 

  • لقطة من فيلم
    لقطة من فيلم "عناقيد الغضب" عام 1940

عكست "عناقيد الغضب" ما يفكر فيه شتاينبك عن الكتابة كوسيلة لإبداء الرأي في القضايا الاجتماعية والإنسانية. هكذا، شكلت "عناقيد الغضب" محاكمة للمجتمع الطبقي، فأثارت حين نشرها موجة من الغضب، وعرّضت صاحبها للتهديد على مدار سنوات، قبل أن يستلم جائزة بولتيزر عام 1940.

يسرد شتاينبك في هذه الرواية حكاية أسرة مهجرة من أوكلاهوما إلى كاليفورنيا تصطدم بالواقع والفقر. وفي وصفه حياة هؤلاء المهمشين، يشعرنا شتاينبك بأن الكتابة اكتشاف لواقع آخر لم يكن يسلط عليه الضوء، فنعيش مع شخصياته ذلك الواقع. كان شتاينبك قد عايش ذلك الواقع يوماً، فهو واحد من هؤلاء المهمشين، وسبق أن عمل سائساً في حظيرة للدواب، وقاطفاً للفواكه في إحدى المزارع. في الحصيلة، كان شتاينبك أحد الذين عانوا الظلم الطبقي الذي ميز المجتمع الأميركي. 

ما زال سؤال "عناقيد الغضب" يطرح مجدداً. وهنا تبرز قوتها. يقول شتاينبك الحائز على جائزة نوبل 1962 إن "الرواية هي خدعة نفسية، لكن كل أساليب الروايات هي خدعة نفسية".

ربما تكون الخدعة حقيقية في أن تجعلنا نشعر بصدق وصفها للألم، فقد حظرت الرواية، ولاقت معارضة شديدة، نظراً إلى تصوير "التعاطف الشيوعي"، لكنَّ شتاينبك يقول في حديث عنها وعن صدقها: "حاولت أن أكتب هذا الكتاب بالطريقة نفسها التي نعيش فيها هذه الحياة، لا بالطريقة التي تكتب فيها الكتب". 

هكذا يحيلنا شتاينبك إلى قراءة الواقع الصريح من دون أن يقع في أي تجميل، كأنَّ الكتابة مهمة صعبة بالنسبة إلى الكاتب الذي ينظر إلى الحياة بعمق. مع الوقت، تحولت هذه الرواية إلى فيلم أخرجه جون فورد وجعله من العلامات الفارقة في السينما الأميركية.

كذبة "الحلم الأميركي"

  • لقطة من فيلم
    لقطة من فيلم "عن الفئران والرجال" عام 1992

في الوقت الذي كانت روايات شتاينبك تنبع من الحياة، فقد كان يستلهمها من قراءاته أيضاً. هكذا استوحى "عن الفئران والرجال" من قصيدة للشاعر روبرت بيرنز يقول فيها: "أفضل خطط الفئران والرجال غالباً ما تنحرف ولا يتحقق المرجو منها"، أو كما يقول المتنبي: "تجري الرياح بما لا تشتهي السفن". هكذا يسرد شتاينبك رواية عن الحلم، وكيف يجعله الواقع صعباً وشائكاً، ولكن لماذا الحديث عن الأحلام والكتابة عنها؟ هل هو "الحلم الأميركي"؟ ربما تجيبنا الرواية عن هذا السؤال.

يسرد شتاينبك في هذه الرواية قصة جورج وليني؛ الرفيقين المختلفين عن بعضهما البعض. جورج الذكي وطويل القامة، وليني الضخم الجثة وغير المتزن من الناحية العاطفية. يعتبر جورج نفسه وصياً على رفيقه ليني، لأن إعاقته الذهنية جعلته يعيش بعقلية طفل.

كان جورج يحلم بأن يمتلك مزرعة في يوم ما، ويتحدث عن هذا الحلم أمام صديقه ليني. ظل يكرر هذا الحلم على مسامع صديقه حتى يمتلئ بالأمل، وليجمعا بعض المال في عملهما الجديد، لأن الاستمرار في العمل هو الذي سيوفر لهما ثمن المزرعة، لكن الحلم شيء، والواقع شيء آخر، فقد انتهت الرواية بالثأر من ليني لأنه قتل امرأة عن طريق خطأ، فكشفت مأزق الإنسان في بحثه عن خلاصه الفردي وأحلامه، فمن الصعب بناء بيوت من الأحلام من دون الانتباه الى مآزق الواقع والمسارات التي يجعلنا نتوه فيها. 

هكذا، شكلت الأحلام في رواية شتاينبك وسيلة لفضح كذبة ما يسمى "الحلم الأميركي". وعلى الرغم من أنه لم يجعل جورج وليني يحققان أحلامهما، فإن صداقتهما هي التي بقيت، وكأنه يريد أن يشير إلى أن هذا الحلم غير ممكن في ظل الواقع الصعب.

لم يكن شتاينبك وحده من قرر إجراء محاكمة لــ"الحلم الأميركي" وبعده عن الواقع، إذ إنَّ هناك روايات أميركية أخرى تحدثت عنه، كرواية "غاتسبي العظيم" لسكوت فيتزجرالد التي قوضت أيضاً ذلك الحلم وانتقدته.

لكنْ في رواية شتاينبك يبدو سؤال الحلم مرتبطاً بالصداقة والإنسانية، لكونها هي التي ستنقذ هؤلاء الأفراد في نهاية المطاف.

والعالم الذي نحيا به، كما يصوره شتاينبك، لا يمكن العيش به لمجرد الحلم، لأنه يرسم لنا خارطة عن مجتمع طبقي يهمّش الفقراء ويزدريهم.

نصائح للكتّاب: حاولوا نسيان قرائكم المفترضين

  • جون شتاينبك خلال تسلمه
    جون شتاينبك خلال تسلمه "جائزة نوبل للأدب" عام 1962

بعد تسلمه "جائزة نوبل للأدب" عام 1962، قال شتاينبك عن مهمته كروائي: "إن المهمة الأساسية للكاتب لن تتغير، فواجبه أن يظهر أخطاءنا المؤلمة وفشلنا في التركيز على أحلامنا الجريئة بهدف الإصلاح". 

أما عن نصائحه للكتّاب، فقال في إحدى مقابلاته: "حاول أن تنسى قراءك المفترضين، ففي المقام الأول، القراء الذين لا تعرف وجوههم ولا أسماءهم، سوف يثيرون ذعرك حتى الموت. وفي المقام الثاني، وبعكس المسرح، ينبغي أن يكون جمهورك قارئاً واحداً. لقد وجدت أحياناً أن من المفيد جداً أن تنتقي لنفسك شخصاً واحداً؛ شخصاً واحداً وقارئاً حقيقياً تكتب له".